خطاب القائد العام للجيش بين فقه الحرب والاستتابة وفقه البناء الوطني
تاريخ النشر: 9th, February 2025 GMT
خطاب القائد العام للجيش بين فقه الحرب والاستتابة وفقه البناء الوطني
خطاب النصر المطلق ام رحابة السياسة
ياسر عرمان
قديماً قال نصر بن سيار الكناني "ان الحرب مبدؤها كلام" وأيضاً الحرب أخّرها كلام، وقال أهم استراتيجي حربي ومفكر وفيلسوف ومؤلف أقدم نص تاريخي لاستراتجيات الحرب على مدار الزمان الإنساني وخلّدته سراديب التاريخ العسكري الجنرال الصيني سون تسو (زو) " ان اعظم المعارك هي التي تكسب دون قتال" اي بدلاً من فن الحرب فن السياسة.
هل هنالك جديد في خطاب اليوم للقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان؟ لنحاول قراءته باتزان وعقل وحكمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، بعيداً عن مرارات الحرب التي لحقت اعظم خسائرها بالشعب وبالمدنيين وبالدولة وبالسودان حاضراً ومستقبلاً التي شتت المجتمع وجرفت ذاكرة الدولة، وبعيداً عن من يعفو عن من؟ ومن يحاسب من؟ وفوق غضب الاختلاف والاتفاق وبعيداً عن المواقف الصفرية، دعنا نقرأ خطابه على هدى كتاب إيقاف وانهاء الحرب الذي ترفعه القوى المدنية في بحثها المضني عن السلام وبحث المواطن عن حق الحياة والعودة للمنزل والفضاء المدني والتخلص من عسكرة المجتمع.
في تقييم عسكري محض من واقع تجاربنا السابقة ومعرفتنا اليوم لست مع الفئة التي تظن وتردد في وسائل التواصل الاجتماعي ان المعارك الأخيرة والتي سبقتها بين الجيش والدعم السريع هي انسحابات متبادلة بل هي معارك حقيقية ازهقت كثير من الأرواح، مدنيين وعسكريين وشهدت انتصارات وتقدم حقيقي للدعم السريع في بداية الحرب وفي قتال لا هوادة فيه ثم شهدت انتصارات حقيقية وتقدم للجيش منذ معارك أمدرمان وسنار وهي كذلك معارك حقيقية، والجيش الذي تخلى عن واجبه الأول في حماية المدنيين والدولة نجح في التمسك بمواقعه التي توفر القيادة والسيطرة داخل العاصمة الخرطوم، أولها القيادة العامة التي تشكل رمزيته ونجح في اخراج قائده العام والحفاظ على سلسلة القيادة على مدار انتشار قواته، وفي كل منطقة تحالف فيها مع القبائل والقوى المحلية احتفظ بحامياته، كما هو الحال في بابانوسة والدلنج والفاشر والأبيض وغيرها، ولكن كل ذلك لا يحقق النصر المطلق لأي من الطرفين، ومهما كانت نتائج انتصارات الجيش الحالية فإنها (سقالة) نحو الحل السلمي لا النصر المطلق، ومهما كانت قدرات الدعم السريع في استعادة زمام المبادرة فان كسب الحرب عبر نصر عسكري حاسم غير ممكن وبناءً على ذلك ان يجب ان ترتكز استراتيجية الطرفين نحو الحل السلمي، آخذين في الاعتبار التجارب السابقة الأقل اتساعاً من حرب ١٥ أبريل، وقدرات الطرفين الحالية وتحالفاتهم الداخلية والخارجية الماثلة للعيان، ومن هنا تأتي أهمية هذا الخطاب الذي انتقل من خطاب النصر المطلق إلى رحابة حديث السياسة الذي يقود للبحث عن الحلول.
لا أود أن أعقب على ما قاله قائد الجيش بالتقليل أو التعظيم أو السخرية أو تبادل اللكمات الخطابية، والتساؤل هل الخطاب موجه للسودانيين ام لقمة الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي؟ فالخطاب و حده غير كافي لوقف الحرب ولكنه يفتح كوه من ضوء الحوار وطرح الاسئلة الفعلية والمعقدة، إذا تركنا جوانبه المتعلقة باستتابة الآخرين وعلى رأسهم القوى الرافضة للحرب ولندع جانباً حديث الوثيقة الدستورية وما أدراك ما الوثيقة الدستورية تعديلاً أو الغاءً فهي قد شبعت موتاً منذ انقلاب ٢٥ أكتوبر وكذلك لنترك جانباً الحديث عن التعديلات في هيكل السلطة وتعيين رئيس وزراء من تماسيح بورتسودان، كل ذلك لن يغير من واقع الحرب بل يبدد الموارد والزمن.
