بفوائض عجرفة وجهالة مفزعة بالتاريخ والجغرافيا، وعلى نحو فاق كل توقع جنوني، قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شطب القضية الفلسطينية من جدول أعمال التاريخ والمستقبل، والاستيلاء الأمريكي المباشر على جغرافيا قطاع غزة، وطرد ملايين الفلسطينيين بالجملة، وبدعوى إعادة إعمار غزة، وجعلها ريفيرا الشرق الأوسط، وتحويلها إلى ملكية أمريكية طويلة الأمد، وجلب آخرين من غير الفلسطينيين لسكناها، ومن دون استبعاد إقامة مستوطنات إسرائيلية فيها، بعد جلب وحلب أموال عربية ودولية ـ غير أمريكية ـ لتمويل عملية سرقة غزة، التي تستغرق ـ حسب أوهامه ـ مدة 15 سنة، أي نحو أربعة أضعاف مدة بقاء ترامب نفسه في البيت الأبيض.
ولا حاجة للتذكير بما هو معروف، فقد أثبت ترامب أنه أعظم صديق لكيان الاحتلال في البيت الأبيض، كما قال عنه بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو، ولولا اعتبارات التحايل اللفظي، لقال نتنياهو أن ترامب هو أعظم خادم للصهيونية في تاريخها على الإطلاق.
وترامب نفسه يفخر بما فعله ويفعله في خدمة الكيان، خلال ولايته الأولى، وما مضى من أيام الولاية الثانية، وكرر مزهوا قبل وبعد لقائه الأخير مع نتنياهو، أنه هو الذي أيد اعتبار القدس بكاملها عاصمة أبدية موحدة لكيان الاحتلال، إضافة لتأييده ضم هضبة الجولان لسيادة كيان العدو، وأجبر دولا عربية عديدة على الانضمام لاتفاقات إبرهام في ولايته الرئاسية الأولى، وأعاد فتح كل مخازن السلاح الأمريكي بلا سقف للكيان، وقرر الانسحاب ووقف تمويل وكالة الأونروا لرعاية وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، كما الانسحاب من المجلس الدولي لحقوق الإنسان المعادي ـ في رأيه ـ للسامية والصهيونية، ووقف تمويل اليونسكو المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة، فوق إعادة فرض سياسة الضغوط الاقتصادية القصوى على إيران الممولة لمنظمات معادية للكيان، وكانت تلك كلها وغيرها مجرد مقبلات تسبق تقديم الطبق الرئيسي، المتمثل في حل مشكلة الفلسطينيين، بشطب وجود الفلسطينيين من أصله، وطردهم جميعا، ليس من غزة وحدها، بل من الضفة الغربية أيضا، التي قال ترامب إنه يستعد لإصدار قراره بشأنها خلال أسابيع، والذى لن يكون على الأغلب، سوى تأييد ضم الضفة بكاملها تقريبا للكيان، وربما شفعه بخطة لطرد ملايين الفلسطينيين منها، أسوة بخطته لطرد ملايين غزة، وبطريقة تجاوزت أحلام أشد المتطرفين داخل الكيان، الذين ظلوا لعشرات السنوات يخططون، ويدعون لطرد الفلسطينيين والتخلص منهم نهائيا.
إذا كان نتنياهو يقود حكومة يمين توراتي في تل أبيب، فإن ترامب يقود حكومة يمين مسيحي متطرف
ثم جاء ترامب ليعد بتحقيق أحلامهم بجرة قلم، الأمر الذي جعلهم في ذهول الفرح، وجعل حلمهم ببناء إسرائيل الكبرى أقرب من طرف الإصبع، وفتح الطريق النهائي لتصفية كل وجود فلسطيني على أرض فلسطين التاريخية من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، وربما التوسع خارج فلسطين في الأردن ولبنان وسوريا وربما مصر، فلم يعبأ ترامب في تصريحاته برفض مصر والأردن لتهجير الفلسطينيين، وكرر الطلب إلى مصر والأردن بتوفير قطع أراض بديلة لوضع ملايين الفلسطينيين المطرودين فيها، وأعلن صراحة أنه لا فرصة في مخططه لإقامة أي كيان أو دولة فلسطينية في أي وقت، وأسقط أقنعة المداورات كلها وأكد، ومن بعده وزير خارجيته الصهيوني ماركو روبيو، أن واشنطن تعد لعملية الاستيلاء على غزة وتنفيذ عملية التهجير، وجاء ذلك طبيعيا متسقا، فإن كان نتنياهو يقود حكومة اليمين الديني المتطرف في تل أبيب، فإن ترامب شكل طاقم إدارته في الشرق الأوسط بالذات، على نحو جعل حكومة إسرائيل في واشنطن أكثر تطرفا وهمجية من مثيلتها داخل الكيان.
