سودانايل:
2025-04-13@11:36:18 GMT

انهيار المسافة الحرجة: كيف تم ترويض المثقف؟

تاريخ النشر: 9th, February 2025 GMT

إبراهيم برسي

هناك لحظةٌ يتوقف فيها المثقف، لا لأنه وجد الإجابة، بل لأنه أدرك أن الأسئلة ذاتها قد تغيرت.

لم يَعُد السؤال: “ماذا يجب أن نفعل؟” بل صار: “أين يمكن أن نفعل؟ وفي أي مساحة؟”

في زمنٍ تتضاءل فيه المساحات أمام الفكر المستقل، ويصبح فيه التأثير مقيدًا بشروط السوق أو السلطة، يجد المثقف نفسه في مأزق جديد: هل هو صانعُ وعيٍ، أم جزءٌ من ماكينة إنتاجه؟ هل هو فاعلٌ مستقل، أم مجرد ترسٍ في آلةٍ تُعيد تدوير الأفكار داخل منظومة لا تسمح بخروجها عن النص؟

إن أزمة المثقف اليوم لم تَعُد مجرد ترددٍ بين الفعل والتنظير، بل أصبحت أزمة دور: “أين يقف؟ وكيف يمارس تأثيره في عالمٍ لم يَعُد ينتظر الأفكار، بل يستهلكها كمنتجٍ سريع الذوبان؟”

لقد كان المثقف يومًا صانعَ الأسئلة الكبرى، لكنه أصبح الآن محاصرًا بين خطابٍ يُطلب منه أن يكون مستساغًا وسهل الاستهلاك، وبين منظومات تُعيد إنتاجه كصوتٍ لا يتجاوز حدود “الممكن”.



لم يَعُد السؤال: “كيف نغيّر العالم؟” بل: “هل لا يزال مسموحًا لنا بالتفكير في تغييره أصلًا؟”

هذا التحول في وضعية المثقف لم يحدث فجأة، بل هو نتاج لتطورات طويلة المدى.

عبر التاريخ، لعب المثقف أدوارًا محورية في تحولات المجتمعات، سواء في الفلسفة الإغريقية، حيث كان الفيلسوف مرآةً للعقل السياسي، أو خلال عصر التنوير، حين قاد المثقفون معارك فكرية أعادت تشكيل مفهوم الدولة والمجتمع، أو في الحركات التحررية في القرن العشرين، حيث لعب المفكرون دورًا في صوغ الأيديولوجيات التي قادت الثورات والاستقلالات الوطنية.

لكن اليوم، يبدو أن هذا الدور قد تآكل، وأصبحت المعركة ليست بين الأفكار، بل بين قوة التأثير وآليات الاحتواء التي تعيد تدوير كل خطاب داخل منظومة تُفرغه من قدرته على التحريض والتغيير.

ولعل ما يعمّق هذا المأزق هو أن المثقف لم يَعُد يقف في موقع المسافة الحرجة بين السلطة والجماهير، بل بات محاصرًا بخيارين لا ثالث لهما:
•إما أن يكون جزءًا من المؤسسة، فيتم استيعابه وتدجينه.
•أو أن يظل خارجها، فيخسر تأثيره ويصبح مجرد صوتٍ معزول.

فالسلطة لم تَعُد تقمع المثقف كما في الأزمنة الماضية، بل طوّرت أدواتٍ أكثر ذكاءً: منحته منابر ومساحات، لكنها مساحات مضبوطة الإيقاع، تتيح له الكلام، لكن ليس إلى الحد الذي يُهدد بنية القوة.

إن عملية الاحتواء هذه لم تأتِ فقط من السلطة السياسية، بل إن السوق ذاته أصبح عاملًا محوريًا في إعادة تشكيل وظيفة المثقف.

فمع سيادة الرأسمالية الثقافية، لم تَعُد الأفكار تُقدَّم بوصفها أدواتٍ للتحول، بل كسلعٍ تُباع داخل منظومة تتحكم في إنتاجها وتوزيعها.

