عسكري تونسي يروي لـ عربي21 دوراليسار القومي والقذافي لخلافة بورقيبة
تاريخ النشر: 8th, February 2025 GMT
يصادف شهرا يناير وفبراير، وتحديدا يوم 27 يناير، من كل عام بالنسبة للعسكريين والسياسيين التونسيين الذكرى السنوية للهجوم الذي قام كومندوس مسلح مدعوم من النظامين الليبي والجزائري على ثكنات الجيش والأمن في مدينة قفصة في الجنوب التونسي، ضمن عملية تبنتها "الجبهة القومية لتحرير تونس"، التي كانت قياداتها تتدرب في ليبيا ولبنان.
وقد تسبب الهجوم المسلح في أزمة سياسية وأمنية طويلة بين تونس والنظامين الليبي والجزائري وحلفائهما في المشرق العربي، خاصة بعد أن أعلنت الأطراف العربية التي دعمتها عسكريا وسياسيا واعلاميا، وبينها اطراف فلسطينية ولبنانية "قومية يسارية"، أن من بين أهدافها اسقاط النظام التونسي بزعامة الحبيب بورقيبة ورئيس حكومته المرشح القوي لخلافته الهادي نويرة ، والذي كان في خلاف قوي مع الرئيس الليبي معمر القذافي لعدة أسباب من بينها قربه من باريس وواشنطن وبقية العواصم الغربية.
الإعلامي والأكاديمي كمال بن يونس التقى محمد العماري الضابط السابق في جيش المدرعات في الجنوب التونسي، الذي عايش الأحداث، باعتبار الوحدات العسكرية في محافظات الجنوب والوسط دعيت للتدخل في منطقة قفصة لمحاصرة "ثوار الجبهة القومية" والسيطرة على الوضع ميدانيا، وأجرى معه الحوار التالي:
س ـ السيد محمد العماري.. كنت يوم 27 يناير من 1980 عسكريا في جيش المدرعات في الجنوب التونسي، عند اندلاع المواجهات المسلحة الدامية في مدينة قفصة في الجنوب الغربي التونسي (التي تبعد عشرات الكيلومترات فقط عن الحدود الجزائرية).. كيف عشت ذلك اليوم والأحداث التي أعقبته وتطورت إلى تأسيس إذاعة تبث من ليبيا سميت "إذاعة قفصة، صوت الثورة التونسية"، في مرحلة كان فيها النظام الليبي بقيادة معمر القذافي وعبد السلام جلود ورفاقهما "القوميين العرب" في تونس والجزائر نظموا سلسلة من العمليات الأمنية والعسكرية التي حاولت اسقاط النظام التونسي أو إرباكه بسبب معارضته مشاريع تقدم بها مرارا رسميون جزائريون وليبيون بتشكيل "وحدة ثلاثية تمهيدا للوحدة العربية الشاملة"؟
ـ أولا نحن كعسكريين وطنيين اعتبرنا تلك العملية عملا إرهابيا ومنفذوها إرهابيين.. ومازلت أعتبرها كذلك.. ةكنت وقتها عسكريا في فوج وحدة المدرعات في ثكنة الجيش الوطني في قابس شرقي الجنوب التونسي .
سمعنا فجرا بالهجوم المسلح على مدينة قفصة ووحداتها العسكرية والأمني، فصدرت الأوامر إلينا بتعزيز قوات الجيش فيها فانطلقنا مع دباباتنا وأسلحتنا الثقيلة مع حوالي التاسعة صباحا. ووصلنا في حدود الثانية ظهرا إلى المعسكر فيها .
وقد علمنا فور وصولنا إلى قفصة أن "فوج المدرعات والاستطلاع" في مدينة القصرين بقيادة العقيد الطاهر بوبكر سبقنا إلى عين المكان وقام بمهمات استطلاعية وميدانية مكنت من السيطرة جزئيا على الأوضاع وبدء مطاردة أعضاء المسلحين المهاجمين وضرب حصار للإفراج عن العسكريين المتدربين الذين اختطفهم المهاجمون واحتجزوهم في قاعات مدنية خارج ثكنة الجيش والأمن .
