لجريدة عمان:
2025-03-10@22:04:55 GMT

دروس المسيري من البذور وحتى الثمر!

تاريخ النشر: 8th, February 2025 GMT

دروس المسيري من البذور وحتى الثمر!

(1)

وما زلنا مع سيرة الكاتب والمفكر وأستاذ الأدب الراحل عبد الوهاب المسيري (1938-2008) الذي رحل عن عالمنا قبل ما يقرب من سبعة عشر عاما، ورغم الرحيل والغياب فإنه ما زال حاضرا بقوة، وتطبع كتبه ويعاد طباعتها ويقبل عليها القراء والمهتمون من المتخصصين وغير المتخصصين على السواء، وما زالت كتبه ودراساته، على تفاوت أحجامها وأشكالها وطبعاتها، تملأ مساحة واسعة جدا مما كتب باللغة العربية في حقل الدراسات الإسرائيلية واليهودية والصهيونية، بكتاباته الغزيرة المهمة وموسوعته الكبيرة الضخمة التي أنجزها خلال ما يزيد على ربع القرن وضمنها خلاصة قراءاته وأبحاثه المنهجية المنضبطة للشخصية اليهودية وتاريخها وثقافتها وتصوراتها.

. إلخ.

وقد استوقفتني الطبعة الجديدة من سيرته الذاتية الضخمة التي صدرت مرارًا، عن دار الشروق المصرية، وجعلتني أعيد مطالعتها على ضخامتها، وقد قراتها أكثر من مرة منذ اقتنيتها للمرة الأولى قبل ربع القرن! ما زالت هذه السيرة قادرة على الإغواء بالقراءة وإمضاء الساعات بصحبتها دون ملل أو كلل، وقادرة أيضًا على استجلاء الدروس والعبر والأفكار شديدة الذكاء واللماحية التي ينثرها صاحبها بين السطور وفي ثنايا الصفحات؛ تنتظر القارئ الحصيف والمتأمل الذي يتوقف بأناة وصبر عند الكلمات والعبارات والفقرات ويطيل النظر والتدبر، حينها تفصح تلك السيرة المكتوبة بوعي رهيف وشديد الحساسية، ولغة غاية في التماسك والسلاسة والتدفق، بددت كثيرا من الأوهام التي قد يوحي بها حجمها، تفصح عن كنوزها ومستوياتها المتعددة من الأفكار والخواطر والعبر والنظرات والنقدات التي نحن في أحوج ما نكون إليها الآن في ظرفنا التاريخي والإنساني والحضاري الراهن!

(2)

ولعل بعضا من جاذبية هذه السيرة والإقبال عليها أن كاتبها كان واعيًا بأن أي مؤلف لا يكتب "للناس جميعًا" وإنما لمجموعة محددة من البشر. وكل كاتب أو مؤلف وبخاصة كاتب السيرة الذاتية، في تصور المسيري- يحتاج إلى جماعةٍ من القراء تتوافر فيهم عدة شروط:

أن يكونوا مهتمين بالقضية التي يتناولها، وأن يكونوا على مستوى فكري يمكنهم من الحكم على أعماله فلا يكيلوا المدح دون حساب أو مقياس، وألا يكونوا من الحاسدين الحاقدين. مثل هؤلاء يمكنهم توجيه النقد للمؤلف داخل إطار من الصداقة والتقبل المبدئي، ويعطيه قدرًا من الشرعية، فهذا يشد من أزره، والحوار الدافئ الذكي يولِّد في نفسه الثقة" (رحلتي الفكرية ـ سيرة عبد الوهاب المسيري الذاتية، ط دار الشروق 2016)

هكذا تمثل كل فقرة وكل عبارة في هذه السيرة فكرة بذاتها، مفتاحا للقراء، موضوعا للتأمل والمراجعة والإلهام بل والنقد! بهذا المعنى قرأت هذه السيرة وأعدت قراءتها وما زلت مستمتعا بمعاودة مطالعتها وما زالت قادرة على المزيد من القراءات والتفسيرات بل والإيحاء أيضا بكتابة على الكتابة!

