انهيار المسافة الحرجة: كيف تم ترويض المثقف؟
تاريخ النشر: 9th, February 2025 GMT
إبراهيم برسي
هناك لحظةٌ يتوقف فيها المثقف، لا لأنه وجد الإجابة، بل لأنه أدرك أن الأسئلة ذاتها قد تغيرت.
لم يَعُد السؤال: “ماذا يجب أن نفعل؟” بل صار: “أين يمكن أن نفعل؟ وفي أي مساحة؟”
في زمنٍ تتضاءل فيه المساحات أمام الفكر المستقل، ويصبح فيه التأثير مقيدًا بشروط السوق أو السلطة، يجد المثقف نفسه في مأزق جديد: هل هو صانعُ وعيٍ، أم جزءٌ من ماكينة إنتاجه؟ هل هو فاعلٌ مستقل، أم مجرد ترسٍ في آلةٍ تُعيد تدوير الأفكار داخل منظومة لا تسمح بخروجها عن النص؟
إن أزمة المثقف اليوم لم تَعُد مجرد ترددٍ بين الفعل والتنظير، بل أصبحت أزمة دور: “أين يقف؟ وكيف يمارس تأثيره في عالمٍ لم يَعُد ينتظر الأفكار، بل يستهلكها كمنتجٍ سريع الذوبان؟”
لقد كان المثقف يومًا صانعَ الأسئلة الكبرى، لكنه أصبح الآن محاصرًا بين خطابٍ يُطلب منه أن يكون مستساغًا وسهل الاستهلاك، وبين منظومات تُعيد إنتاجه كصوتٍ لا يتجاوز حدود “الممكن”.
لم يَعُد السؤال: “كيف نغيّر العالم؟” بل: “هل لا يزال مسموحًا لنا بالتفكير في تغييره أصلًا؟”
هذا التحول في وضعية المثقف لم يحدث فجأة، بل هو نتاج لتطورات طويلة المدى.
عبر التاريخ، لعب المثقف أدوارًا محورية في تحولات المجتمعات، سواء في الفلسفة الإغريقية، حيث كان الفيلسوف مرآةً للعقل السياسي، أو خلال عصر التنوير، حين قاد المثقفون معارك فكرية أعادت تشكيل مفهوم الدولة والمجتمع، أو في الحركات التحررية في القرن العشرين، حيث لعب المفكرون دورًا في صوغ الأيديولوجيات التي قادت الثورات والاستقلالات الوطنية.
لكن اليوم، يبدو أن هذا الدور قد تآكل، وأصبحت المعركة ليست بين الأفكار، بل بين قوة التأثير وآليات الاحتواء التي تعيد تدوير كل خطاب داخل منظومة تُفرغه من قدرته على التحريض والتغيير.
ولعل ما يعمّق هذا المأزق هو أن المثقف لم يَعُد يقف في موقع المسافة الحرجة بين السلطة والجماهير، بل بات محاصرًا بخيارين لا ثالث لهما:
•إما أن يكون جزءًا من المؤسسة، فيتم استيعابه وتدجينه.
•أو أن يظل خارجها، فيخسر تأثيره ويصبح مجرد صوتٍ معزول.
فالسلطة لم تَعُد تقمع المثقف كما في الأزمنة الماضية، بل طوّرت أدواتٍ أكثر ذكاءً: منحته منابر ومساحات، لكنها مساحات مضبوطة الإيقاع، تتيح له الكلام، لكن ليس إلى الحد الذي يُهدد بنية القوة.
إن عملية الاحتواء هذه لم تأتِ فقط من السلطة السياسية، بل إن السوق ذاته أصبح عاملًا محوريًا في إعادة تشكيل وظيفة المثقف.
فمع سيادة الرأسمالية الثقافية، لم تَعُد الأفكار تُقدَّم بوصفها أدواتٍ للتحول، بل كسلعٍ تُباع داخل منظومة تتحكم في إنتاجها وتوزيعها.
لقد رأينا كيف تحوّلت بعض الأفكار الراديكالية، التي كانت في الماضي تُهدد بنية الأنظمة، إلى منتجات ثقافية يتم استهلاكها في المهرجانات الفكرية، أو داخل الأوساط الأكاديمية، دون أن يكون لها أثرٌ حقيقي خارج هذه الدوائر.
بهذا الشكل، لم يَعُد الاحتواء يأتي عبر القمع المباشر، بل عبر إدخال المثقف في ماكينة إنتاج المعرفة، التي تُحدد له إطار حركته، وتُقدّم له منصات يعتقد أنها مساحات حرة، لكنها في الواقع مُكبّلات فكرية تحكمه بسقف غير مرئي.
في ظل هذا الواقع، لم تَعُد الأكاديميا، ووسائل الإعلام، وحتى الثقافة الشعبية، سوى دوائر مغلقة، تعيد إنتاج الفكر كمادة استهلاكية، وليس كأداةٍ للتحوّل.