لقد رأينا كيف تحوّلت بعض الأفكار الراديكالية، التي كانت في الماضي تُهدد بنية الأنظمة، إلى منتجات ثقافية يتم استهلاكها في المهرجانات الفكرية، أو داخل الأوساط الأكاديمية، دون أن يكون لها أثرٌ حقيقي خارج هذه الدوائر.

بهذا الشكل، لم يَعُد الاحتواء يأتي عبر القمع المباشر، بل عبر إدخال المثقف في ماكينة إنتاج المعرفة، التي تُحدد له إطار حركته، وتُقدّم له منصات يعتقد أنها مساحات حرة، لكنها في الواقع مُكبّلات فكرية تحكمه بسقف غير مرئي.

في ظل هذا الواقع، لم تَعُد الأكاديميا، ووسائل الإعلام، وحتى الثقافة الشعبية، سوى دوائر مغلقة، تعيد إنتاج الفكر كمادة استهلاكية، وليس كأداةٍ للتحوّل.

أصبح النقد نفسه جزءًا من العرض، وأصبح المثقف نجمًا يُحتفى به طالما لم يتجاوز الخطوط المرسومة له.

هذا الشكل الجديد من الاحتواء جعل المثقف يظن أنه مؤثر، لكنه في الواقع مجردُ عنصرٍ آخر في منظومةٍ تتقنُ امتصاصَ التغيير قبل أن يولد.

إن المثقف، الذي كان يومًا صانعَ التحولات، أصبح الآن مجرد مفسّرٍ للأحداث، يلاحقها بدلاً من أن يصنعها، يفسّر انسداداتها لكنه عاجز عن فتح آفاق جديدة.

ولكن، هل هو عاجزٌ بالفعل؟ أم أن العجز ناتج عن شبكة معقدة من القيود التي لا يدرك بعضها؟

لقد أصبح المثقف في كثير من الأحيان مدركًا لأسره داخل المنظومة، لكنه يجد نفسه عاجزًا عن الفكاك منها.

إن إدراكه لحدود تأثيره لا يعني قدرته على تجاوزها، بل قد يجعله في حالة دائمة من الوعي المشلول، حيث يعرف المشكلة جيدًا، لكنه لا يمتلك الأدوات اللازمة لكسر الدائرة.

وفي هذه الحالة، هل يمكن اعتبار عجز المثقف مجرد انعكاس لحالة فردية؟ أم أنه جزءٌ من أزمة أكبر تتعلق بالبنية الفكرية والسياسية للمجتمع الحديث؟

قد يكون المثقف اليوم واقعًا بين سندان القيود المؤسسية ومطرقة التشكيك الذاتي المستمر، حيث يؤدي تفكيكه الدائم للسرديات إلى شلل فكري يمنعه من تبني موقف حاسم أو اتخاذ خطوة جذرية.

وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل المثقف المعاصر، بتكوينه النقدي الحاد، أصبح رهينةً لوعيه الخاص؟ هل أدى وعيه المتشظي إلى استنزاف قدرته على الفعل؟

هذه التساؤلات تجعلنا نعيد النظر في ما إذا كان المثقف ضحية المنظومة فقط، أم أنه متواطئٌ معها بشكل غير مباشر، بسبب خوفه من المواجهة الحقيقية؟

في النهاية، ليس السؤال: “هل يجب على المثقف أن يكون فاعلًا؟”

بل السؤال الأهم: “هل بقي للمثقف شيءٌ ليقوله لم يُستهلك بعد؟”

أم أن زمنه قد انتهى ليصبح مجرد صدى في عالمٍ لا يعبأ إلا بمن يملك القوة، لا الفكرة؟


zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: لم ی ع د لم ت ع د أن یکون

إقرأ أيضاً:

لافروف لأوكرانيا : العودة لحدود 1991 أصبح مستحيلا

أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف علي ان هناك رغبة من واشنطن للتعرف على الأسباب الرئيسية للأزمة الأوكرانية ، مشيرا الي ان العودة لحدود 1991 أصبح مستحيلا.

جاء ذلك في تصريحات لوزير اللخارجية الروسي سيرجي لافروف  في مؤتمر صحفي عقب اجتماع مجلس وزراء خارجية رابطة الدول المستقلة في ألماتا .