وإذا كان نتنياهو يقود حكومة يمين توراتي في تل أبيب، فإن ترامب يقود حكومة يمين مسيحي متطرف أكثر ولاء وإيمانا بالكيان الإسرائيلي قبل أي شيء آخر.
تسيطر على الكونغرس الأمريكي بمجلسيه، وعلى وزارة الخارجية بالكامل، كان الصهاينة اليهود هم عماد المناصب الكبرى في وزارة خارجية الرئيس السابق جو بايدن، وأصبح الصهاينة المسيحيون هم عماد وزارة خارجية ترامب، حتى إن السفير مايك هاكابي الذي عينه في إسرائيل، أكثر صهيونية من نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، وكان قسا ومبشرا إنجيليا قبل أن ينتقل إلى ميدان السياسة، وهو يرفض من الأصل مصطلح الضفة الغربية، ويصفها كغلاة التوراتيين بأنها يهودا والسامرة، ويعتبر أنه لا وجود ولا حقوق لشيء اسمه الشعب الفلسطيني، ويتحدث عن استيطان الضفة كحق طبيعي ثابت لليهود وحدهم، تماما كرئيسه ترامب الذي يدعم حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية في الضفة اليوم، ويمهد لإعلان قراره بضم الضفة كلها، أو أغلبها لكيان إسرائيل نهائيا، ويعول على تنفيذ خطته الجنونية في غزة، على أن تبدأ بعد، أو بدلا من المرحلة الثانية لاتفاق وقف إطلاق النار، وقد كان ستيف ويتكوف مبعوث ترامب في مفاوضات وقف النار، صريحا بما يكفي وزيادة، حين أعلن قبل ترامب وبعده، أن الهدف من المرحلة الثانية هو استكمال إطلاق سراح كل المحتجزين الإسرائيليين والأمريكيين الأحياء، وأن مخطط المرحلة الثالثة الموضوع يحتاج إلى ما سماه إعادة ضبط، وانتظار عملية تهجير الفلسطينيين من غزة، قبل أي حديث عن إعادة إعمار، في ما وضع ترامب الوسطاء العرب في التفاوض تحت الضغط، وأعلن ـ أكثر من مرة ـ أنه لا ضمانات عنده باستمرار وقف إطلاق النار، وأن كل الخطوات التالية موقوفة على قبول خطة التهجير واستيلاء أمريكا على غزة، ربما ليضمن أنه لن يكون من دور لحركة حماس بعد الحرب، ولن يكون من دور لأي فلسطيني آخر، لأنه لن يكون من فلسطينيين أبدا في غزة، حسب الخطة الترامبية.
ولا تبدو ردود الأفعال الفلسطينية والعربية، متناسبة مع التطور الأخير الأخطر بامتياز، صحيح أن الكل لم يقصروا في عادة الشجب والتنديد، أو اعتبار أن وعد ترامب أخطر من وعد بلفور، وهذا صحيح، فقد أعطى وعد بلفور ما سماه وطنا قوميا لليهود في فلسطين، لكن وعد ترامب يعطى اليهود فلسطين كلها وللأبد، ويحجب عن الشعب الفلسطيني مجرد حق الوجود فوق أرضه، وحين يتحدث ترامب عن الاستيلاء الأمريكي على غزة، فقد لا يعني ـ بالضرورة ـ إرسال قوات أمريكية لاحتلال غزة، وعنده قوات الجيش الإسرائيلي، الذي هو جيش أمريكي، يكلفه بالمهمة، فوق وجود قواعد مباشرة باسم الجيش الأمريكي نفسه في صحراء النقب المحتلة وغيرها، مع إمكان تحريك أساطيل أمريكا وحاملات طائراتها الضخمة إلى شواطئ غزة، وإعطاء الامتيازات للشركات الأمريكية لاحتكار التنقيب عن البترول والغاز في بحر غزة، وإنزال قوات المارينز على شاطئ غزة، وفرض الحماية الأمريكية المباشرة المعلنة لقوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة عبر 60 قاعدة أمريكية موزعة في دول الخليج والمشرق العربي، ومع أن خطة ترامب الجديدة تبدو خيالية، بما يكفى وخارج التوقعات، فإن مقاومتها وإحباطها في المهد ممكنة، ليس فقط لأنها تطيح بكل قواعد القانون الدولي، ونزوات ترامب لا تقيم وزنا على أي حال للقانون ولا للأمم المتحدة ومنظماتها، ولن يعجب أحد لو قرر انسحاب واشنطن من الأمم المتحدة، أو طرد مقرها الزجاجي من نيويورك، فهو يؤمن بما يسميه السلام المفروض بالقوة، ويعتقد أن لديه القوة الكافية لفرض ما يريده، ويعتبر أن الدول التي رفضت خطته لتهجير الفلسطينيين سوف ترضخ لأوامره في نهاية الأمر، وهذا هو التحدى المطروح اليوم على الشعب الفلسطيني والأمة العربية ونظمها الحاكمة، فلا معنى يذكر لبيانات الشجب والتنديد وإبداء الامتعاض، ولا لتكرار اللغو الممل عن طلب الوساطة الأمريكية وغيرها، وكل ذلك صار مزاحا أسخف من سخف ترامب نفسه، ولا بد من التعامل مع التحدي غير المسبوق على نحو مختلف جذريا،
أولا: بتعبئة تحرك دولي جامع ضد همجية ترامب، واستصدار قرارات أممية لتجريم أي ترحيل للفلسطينيين من وطنهم.