أصبح النقد نفسه جزءًا من العرض، وأصبح المثقف نجمًا يُحتفى به طالما لم يتجاوز الخطوط المرسومة له.
هذا الشكل الجديد من الاحتواء جعل المثقف يظن أنه مؤثر، لكنه في الواقع مجردُ عنصرٍ آخر في منظومةٍ تتقنُ امتصاصَ التغيير قبل أن يولد.
إن المثقف، الذي كان يومًا صانعَ التحولات، أصبح الآن مجرد مفسّرٍ للأحداث، يلاحقها بدلاً من أن يصنعها، يفسّر انسداداتها لكنه عاجز عن فتح آفاق جديدة.
ولكن، هل هو عاجزٌ بالفعل؟ أم أن العجز ناتج عن شبكة معقدة من القيود التي لا يدرك بعضها؟
لقد أصبح المثقف في كثير من الأحيان مدركًا لأسره داخل المنظومة، لكنه يجد نفسه عاجزًا عن الفكاك منها.
إن إدراكه لحدود تأثيره لا يعني قدرته على تجاوزها، بل قد يجعله في حالة دائمة من الوعي المشلول، حيث يعرف المشكلة جيدًا، لكنه لا يمتلك الأدوات اللازمة لكسر الدائرة.
وفي هذه الحالة، هل يمكن اعتبار عجز المثقف مجرد انعكاس لحالة فردية؟ أم أنه جزءٌ من أزمة أكبر تتعلق بالبنية الفكرية والسياسية للمجتمع الحديث؟
قد يكون المثقف اليوم واقعًا بين سندان القيود المؤسسية ومطرقة التشكيك الذاتي المستمر، حيث يؤدي تفكيكه الدائم للسرديات إلى شلل فكري يمنعه من تبني موقف حاسم أو اتخاذ خطوة جذرية.
وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل المثقف المعاصر، بتكوينه النقدي الحاد، أصبح رهينةً لوعيه الخاص؟ هل أدى وعيه المتشظي إلى استنزاف قدرته على الفعل؟
هذه التساؤلات تجعلنا نعيد النظر في ما إذا كان المثقف ضحية المنظومة فقط، أم أنه متواطئٌ معها بشكل غير مباشر، بسبب خوفه من المواجهة الحقيقية؟
في النهاية، ليس السؤال: “هل يجب على المثقف أن يكون فاعلًا؟”
بل السؤال الأهم: “هل بقي للمثقف شيءٌ ليقوله لم يُستهلك بعد؟”
أم أن زمنه قد انتهى ليصبح مجرد صدى في عالمٍ لا يعبأ إلا بمن يملك القوة، لا الفكرة؟
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: لم ی ع د لم ت ع د أن یکون
إقرأ أيضاً:
رقعة القلب.. ثورة طبية تعيد الأمل إلى الحالات الحرجة (فيديو)
عندما تُصاب عضلة القلب بتلف جسيم يصبح التعافي تحديا معقدا، إذ تضعف القدرة الانقباضية تدريجيا وتتضاءل فرص العلاج الفعال، لكن التقدم الطبي فتح آفاقا جديدة عبر تقنية الرقعة القلبية الحيوية التي قد تكون نقطة تحول في علاج أمراض القلب المستعصية، حسبما جاء في فضائية «القاهرة الإخبارية»، عبر عرض تقرير تلفزيوني بعنوان «رقعة القلب.. ثورة طبية تعيد الأمل للحالات الحرجة».
الرقعة القلبية تساهم في إعادة تنشيط العضلة واستعادة وظيفتها الانقباضيةوأشار التقرير إلى أن الرقعة القلبية تعتمد على الخلايا الجذعية المستحثة متعددة القدرات، التي يجري إعادة برمجتها معمليا لتحاكي الخلايا القلبية الطبيعية، وتزرع هذه الخلايا بدقة على الأنسجة المتضررة، بما لا يقتصر فقط على تعويض التلف بل يمتد إلى إعادة تنشيط عضلة القلب واستعادة وظيفتها الانقباضية.
الرقعة تعمل على ضبط إيقاع الحياة
ولفت التقرير إلى أن المذهل أن هذه الرقعة لا تبقى مجرد نسيج مزروع بل تبدأ في النبض بتناغم ذاتي كما لو أنها تضبط إيقاع الحياة، ورغم أن التقنية لا تزال في مرحلة التجارب السريرية المتقدمة ولم تحصل بعد على الاعتماد الرسمي، فإن نتائج الدراسات الأولية تشير إلى تحسن كبير في الأداء القلبي لدى المرضى، وإذا استمرت هذه النجاحات فقد تصبح بديلا واعدا لعمليات زراعة القلب، ما يمنح ملايين المرضى فرصة جديدة للحياة من خلال علاج أكثر استدامة وأقل تعقيدا، يعيد للقلب قوته وللمرضى الأمل بنبض مستمر.