في اليوم الموالي وصلت إلى محافظة قفصة تعزيزات عسكرية وأمنية من عدة جهات في البلاد. ونجح فوج من قوات "الطلائع" التابعة لقوات الجيش من تونس العاصمة ومنطقة بنزرت في تمشيط الأحياء التي فر إليها "الكومندوس" المهاجم، وبينها "حي النور" في مدينة قفصة .
كما وقع تعزيز قوات الجيش التونسي في قفصة بوحدتين من قوات المشاة من ثكنات محافظتي الكاف (الحدودية مع الجزائر) وقابس (جنوبي شرقي البلاد).
ورغم توسع الحملات الإعلامية ضد الدولة التونسية والسلطات من قبل إذاعات ليبية وعربية كانت تخاطب الشعب التونسي باسم "الجبهة القومية لتحرير تونس" وتدعوه للثورة على "النظام العميل والخائن والتابع لفرنسا بزعامة الرئيس بورقيبة ورئيس حكومته الهادي نويرة"، فان الشعب لم يتعاطف مع "الكومندوس". وصدرت مواقف عن النخب تعارض سيناريوهات "الثوريين الوحدويين" المدعومين من نظام القذافي وجناح في النظام الجزائري.
وقد تواصلت الدعاية الليبية والحملات الإعلامية لمدة أسابيع وأشهر، خاصة عبر أمواج "إذاعة قفصة" التي كانت تبث من ليبيا، ووقع تجنيد تونسيين لمخاطبة الشعب عبر أمواجها وحث الشعب التونسي على الثورة والتمرد.
كما واصلت الإذاعات الليبية الرسمية و"القومية العربية" نشر خطب للعقيد معمر القذافي ونائبه عبد السلام جلود ورفاقهما تحرض الشعب التونسي ومختلف جهات البلاد على "إسقاط نظام بورقيبة ورئيس حكومته الهادي نويرة".
وشاءت الأقدار أن أصيب الهادي نويرة بجلطة دماغية بعد أسابيع عن الهجوم فغادر السلطة تدريجيا وعين محمد مزالي وزير التربية خليفة له، وهو ما ساهم في تهدئة الأوضاع السياسية بعد أن نجحت قواتنا العسكرية في إجهاض الهجوم المسلح .
قوميون عرب تدربوا على السلاح في ليبيا ولبنان والبوليزاريو
س ـ حسب مؤشرات عديدة كان هذا الهجوم المسلح، الذي كلفت به تنظيمات تابعة "للجبهة القومية لتحرير تونس" المحسوبة على "التيار الناصري العصمتي" والقريبة من الحزب الحاكم في الجزائر وجبهات تحرير فلسطينية مسلحة بينها "الجبهة الشعبية"، حلقة جديدة من الصراعات الداخلية والإقليية ضمن ما عرف بـ "معارك خلافة الرئيس بورقيبة المريض"؟
ـ فعلا هذا صحيح ..
وقد اندلعت الأحداث في مرحلة كان فيها الرئيس بورقيبة في إجازة مفتوحة في استراحته في واحات النخيل في منطقة نفطة توزر، موطن شاعر تونس الخالد أبو القاسم الشابي، التي تبعد حوالي مائة كيلومتر فقط عن مدينة قفصة .
وتسببت تلك الأحداث وقتها في معارك سياسية وإعلامية إقليمية ودولية غير مسبوقة بين "النظام القومي الوحدوي الحاكم في ليبيا" وأنصاره في الجزائر وتونس من جهة و"التيار الحداثي التونسية الذي يتزعمه الحبيب بورقيبة ورئيس حكومته الهادي نويرة" المدعوم من فرنسا والنظام المغربي وفرنسا .
وكان هذا التيار عارض بقوة منذ أوائل السبعينيات اقتراحا تقدم به الرئيسان الجزائري هواري بومدين والليبي معمر القذافي خلال اجتماعها مع بورقيبة على الحدود الجزائرية التونسية في 1973 لإعلان "قيام وحدة ثلاثية بين ليبيا وتونس والجزائر" .
لكن منذ سنة 1975 بدأ نظام القذافي، بالتنسيق مع جناح في النظام الجزائري، في استقطاب بعض المعارضين التونسيين "اليساريين والقوميين ".