من الممكن -إذن- أن تتوقف عند كل فقرة أو عبارة متمليًا ومتأملًا، تقارن بين الحمولة الذاتية لصاحبها وتأمله الفكري والموضوعي لها! لعل هذا فيما أتصور مفتاح قراءة هذه السيرة الضخمة كلها!

سأحاول أن أدلل على مصداقية هذا "المدخل" بأمثلة لعلها توضح ما قصدته:

"رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار" سيرة ذاتية صريحة وواضحة على مستوى الشكل والمضمون؛ يعرض فيها صاحبها لسيرته الذاتية عبر المكان والزمان والأفكار، يروي وقائعها أولًا كما تستجليها الذاكرة، ثم يقف محللا وقارئا ومفسرا لهذه الوقائع؛ وكأن وعي كاتب السيرة قد انقسم على ذاته نصفين: ذات أصبحت موضوعا للتأمل والإدراك والفحص والمراجعة والنقد! وذات تمارس هذا الفعل الفاحص على نفسها!

هكذا يحكي المسيري قصته مع الإسلام والشيوعية منذ شبابه المبكر، وتنقله من دمنهور التي نشأ فيها إلى الإسكندرية، ومنها إلى نيويورك، وأخيرًا القاهرة التي استقر بها ومات فيها. يقول المسيري "إن الإيمان لم يولد داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة، ولذا فإنه إيمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية، فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان، وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية".

(3)

هذه الفكرة الفلسفية المجردة يردها إلى جذورها في وقائع السيرة قبل الوعي بها كفكرة أو قبل صياغتها في صورتها المجردة! كيف؟

يروي المسيري ذات مرة أن أستاذ اللغة العربية (الأستاذ عوف) طلب منه وهو في السنة الثانية من المرحلة الثانوية أن يكتب موضوع إنشاء (تعبير) عن "حديقة منزلكم". ويعلق المسيري شارحا وموضحا ماهية هذا الإنشاء "لم تكن مادة نتعلم فيها كيف نرتب أفكارنا ونحولها إلى كلمات مكتوبة، وبنية منطقية متماسكة، وإنما كانت قوالب لفظية جاهزة نحفظها عن ظهر قلب ثم نرصها رصًا حين تحين المناسبة. من هذه القوالب التي ما زلت أذكرها مجموعة من الكلمات تعبر عن "موقفي" من الطبيعة: فهي تخلب اللب، وتشرح الصدر، وتملأ القلب روعة وجلالًا. وبالطبع كانت هناك الآيات القرآنية والأبيات الشعرية والأمثلة التي نرصع بها ما نكتب أو ما ننشئ".

لكنه سيتوقف عن كل هذا فجأة، يقف محتجا ومعارضا يقول "ضقت ذرعًا بكل هذا، فكتبت موضوع إنشاء أقول فيه ما أحس به. بدأ الموضوع بتأكيد أن منازل الفقراء ليس لها حديقة، وأن أطفالهم لا يعرفون معنى الحدائق، ويعيشون بين أكوام القمامة، وهاجمت الظلم الاجتماعي بشكل عام".

فكيف كانت نتيجة هذا الفعل الاحتجاجي كما عرضه صاحب السيرة ورواه بتفاصيله؟

ببساطة لقد أعطاه أستاذ اللغة العربية "صفرا" عن هذا الموضوع، وأبلغ أهل الدكتور المسيري عن كتاباته "الشيوعية". وبطبيعة الحال لم تكن لها أي علاقة بالشيوعية (التي لم أكن أعرف عنها شيئًا آنذاك) أو أي مذهب سياسي، وإنما كان تعبيرًا عن رفض فتى يافع للظلم الواقع على أعضاء المجتمع

(رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر - سيرة غير ذاتية غير موضوعية، لـ عبد الوهاب المسيري، الطبعة السادسة 2015 لـ دار الشروق)

(4)

لو توقفت كثيرا جدا أمام هذا الواقعة لاكتشفت أن المسيري قد منحنا مفتاحا دقيقا وصائبا لقراءة وتحليل وقائع وتفاصيل شديدة الخصوصية في حياة كل منا يمكنه من خلال التوقف عندها، برصدها أولا ولملمة خيوطها وتنظيما حكائيا ثانيا، أن يرد كثيرا من السلوكيات والآراء والمواقف إليها دون كثير عناء!