وقال لافروف : نرى زيلينسكي يكره ليس فقط بوتين ولكن كل الروس ، ويجب على زيلينسكي أن ينصاع للأمر الواقع.

وأضاف:  الرئيس بوتين تحدث عن تشكيل هيكل الأمن الأوراسي الذي يشمل القارة بشكل كامل، ويحفظ أمن جميع الدول في هذه المنطقة. ورابطة الدول المستقلة واحدة من الهياكل، وهناك تعاون مع أمانة منظمة شنجهاي للتعاون ومعاهدة الأمن الجماعي وكذلك آسيان ومجلس التعاون لدول الخليج.

وتابع لافروف : تبحث هذه الهياكل والمنظمات عن المصالح المشتركة وتبتعد عن إضاعة الموارد بشكل غير مجدي، ويسمح هذا التكامل الأوراسي بتشكيل الهيكلة الأمنية، ورابطة الدول المستقلة هي جزء من هذا الهيكل في الفضاء الأوراسي.

وأكمل : في أوروبا لا يفكرون بناخبيهم، ولكن يفكرون في معاقبة روسيا، وهو ما يظهر أن الاتحاد الأوروبي فقد قيمه وأهميته لأنه تشكل بداية للوصول إلى التكامل الاقتصادي.

وأردف : يحاول الغرب بعقوباته التقليل من تعاون دول آسيا الوسطى مع روسيا، لكن رابطة الدول المستقلة تستخدم في التسويات العملات الوطنية بنسبة 80%، إضافة إلى ذلك هناك منصات الدفع لا يمكن لمنظومة "سويفت" التأثير عليها.

وزاد : ننطلق من مصالحنا الوطنية ومصالح شركائنا. ولقاؤنا الثنائي مع وزير الخارجية الكازاخستاني تضمن الكثير من الخطط والمشاريع المشتركة. بالطبع تخشى بعض البنوك والشركات من العقوبات الثانوية، لكن هناك الكثير من المصالح والفوائد المرتبطة بالمصالح الوطنية للبلدين.

وختم : ننتظر استعادة الثقة وتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، لكن إدارة الرئيس السابق بايدن خلقت الكثير من العراقيل، حتى أن بعض المسؤولين لا زالوا يرفضون التعاون. نتحدث مع وزير الخارجية ماركو روبيو، ومستشار الأمن القومي مايك والتز، الحوار مطلوب وضروري.

لافروف: موسكو وواشنطن تستعدان لعقد اجتماع بشأن حل الخلافات وتطبيع الاتصالاتلافروف: أوروبا تعارض بشكل واضح موقف إدارة ترامب بشأن تسوية أزمة أوكرانياموسكو: لن نرفع العقوبات عن روبيو طالما لم تفعل أمريكا نفس الأمر مع لافروف

مقالات مشابهة

  • ما حكم من تيمم وصلى ثم وجد الماء قبل خروج وقت الصلاة؟.. الإفتاء تجيب
  • أمانى الطويل، خبيرة الشؤون الأفريقية: 25 مليون سودانى معرضون للمجاعة عند المستويات الحرجة
  • كل من هب ودب أصبح يهدد شندي بالغزو والاجتياح !!
  • جامعة أسيوط تحذر من الكيانات الوهمية التي تدّعي تقديم شهادات علمية باسمها
  • “الإسطبلات الأميرية” تطلق برنامج تعزيز أداء أصحاب الهمم في رياضة ترويض الخيل
  • ترف المثقف وقضايا الأمة
  • «الإسطبلات الأميرية».. تعزيز أداء «أصحاب الهمم» في «ترويض الخيل»
  • لافروف لأوكرانيا : العودة لحدود 1991 أصبح مستحيلا
  • الجيش مؤسسة وطنية مهمة وأساسية في الدولة الحديثة، لكنه يجب أن يكون مثل كل مؤسسات الدولة، لا فوقها
  • لماذا أصبح أرخبيل سانت بيير وميكلون الفرنسية حديث العالم؟