وكان من بين هؤلاء القوميين واليساريين مَن شارك في الحركة الوطنية التونسية ثم انشق عن بورقيبة وأنصاره وانضم إلى "المعارضة اليوسفية" والتجأ إلى الجزائر، مثل الزعيم إبراهيم طوبال ورفاقه، أو إلى ليبيا حيث أقيمت معسكرات تدريب وتم تشكيل ما سُمي "بالجبهة التقدمية لتحرير تونس".
وتمثل دور هؤلاء في فتح معسكرات وتأليف معارضة سياسية مسلحة لتغيير الوضع السياسي في تونس وإنجاز "الوحدة العربية" السياسية التي كان القذافي وهواري بومدين حريصين على الوصول إليها.
وخلال عقد السبعينات من القرن الماضي استفحلت مظاهر تدخل نظام القذافي في البلاد التونسية، بدعم من السلطات الجزائرية بزعامة هواري بومدين والقيادات العسكرية التي كانت مسؤولة عن "جبهة البولساريو" الانفصالية التي دربت بدورها مسلحين تونسيين وليبيين وعرب .
وقدد عمد أنصار القذافي والنظام الجزائري إلى تدرين مجموعات من "المرتزقة" من التونسيين من ذوي التوجهات "الوحدوية التقدمية" و"العروبية اليسارية" في معسكرات تشرف عليها المخابرات الليبية .
ومع حلول عام 1980 أرسل "الثوار المسلحون بأسلحة ثقيلة" لاحتلال مدينة قفصة بالجنوب الغربي تمهيدا لما برمجوه من "ثورة شعبية مسلحة" ضد النظام التونسي في كامل البلاد بهدف إسقاطه.
أغلب قادة هذه الميليشيات ينتمون إلى "الجبهة القومية التقدمية" ذات الانتماء "الوحدوي العروبي". وهو تنظيم له حسابات قديمة مع النظام البورقيبي في تونس ترجع إلى فترة تصفية الحركة الوطنية وجناحه "العروبي" بزعامة الأمين العام للحزب صالح بن يوسف، الذي تحالف في مرحلة خلافه مع بورقيبة ما بين 1955 و1962 مع جمال عبد الناصر وقيادة الحركة الوطنية الجزائرية بزعامة أحمد بن بلا وهواري بومدين .
وفعلا تمكن هؤلاء المسلحون من الدخول إلى غربي جوب تونس عبر الجزائر، بالرغم من كون بعضهم من بين المطاردين أمنيا وسبق أن حوكم في الستينيات في المحاولة الانقلابية التي تزعمها في شهر ديسمبر/ كانون الأول الأزهر الشرايطي القيادي السابق للمقاومة الوطنية التونسية المسلحة الذي عينه الرئيس بورقيبة مديرا لأمن القصرالرئاسي .
وقد نجح الكومندوس "القومي العربي" الذي هاجم مدينة قفصة في كانون ثاني/ نياير 1980 في استقطاب عدة عناصر أخرى من داخل تونس ـ بدعم من الزعيم السياسي للمجموعة "عز الدين الشريف" أصيل مدينة قفصة، الذي كان حوكم في الستينات مع الزعيم العسكري أحمد الميرغني بالسجن في المحاولة الانقلابية لعام 1962 ثم بالانتماء إلى حركات سرية قومية قريبة.
وتوقع قادة هذه التنظيمات القومية العروبية المسلحة ، حسب ما جاء في التحقيق معهم بعد فشل العملية، أن يقع تعزيز فريقهم المهاجم ب 500 مقاتلا مدربا في ليبيا ولبنان والبوليزاريو وهو ما لم يحصل.
كما لم يتحقق "الدعم الشعبي" من قبل المواطنين في الجنوب التونسي وتحديدا من جهة قفصة، بالرغم من كونها كانت موطن عدد من المعارضين الذين سجنوا أو أعدموا بأمر من الرئيس بورقيبة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 1962 .
لماذا مدينة قفصة الحدودية مع الجزائر؟
س ـ لماذا وقع الاختيار على مدينة قفصة لانطلاق العملية دون غيرها من المدن الحدوديّة التي تشترك جميعها تقريبا في البؤس والتهميش؟
ـ يرى بعض الباحثين أن عامل الفقر والتهميش لم يكن العامل الأهم في الاختيار وإنما لموقعها الجغرافي القريب من الحدود الجزائرية مما سهل توفير الأسلحة والقدرة على المناورة عند التسلل أو الانسحاب.