ثانيا : دعوة كل الأطراف العربية التي لها علاقات مع إسرائيل لقطعها فورا، وإبقاء كل الخيارات مفتوحة دون حد أقصى، وإعداد خطة إعمار بديلة عاجلة.
ثالثا : إعلان الاتحاد السياسي الفلسطيني، وإقامة إدارة فلسطينية موحدة، دون إبطاء على أراضي غزة والضفة والقدس المحتلة، فلم يعد من وقت ولا مجال للتسويفات والمماطلات الداخلية بين فتح وحماس وغيرهما، ولا لرفض خيار المقاومة الفلسطينية المسلحة، ولا لمعاندة إرادة الشعب الفلسطيني المصمم على نيل حقوقه كلها، وأبسطها حقه المطلق في تقرير مصيره، وحقه وواجبه في الثبات فوق أرضه المقدسة، وهزيمة خطط الإبادة الأمريكية الإسرائيلية إفناء وتهجيرا، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
المصدر: القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ترامب الفلسطينية غزة الاحتلال فلسطين غزة الاحتلال ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة أفكار صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشعب الفلسطینی
إقرأ أيضاً:
اليمن وسخافات ترامب وحماقات نتنياهو
يواصل كهل أمريكا العجوز دونالد ترامب توزيع سخافاته التي دشنها عقب اللحظات الأولى لدخوله المكتب البيضاوي في العشرين من يناير الماضي لتولي مهام الرئاسة الأمريكية، غير مدرك عواقبها وتداعياتها الكارثية على مختلف الأصعدة، هذا المعتوه يواصل التوقيع على قراراته التنفيذية المشبعة بالهستيرية والسخف و( قلة العقل ) والتي تمثل وصمة عار في تاريخ الرئاسة الأمريكية، كونها تفتقر لأبسط معايير العقل والمنطق، كونها عبارة عن مشاريع وقرارات استفزازية جنونية تمثل انتهاكاً صارخاً لسيادة الدول، وتدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية، وتعدياً على خصوصياتها وحقها في السيادة على أراضيها، بمعزل عن أي تدخلات خارجية من أي دولة كانت .
ترامب يواصل النفخ في بوق الفتنة في الشرق الأوسط من خلال مخططه الإجرامي الرامي لتفخيخ المنطقة وتحويلها إلى ما يشبه القنبلة المؤقتة القابلة للانفجار في أي لحظة، حيث يواصل إطلاق تهديداته الرعناء لحركة المقاومة الإسلامية حماس من أجل إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين الصهاينة لديها، متجاوزاً قرار وقف إطلاق النار الذي تضمن آلية مزمنة لتنفيذ هذه العملية حسب ما نص عليه الاتفاق الذي تم برعاية مصرية قطرية، ويصر على منح كيان العدو الصهيوني وحكومة النتن ياهو الضوء للإغراق في التوحش والإجرام، وفرض المزيد من العقبات والعراقيل التي تهدد بنسف الاتفاق برمته، ويذهب نحو مواصلة مسلسل التسليح لهذا الكيان من أجل الذهاب لجولة جديدة من العدوان على غزة، دونما أدنى اكتراث لقرار وقف إطلاق النار والجهود التي يبذلها الوسطاء من أجل احتواء الموقف وخصوصاً بعد إيقاف كيان العدو الصهيوني دخول المساعدات الإغاثية والإيوائية الطارئة إلى قطاع غزة، وارتكاب المزيد من الخروقات والانتهاكات للقرار وهو ما يضع ترامب في دائرة المسؤولية المباشرة عن نسف الاتفاق والعودة إلى خيار الحرب .