حكاية المسيري مع أستاذ اللغة العربية وتأثيره الجذري في مسار أحداث صاحب السيرة، تتكرر كثيرًا جدا، سلبًا وإيجابًا في كثيرٍ من نصوص الذكريات وكتب المذكرات وكتّاب السيرة، من أيام طه حسين (1927) وحتى "كنت صبيا في السبعينيات" لمحمود عبد الشكور (2016)، و"من أوراق الثمانينيات" لكاتب هذه السطور.

في موضع آخر تستوقفني هذه الفقرة التي أدرت عليها كتابة مقال بحثي طويل جدا حول ما آلت إليه أوضاع الدراسة والبحث داخل جامعاتنا في دائر الإنسانيات بالأخص. يقول المسيري:

"إن كلمة «أكاديمي» فقدت معناها، وأصبحت تشير إلى أي شخص عديم الخيال، يُلحق ببحثه قائمة طويلة بالمراجع، ويشرح أطروحته بطريقة مملة، ولا يُبدي أي رأي، ويحدث أصواتًا معرفية. وفي الدراسة التي كتبتها عن جمال حمدان نوهت بهذا العبقري الفلتة، فهو من القليلين الذين أفلتوا من قبضة (أو مستنقع) الموضوعية المتلقية، فبينت أن كتاباته ليست دراسات «أكاديمية» بالمعنى السلبي للكلمة، والتي عرَّفتها بأنها:

«الدراسة التي يكتبها أحد المتخصصين الأكاديميين دونما سبب واضح، ولا تتسم بأي شيء سوى أنها «صالحة للنشر» لأن صاحبها اتبع مجموعة من الأعراف والآليات البحثية (من توثيق ومراجع وعنعنات علمية موضوعية) تم الاتفاق عليها بين مجموعة من المتخصصين والعلماء".

(وما زال للحديث بقية)

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه السیرة

إقرأ أيضاً:

مراجعة الأصناف ولجنة للتحقيق.. مطالب برلمانية عاجلة لإنقاذ زراعة القطن

تشهد منظومة زراعة وتسويق القطن في مصر تقلبات متصاعدة، وسط شكاوى المزارعين من تأخر صرف مستحقاتهم المالية وعدم التزام الشركات بأسعار الضمان المعلنة من الحكومة.

وتصاعدت المطالب داخل مجلس النواب بضرورة تشكيل لجنة تحقيق عاجلة، إلى جانب مراجعة أصناف القطن لضمان تحسين الإنتاج والحفاظ على مكانة القطن المصري عالميا.

برلمانية: الشهداء ضحوا بأنفسهم ليهبوا أوطانهم الحياةبرلمانية: شهداء مصر رموز خالدة في ذاكرة الوطن ووجدان الأمةبرلماني: يوم الشهيد ونصر العاشر من رمضان ذكريات محفورة في وجدان الأمةبرلمانية الوفد: نستلهم من قصص شهدائنا العزيمة والإصرار وحب الوطن

وطالب النائب هشام الحصري، رئيس لجنة الزراعة والري بمجلس النواب، الحكومة ممثلة في الشركة القابضة للغزل والنسيج بضرورة الالتزام بأسعار الضمان التي أعلنها مجلس الوزراء مسبقا بشأن محصول القطن، مشددا على ضرورة صرف مستحقات المزارعين دون تأخير.

وقال الحصري خلال اجتماع لجنة الزراعة والري بمجلس النواب اليوم، إن الفلاح التزم بقرارات الحكومة وقام بزراعة القطن بعد حصوله على البذور من وزارة الزراعة، كما التزم بتوريد المحصول إلى الجهات المعنية، ومع ذلك لم يحصل على مستحقاته حتى الآن متسائلا "ما ذنب الفلاح في عدم التزام الشركات بقرارات الدولة".