كما لعب عامل الانتماء الجهوي دورا هاما لجل العناصر المشاركة في الهجوم على المدينة، وعلى رأسهم"عز الدين الشريف" القائد السياسي للعملية .
هذه العوامل كان في اعتقاد "عز الدين الشريف" ومن خطط معه، كافية لتوفير حاضنة شعبية تيسر لهم احتلال المدينة وعزلها عن نظيراتها لتكون قاعدة "لثورة شعبية قومية عربية تعم البلاد كاملة" وتغير نظام الحكم.
لكن فاتهم أن الشعب التونسي مهما بلغت نقمته على النظام لا يلجأ لحمل السلاح، كما يمكن له أن يتعاطف مع مجموعة مضطهدة أو تيار معارض للسلطة لكنه لا يضحي بنفسه من أجلها.
أسلحة سوفييتية
س ـ يتردد أنه وقع التمهيد لمدة أعوام لعمليات شن "الحرب الشعبية" أو " تفجير الثورة الشعبية القومية لإسقاط النظام" في محافظة قفصة؟
ـ فعلا تكشف المعطيات، أنه منذ منتصف سنة 1978، أي بعد المواجهات الدامية في يناير بين السلطات وقيادات النقابات المدعومة سياسيا من قبل النظام الليبي، اكتشفت إحدى الدوريات للجيش الوطني في الجنوب كمية من الأسلحة على الحدود التونسية الليبية مخزنة في صناديق.
وبعد التحقيق اتضح أن هذه الأسلحة سوفييتية الصنع وأنها ليست معتمدة من قبل الجيش والأمن التونسيين. واتضح أنها أسلحة ليبية موضوعة على ذمة عصابات التهريب والإرهاب لتخزينها في المدن التونسية واستعمالها في الوقت المناسب "بعد تفجير ثورة شعبية مسلحة" مدعومة من قبل الإعلام الليبي والنظامين الجزائري والليبي. وقد قررت القيادة في الجيش الوطني على إثرها تشديد الحراسة على الحدود الجنوبية وإرسال كتيبة مراقبة شهريا من بقية الأفواج داخل البلاد لتعزيز الحراسة على الحدود الجنوبية الشرقية بالتداول لمدة أسابيع معلومة.
قد يكون الهدف من هذه الكمية من الأسلحة هو جَسّ النبض من قبل الاستخبارات الليبية للتأكد من مدى جاهزية ويقظة حراسة الحدود الصحراوية قبل الشروع في تنفيذ مخططهم، وقد يكون كذلك طعما لتحويل الأنظار عن الحدود الغربية للبلاد التونسية، للتسرب من الجنوب الغربي عبر التراب الجزائري. وهو ما تم بالفعل.
دور جزائري
س ـ تؤكد مصادر عديدة أن جناحا في السلطات الجزائرية وقتها، بزعامة الشريف مساعدية القيادي في الحزب الحاكم والعقيد سليمان هوفمان ، كان طرفا في الهجوم على قفصة التونسية مع السلطات الليبية بزعامة معمر القذافي..
ـ فعلا تاكدت المعلومات عن "التسهيلات " التي حصل عليها الكوندوس من الجزائر سواء عند تهريب الأسلحة إلى قفصة عبر الحدودية التونسية الجزائرية، أو عند تسريب عناصر الميليشا المسلحة .
ويعلم الجميع أنه لا يمكن المرور عبر الأراضي الجزائرية دون تواطؤ من بعض أجهزة المخابرات الجزائرية في عهد الرئيس الراحل الهواري بومدين وأوائل عهد الرئيس الشاذلي بن جديد.
وكشفت الأبحاث مع القائد السياسي لكومندوس الهجوم على قفصة "عز الدين الشريف" أنه كان يعرف منذ القدم قيادات جزائرية رسمية وأنه التقى في قصر الرئاسة الجزائرية الرئيس الأسبق هواري بومدين قبل تشكيل جبهته المسلحة القومية العروبية وقبل تنفيذ هجومه بسنوات .