ان الحديث عن تقدم والحرية والتغيير ورفع يدها عن المليشيا للترحيب بهما كما ذكر القائد العام حديث من فقه دعاية الحرب ولم يقدم جديد، واقع الأمر هنالك ثلاث قوى على المسرح السياسي اليوم، هي قوى الثورة والتغيير وحركات الكفاح المسلح غير الموقعة، والقوات المسلحة وحلفائها، والدعم السريع وحلفائه، والقوى التي تحتاج ان ترفع يدها عن القطاع الأمني هي قوى الفلول والحركة الاسلامية وعلاقتها ملتبسة بالجيش وتحتاج ان تنهي زواج المصلحة حتى تتحول القوات المسلحة لقوات غير مسيسة وتعكس التنوع السوداني ولا تعادي الحكم المدني الديمقراطي ولا تخوض حروب الريف وتكون مهنية، وبعدها تقطع اي يدٍ سياسية تمتد اليها.
وزع أحد الشباب قبل عدة ايام ويدعي قربه لقيادة الجيش، ورقة بعنوان ( الطريق إلى السلام والاستقرار- نحو الوحدة وتحقيق السلام والتحول الديمقراطي) تحدثت الورقة عن الثوابت الوطنية والمهام الرئيسية وقضايا الانتقال ودور القوات المسلحة، وقد شكلت ملامح حديث القائد مع حلفاء الجيش وهي بداية طبيعية، بدأت بأهل البيت وتتطلب الحكمة والشجاعة للحديث مع خصوم البيت وللتقدم نحو الامام يحتاج القائد العام لحديث مباشر مع الدعم السريع لوقف الحرب، وليس هناك أفضل للجيش من الحديث والجلوس لوقف الحرب وادخار الإمكانيات البشرية والمادية من هذا الوقت، ان اليوم هو اليوم الذي يجب ان يترجم فيه الجيش تقدمه على أرض المعركة إلى تقدم على أرض السياسة فلا يوجد نصر مطلق، ولنذكر صيف العبور وصيف السلام وأخطاء البشير الكارثية، ان مصالح الشعب والبلاد تأتي في المقدمة. والخطوة الأخرى هي الحديث المباشر مع قوى الثورة والتغيير ولطالما أبدت تقدم وقوى الجبهة المدنية استعدادهم لوقف وانهاء الحرب ومن الحكمة ان يلتقي قائد الجيش وزملائه بجميع قوى الثورة والتغيير داخل وخارج السودان للبحث في وقف وانهاء الحرب دون شروط او اشتراطات.
ان شعبنا قد ذاق الأمرين وعانى من الاذلال والقتل والتشريد ودفع ثمناً باهظاً لهذه الحرب وهو لا يستحق ذلك بل يستحق سلام عادل والتنمية والديمقراطية، ان اليوم هو يوم لوقف الحرب وجرائمها ومخاطبة الكارثة الانسانية وتكريس خطاب البناء الوطني بديل لفقه الحرب الاستتابة، والنصر المطلق في السلام وحده لا سواه فلنتجه جميعاً نحو رحابة السياسة وفعلها والاستجابة لمطالب الشعب والحفاظ على وحدة بلادنا وسيادتها.
#نعم_لثورة_ديسمبر
#لا_لحرب_أبريل
٩ فبراير ٢٠٢٥
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: النصر المطلق القائد العام لوقف الحرب
إقرأ أيضاً:
مزمل أبو القاسم.. قراءة في خطاب البرهان!!!..
مزمل أبو القاسم.. قراءة في خطاب البرهان!!!..
ما لا يحتمل الجدال أن هذه الحرب قسّمت البلاد وأهلها إلى فسطاطين لا ثالث لهما، أولهما فسطاط الحق والكرامة المصطف مع جيش الوطن في مواجهة المليشيا الغاصبة، سعياً لإفشال مخطط اختطاف الدولة السودانية وتهجير أهلها ونهب مواردها، وفسطاط التمرد والخيانة الذي يضم المليشيا وداعميها.
* ذاك هو التعريف الحقيقي للمعسكرين اللذين أفرزتهما الحرب، وليس معسكري (نعم للحرب ولا للحرب)، كما تحاول القوى السياسية المتورطة في دعم التمرد تعريف المعسكرين وتصنيفهما، للتمويه على موقفها المخزي من الوطن ومواطنيه.