طلبات إحاطة بشأن زراعة القطن في مصر

جاء ذلك خلال مناقشة اللجنة لطلبات الإحاطة المقدمة من النواب هشام سعيد الجاهل، آمال عبد الحميد، أحمد العرجاوي، محمد الحوفي، أحمد حمدي خطاب، وعبد الباقي تركيا، بشأن تدهور منظومة زراعة وتسويق القطن، وتضرر المزارعين من عدم حصولهم على مستحقاتهم المالية رغم التزامهم بتوريد المحصول إلى مراكز التجميع التابعة لمنظومة تسويق القطن منذ سبتمبر الماضي. 

وناقشت اللجنة عدم التزام الشركات بأسعار الضمان المعلنة من قبل مجلس الوزراء، وتدني إنتاجية الفدان بسبب ضعف جودة البذور المستخدمة، الأمر الذي ينذر بتراجع مكانة القطن المصري محليًا وعالميا.

صرف مستحقات المزارعين التزام قانوني

وأكد رئيس لجنة الزراعة والري أن الدولة سبق وأعلنت عن سعر توريد 12 ألف جنيه لقنطار القطن من وجه بحري، و10 آلاف جنيه لقنطار القطن من وجه قبلي، دون تحديد درجات للمواصفات والنقاوة وبالتالي لا يجوز التلاعب بحقوق الفلاحين.

وشدد على ضرورة صرف مستحقات المزارعين في أسرع وقت ممكن، التزاما بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين، محذرا من استمرار تجاهل حقوق المزارعين، لما لذلك من تأثير سلبي على قطاع الزراعة والاقتصاد القومي.

لجنة للتحقيق في تراجع جودة محصول الدقهلية

وفيما يتعلق بإحجام بعض الشركات عن شراء الأقطان الموردة من محافظة الدقهلية والتي تبلغ كميتها 159 ألف قنطار بسبب تراجع جودة المحصول طالب النائب هشام الحصري وزارة الزراعة بسرعة تشكيل لجنة فنية لبحث أسباب هذه المشكلة.

وأوضح أن المزارعين حصلوا على البذور من وزارة الزراعة والمشكلة تبدو عامة على مستوى المحافظة مما يعني أن الأمر لا يتعلق بأداء المزارعين بل قد يكون مرتبطا بجودة البذور التي تم توفيرها لهم.

وتساءل:" إذا كانت البذور ليست بالجودة المطلوبة أو تأخرت في الوصول للمزارعين فكيف يُحاسب الفلاح على ذلك".

مراجعة أصناف القطن لضمان الجودة

وشدد الحصري على ضرورة مراجعة أصناف القطن المزروعة، والعمل على تحسين جودتها في السنوات المقبلة، لضمان الحفاظ على سمعة القطن المصري عالميا.

تحذير من استمرار تأخير مستحقات الفلاحين

وأكد رئيس لجنة الزراعة أن اللجنة ستتابع الملف عن كثب، ولن تتهاون في حماية حقوق المزارعين، مشددا على ضرورة صرف مستحقات المزارعين خلال الأيام المقبلة.

مقالات مشابهة

  • دراسة: استبدال الزبدة ببعض الزيوت النباتية قد يقلل بشكل كبير من خطر الوفاة
  • الإدارة الذاتية للأكراد تدين أحداث العنف في سوريا.. جرائم طائفية لا تبني مستقبل البلاد
  • لا تجعل وجبة السحور تخلو من البذور والمكسرات.. لماذا؟
  • دروس وعبر من قصة سيدنا موسى.. ما هي معجزة شق البحر؟
  • مراجعة الأصناف ولجنة للتحقيق.. مطالب برلمانية عاجلة لإنقاذ زراعة القطن
  • في ساحة دار الأوبرا.. عرض السيرة الهلالية وأنشطة للأطفال وورش حرفية الثلاثاء المقبل
  • مسجد الميناء الكبير بالغردقة ينظم مسابقة دينية للسيدات عن السيرة النبوية
  • افتتاح بنك البذور المجتمعية في لحج لتعزيز الأمن الغذائي
  • مسجد قباء أول مسجد أسس في الإسلام يحمل في جنباته عبق السيرة النبوية
  • اليوم العالمي للمرأة 2025.. النساء الأكثر عرضة لأمراض المناعة الذاتية