كما أقر بوجود علاقة تربطه بالسلطات الجزائرية وبجهاز مخابراتها، وهي العلاقة التي تطورت أثناء اشتغال "عز الدين الشريف" لصالح جبهة البوليساريو الصحراوية والنظام الجزائري.
لكن السلطات السياسية التونسية تعمدت لأسباب سياسية وأمنية التعتيم على علاقة "الكومندوس" بالجزائر واكتفت بالتشهير بنظام القذافي الذي كانت علاقاته متوتر مع الغرب ومع بورقيبة وعدة عواصم عربية .
ولعل وفاة هواري بومدين فجأة وتعيين الشاذلي بن جديد خليفة له ساهما في فشل العملية بفقدانها لجانب من السند السياسي رفيع المستوى .
كما تبرأ الشاذلي بن جديد لاحقا من العملية ونفى للمسؤولين التونسيين أن يكون طرفا فيها .
تفاصيل "الثورة المسلحة الفاشلة "
س ـ وماذا يمكن أن يذكر اليوم باختصار عن هذه "الثورة المسلحة الشعبية ّالتي اجهضها الجيش التونسي في ظرف بضعة أيام؟
ـ لقد تم تهريب الأسلحة والذخيرة داخل المدينة قبل أشهر من وقوع العملية ثم وصل "المرتزقة" في شكل مجموعات عبر الجزائر كما أسلفنا، واستقروا في أحد أحياء المدينة في انتظار ساعة الصفر تحت إشراف "عز الدين الشريف" القائد السياسي للعملية وأحمد الميرغني "قائدها" العسكري..
بدأت الأحداث بإطلاق قذيفة بازوكا RPG كإشارة انطلاق ليهاجموا بالتوازي مراكز الشرطة والحرس وثكنتين بالمدينة قبل أن يكدسوا الأسلحة والذخيرة في الشوارع ويوجهوا دعواتهم إلى الأهالي للانضمام إلى "الثورة المسلحة" والإطاحة "بالنظام البورقيبي".
تمكن المهاجمون في صبيحة يوم 27 يناير من السيطرة على بعض أجزاء من المدينة بعد أن سقطت المراكز الأمنية وثكنة الجيش الخارجية في أيديهم التي كانت تأوي 300 من المجندين الجدد العزل من السلاح وهم تحت تأثير التطعيم الذي يستوجب راحة تامة 48 ساعة، في حين استعصت عليهم ثكنة المدينة..
وفي حدود الساعة الثامنة صباحًا حسب شهادة بعض الناجين من الجنود الرهائن، تجمع كل المهاجمين في ثكنة التدريب وساقوا كل من فيها (حوالي 300 مجند) تحت وابل من النيران من خلفهم إلى معهد ثانوي قريب حيث تم احتجازهم كرهائن في قاعة رياضية هناك.
وكانوا بذلك قد سهلوا من حيث لا يقصدون، مهمة قوات التدخل في التعامل مع العملية.
هذه "السيطرة" لم تدم طويلا بسبب عدم استجابة سكان مدينة قفصة للنداءات المتكررة لحمل السلاح وتدخل الجيش بعد ساعات. فتمركز بسرعة في المدينة وفي الثكنات بعد تفتيشها ومن ثمة تطويق المعهد أين يتمركز المهاجمون ويحتجزون الجنود.
وبعد ساعات وقع الهجوم والاشتباك مع المهاجمين. ولم تغرب شمس يوم 27 جانفي حتى تحرر الرهائن وألقي القبض على بعض العناصر الإرهابية المهاجمة ممن كتبت لهم الحياة أثناء الهجوم.
أما البقية، فمنهم من سلم نفسه ومنهم من ألقيَ عليه القبض في الأيام التالية بعد تمشيط منطقة "حي النور" واحتجاز كميات كبيرة من الأسلحة والوثائق وأدوات اتصال.
مخلفات العملية
س ـ وماهي حصيلة هذه " لثورة الشعبية المسلحة الفاشلة" التي قادتها ميدانيا "الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس" المدعومة وقتها من طرابلس والجزائر؟
ـ كانت حصيلة العملية الغادرة 45 شهيدا من عسكريين وأمنيين ومدنيين (من بينهم 24 من المجندين) وجرح ما يفوق عنى المائة. حسب تقرير ختم البحث لمحكمة أمن الدولة، المنشور بجريدة العمل لسان الحزب الحاكم بتاريخ 28 مارس 1980 .