ترامب يلعب بالنار وحالة الفرعنة التي وصل إليها زادت وتيرتها عقب تلكم المواقف الهزيلة التي خرج بها القادة العرب في قمتهم الطارئة بالقاهرة والتي شكلت دافعاً لترامب للمضي في غيه وإجرامه والذهاب نحو التصعيد والتأجيج، وشكلت ورقة ضغط على الوسطاء الذين وجدوا أنفسهم في مأزق خطير جراء عنجهية ترامب والضغوطات الهائلة التي يمارسها عليهم من أجل بلورة الشروط الصهيونية وتكييفها في طابع عربي من أجل تمريرها وفرضها على حركة حماس، كل ذلك في الوقت الذي يدعي ترامب زوراً وبهتاناً بأن إدارته تلعب دور الوسيط في العدوان والحرب على قطاع غزة .
وأمام سخافات ترامب، وحماقات وسفاهات النتن ياهو، واستهتار الأخير وتنصله الوقح عن الوفاء بالالتزامات والتعهدات التي تضمنها اتفاق وقف اطلاق النار في قطاع غزة، برز الموقف اليمني الأصيل الذي عبرّ عنه قائد الثورة السيد المجاهد عبدالملك بدرالدين الحوثي يحفظه الله والذي تضمن منح كيان العدو الصهيوني والوسطاء مهلة أربعة أيام لإلغاء القرار الأرعن الخاص بإغلاق المعابر الإنسانية ومنع دخول المساعدات الإغاثية والإيوائية الطارئة للقطاع وإيقاف كافة الخروقات الأمنية مالم فإن القوات المسلحة اليمنية ستذهب نحو استئناف عمليات الإسناد البحرية والعسكرية لإخواننا في قطاع غزة، على اعتبار أن قرار توقفها جاء عقب التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار ودخول المساعدات إلى القطاع، وهو توقف مشروط بإلتزام الكيان الصهيوني بتنفيذه ومادام قد تنصل عن ذلك فمن حق اليمن دعم وإسناد غزة كأقل ما يمكن القيام به، وخصوصا عقب التصنيف الأمريكي الأرعن لأنصار الله وفرض العقوبات على عدد من القيادات الوطنية على خلفية دعم وإسناد غزة .
الموقف اليمني هو الرد الأمثل والأنسب على السفاهات والسخافات الأمريكية الإسرائيلية التي لم يعد يشرف أي حر على امتداد المعمورة السكوت وغض الطرف عنها مهما كانت العواقب، وخصوصاً بعد أن تحلت حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بأعلى درجات ضبط النفس أمام الاستفزازات الأمريكية والإسرائيلية، وعدم التزام الأخيرة بتنفيذ مضامين الاتفاق ذات الصلة بجانب إدخال المساعدات الإغاثية والإيوائية الطارئة المنصوص والمتوافق عليها، ومن يرى في الموقف اليمني مغامرة غير محسوبة العواقب، عليه أن يراجع حساباته، وينظر إلى القضية كمسؤولية وواجب ديني وإنساني قبل أي اعتبارات أخرى .
بعد أكثر من خمسة عشر شهراً من الإجرام والتوحش الصهيوني المدعوم والمسنود أمريكيا، يأتي الصهيوني ليوقف المساعدات ويرتكب الخروقات بكل بجاحه ووقاحة مستندا إلى ترامب وعنترياته السخيفة التي أنا على ثقة تامة بأنها ستعجل بسقوطه ومغادرته البيت الأبيض مبكرا، غير مبالين بتداعيات ذلك، ضاربين بجهود الوسطاء ( العرب ) عرض الحائط، فكان لزاماً على اليمن وقائدها الغيور اتخاذ هذا الموقف القوي والحازم، والكرة اليوم في ملعب النتن، وحكومته وسيده الأمريكي، ولا مجال للعنتريات والسخافات الأمريكية والإسرائيلية الرعناء، فالمهلة اليمنية محددة وغير قابلة للتمديد، وعلى الباغي تدور الدوائر .