* نثبت هنا للفريق البرهان أنه عزَّز في خطابه الأخير التعريف الموضوعي للمعسكرين، وإن تسببت إحدى عباراته في جدلٍ شديد، وهي المتعلقة بالإسلاميين تحديداً، عندما قال لهم: (ما تحلموا بأن تعودوا إلى الحكم على أشلاء ودماء الشعب السوداني)؛ لأن الموقف المعلن للإسلاميين يشير إلى أنهم اصطفوا (مع قوى وطنية أخرى عديدة) إلى جانب القوات المسلحة، ودفعوا بعدد كبير من أبنائهم للقتال مع الجيش، وقدموا أرتالاً من الشهداء والجرحى والأسرى في معركة الكرامة، وبالتالي فهم غير معنيين قطعاً بالحديث عن سفك دماء السودانيين وتمزيق أشلائهم في هذه الحرب تحديداً، بقدر مساهمتهم في مساندة جيشٍ قوي، أثبتت هذه الحرب الضروس أنه عصيٌّ على الانكسار.
* بخلاف ذلك لم يحوِ خطاب البرهان ما يسوء الإسلاميين، سيما وأنه حفظ لهم حقهم الدستوري في أن يظلوا موجودين في الساحة السياسية بلا عزلٍ ولا إقصاء، وأن يخوضوا غمار السباق الانتخابي مع بقية القوى السياسية بعد نهاية الفترة الانتقالية، إذ لم يرد على لسانه هذه المرة وصف (المحلول) ولا عبارة (ما عدا المؤتمر الوطني) المعتادة منذ سقوط حكم الإنقاذ في 11 أبريل 2018.
* من المثالب المأخوذة على الخطاب الضافي اللهجة المهادنة للقوى السياسية المتورطة في التحالف مع التمرد، ولا نعني هنا التوجيه بالسماح لهم باستخراج جوازاتهم وبقية أوراقهم الثبوتية، لأن ذلك حق دستوري لا يجوز حجبه عن أي مواطن تحت أيِّ ظرف، بل نعني المجاهرين منهم بإسناد المليشيا الغاصبة، المتفاخرين بدعمها والكيد للجيش ومحاربته ورميه بما ليس فيه، والاجتهاد لمساواته مع الأوغاد.. هؤلاء لا يستحقون أن يُخاطبوا بلهجة هادئة عطفاً على مواقفهم المخزية.
*بخلاف ذلك لم أجد في خطاب البرهان ما يستوجب النقد أو التصويب، لأنه أثبت لكل من ساهموا في الذود عن البلاد وأهلها حقهم، وامتدحهم ونوّه بهم، كما أثبت على القوى المتماهية مع التمرد تهمة شن الحرب على الدولة ومواطنيها، والتورط في العدوان على البلاد وإيذاء العباد، وفي ذلك حقٌ خاص لملايين السودانيين، لا يجوز ولا يحق لأيِّ مسئول أن يتنازل عنه مطلقاً.
* من كادوا للجيش وتآمروا عليه وحاولوا إعفاء المرتزقة من تهمة قتل آلاف المدنيين العُزّل في قُرى ولاية الجزيرة تحديداً، واجتهدوا في توفير الغطاء القانوني والأخلاقي لمذابح ود النورة والتكينة والحُرقة وأب قوتة والهلالية وغيرها بالحديث عن وجود مستنفرين مسلحين سعياً لإلصاق وزر ارتكاب تلك المذابح المروعة بالجيش أصبحوا شركاء فيها مع المتمردين، ويجب أن يُحاكموا ويعاقبوا عليها بصرامة، ولا تجوز مسامحتهم مطلقاً، لأنهم ولغوا مع المليشيا في دماء أهلنا المغدورين المنكوبين ولطخوا أياديهم بها.
* وفي المجمل، أتى الخطاب إيجابياً ويرسم ملامح واضحةً لمسيرة الفترة الانتقالية، ويحدد موجهاتها، ويؤكد انتهاء عهود الاستهبال السياسي بحظر مشاركة أي حزبٍ في الحكم بلا تفويض انتخابي، وأن البلاد ستُدار بحكومة كفاءات مستقلة، يقودها رئيس وزراء مدني بصلاحيات كاملة، وأن الفترة الانتقالية ستنتهي بانتخابات شفافة وحرة ونزيهة يقول فيها الشعب السوداني كلمته، ويختار فيها من يحكمه.. وعهدنا بالقوى التي نعنيها أنها لا تطيق سيرة الانتخابات مطلقاً.
إلى ذلك الحين نقول للجميع لا تفاوض مع العملاء ولا المتمردين ولا عودة عن الاجتهاد لدحرهم، فقوموا إلى واجبكم وواصلوا إسناد جيشكم، وانصرفوا إلى الأهم وقدموه على المُهم، وتفرغوا لاستكمال مسيرة التحرير ودحر التمرد وتنظيف كل أرجاء بلادنا من دنس المليشيا الغاصبة وكفلائها الأوغاد.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
قراءة في خطاب البرهانمزمل ابو القاسم