وقد أحيل الموقوفون وكل من ذكره التحقيق على محكمة أمن الدولة في العاشر من مارس وبعد أكثر من أسبوعين أصدرت حكمها بإعدام 13 نفذ فيهم جميعا يوم 17 أبريل 1980 بالسجن المدني بتونس باستثناء عنصرين من بينهم تحصنا بالفرار.. أما البقية فقد تراوحت أحكامهم بين السجن المؤبد والحكم بالسجن مع تأجيل التنفيذ والبراءة لعشرين متهما.
صراعات بورقيبة ونظام القذافي
س ـ كيف تفسر دخول النظامين التونسي والليبي في صراعات سياسية وإعلامية طويلة منذ وصول العقيد القذافي ورفاقه "الناصريين" إلى الحكم في 1969؟ هل كان الخلافات سياسية أساسا أم كانت بسبب مشاركة النظام الليبي وعدد من المقربين إليه والمتحالفين معه في تونس في الصراعات داخل تونس ضمن ما عرف بمعركة خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة الذي استفحل به المرض وتقدم به السن؟
ـ أعتقد أن طبيعة النظاميين السياسيين في تونس وليبيا، ونرجسية زعيميهما على مستوى الطموح الشخصي للرجلين كانت وراء كل التوترات بين البلدين التي أدت إلى انعكاسات سلبيّة مباشرة على الشعبين .
فإذا كان العقيد القذافي مهووسا بـ "النظام الاشتراكي" وقيام "دولة الوحدة" فإن بورقيبة بالمقابل كان يركز على بناء وحدة الدولة القطرية "الأمة" وتركيز نظام سياسي ليبرالي مستقر مبنيّ على عدم الانحياز في السياسة الخارجية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وخاصة دول الجوار.
كما كان بورقيبة كثيرا ما يعتد بنفسه لما كان يتميز به عن غيره ـ من الزعامات العربية ـ من وعي عميق بـ"مخالب سياسة النظام الدولي الذي سطره المنتصرون في الحرب العالمية الثانية" أثناء مؤتمر يالطا سنة 1945.
بورقيبة له قناعات عميقة في فهمه للحداثة ووعيه بالتاريخ اللذان أثرا في سيرته الذهنيّة والنفسيّة في التعاطي مع الحاضر بأكثر براغماتية. فهو يُقر بالضعف دون يأس من الاستقواء، ويؤمن بأسباب المناعة لدى العالم المتقدم دون استنساخ الشكل. ولعل أهم خلاف برز منذ خطاب الرئيس بورقيبة في قاعة سينما "البالمريوم" في العاصمة تونس في ديسمبر سنة 1972 في تجمع شعبي تونس كان العقيد القذافي يلقي فيه خطابا عن " الوحدة العربية " و" الوحدة بين تونس وليبيا " ..
دعا القذافي إلى "وحدة اندماجية فورية" بين البلدين بمنهج فوقي. لكن بورقيبة رد عليه وتحدث بعقلانيّة فائقة على كون "الوحدة الترابية والسياسية بين الأنظمة ليست هدفا في حد ذاتها ما لم يسبقها تكامل اقتصادي واجتماعي يتم بالتدرج"، تُبنى على أسس التكامل المستدام حتى تستفيد منها الشعوب في المقام الأول..
كما حذر بورقيبة الرئيس الليبي في نفس الخطاب وفي خطابات لاحقة من مغبة التنطع والدخول في معارك خاسرة مع" الكبار"، من شأنها تحطيم الجانب المعنوي للأمة وهو أغلى ما اكتسبته بعد معارك التحرير التي خاضتها ضد المستعمر.. واعتبر بورقيبة أن المعارك الحقيقية بعد الجلاء العسكري للاحتلال هي تلك التي يجب على الأمة أن تخوض غمارها دون هوادة ضد الجهل والتخلف والانحطاط، وذلك بعدم تنكّب سبل العلم والمعرفة، ومنها اكتساب أسباب القوة لكسب رهان التحرر من التبعيّة للاستعمار الاقتصادي والمعرفي والثقافي.
لكن الغريب في الأمر أن هذه الرؤية الموضوعية والخطاب العقلاني، قد ضاعا وتبخرا بعد أقل من سنتين، أمام شخصيته المهوسة بجنون العظمة والغرور بالزعامة، حيث أمضى في جزيرة جربة، وبصفة فاجأت العالم بما في ذلك فريق حكومته، وثيقة الوحدة الاندماجية مع القذافي في 12 كانون ثاني / يناير 1974.
هذه الوثيقة "الوحدوية" التي تصدت لها القوى السياسية داخل النظام التونسي وأدخلتها طي النسيان بعد ساعات من ميلادها، بزعامة الهادي نويرة رئيس الحكومة، كانت نتاج الحكم الفردي والقرار الفوقي الذي كان يخضع لمزاج لبورقيبة الزعيم وليس بورقيبة الرئيس على حساب آليات ومؤسسات الحكم.
وسرعان ما أصبح هذا الحدث فيما بعد، مصدرا رئيسيا في توتر العلاقات واضطرابها بين النظامين الليبي والتونسي لعدة سنوات متعاقبة: وصل الأمر فيها إلى حد العدوانية والانتقام الدموي من قِبَل النظام الليبي.
بقي التوتر والحذر سيدا الموقف بين البلدين منذ ذلك العهد. وواصل نظام طرابلس استفزاز النظام في تونس والتحريض عليه ومحاولة تفجير هزات داخلية اجتماعية من شأنها إرباك النظام التونسي وإسقاط حكومة الهادي نويرة المستهدف شخصيا من قِبَل نظام القذافي باعتباره حجر العثرة أمام الوحدة مثلما يحمله القذافي شخصيا فشل اتفاق جربة.
وفي شهر مارس من سنة 1976، ألقي القبض في تونس على ثلاثة عناصر من الاستخبارات الليبية جاءت لتنفيذ مخطط اغتيال الوزير الأول الهادي نويرة باعتباره المسؤول الأول على إبطال مسعى وثيقة جربة وإفشالها.
حوكم أفراد هذه المجموعة بعد شهر في محكمة أمن الدولة التي قضت بإعدام قائدها وسجن الآخرين. فعمد النظام الليبي بعدها ردا على المحاكمة إلى أسر ثلاثة جنود تونسيين من المركز الصحراوي المتقدم "مشقيق" على الحدود الليبية التونسية حيث كانوا بصدد جلب المياه من بئر على التماس، حين باغتتهم ثلاث سيارات للمخابرات الليبية وتم اختطافهم للمساومة بهم. وهو ما تم فعلا سنة 1977 حيث عدلت السلطات التونسية عن تنفيذ حكم الإعدام واضطرت لمبادلة الإرهابيين بالجنود الثلاثة المختطفين.
كما انفجر تنازع تونسي ليبي على المخزون البترولي بالجرف القاري في المياه الفاصلة بين البلدين والذي كاد أن يتحوّل إلى نزاع مسلح بين البلدين الجارين.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير التونسيين تونس تاريخ حوار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الجنوب التونسی النظام الجزائری الرئیس بورقیبة الجبهة القومیة النظام التونسی النظام اللیبی الهجوم المسلح الشعب التونسی معمر القذافی هواری بومدین نظام القذافی بین البلدین على الحدود التی کانت فی مدینة فی لیبیا التی کان الذی کان فی تونس من بین وهو ما ة التی کان فی من قبل
إقرأ أيضاً:
تأكيد ليبي تونسي على تسهيل حركة المسافرين في رأس اجدير وذهيبة
أجرى وفد من مصلحة الجمارك الليبية زيارة رسمية إلى تونس، لبحث بتسهيل حركة المسافرين والتبادل التجاري بين البلدين، وتيسير الحركة التجارية عبر معبري رأس اجدير وذهيبة.
وأكد الجانبان التزامهما بتعزيز التعاون والعمل المشترك لتذليل العقبات التي تواجه المسافرين وحركة التجارة، بما يسهم في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين.
الوسومرأس اجدير ليبيا