سودانايل:
2025-02-08@12:50:43 GMT
الدولة ليست نبيًا، والحاكم ليس قديسًا: عن هشاشة السلطة وسرمدية الوهم
تاريخ النشر: 8th, February 2025 GMT
ليس من مهمة الدولة إدخالك الجنة. ليست وظيفتها أن تقودك إلى المطلق، ولا أن تُلقنك شكلًا واحدًا للخلاص، ولا أن ترسم لك طريقًا سرمديًا نحو النجاة.
الدولة، في جوهرها، كيان مادي، هش، مؤقت، قائم على التفاوض بين المصالح، خاضع لقوانين التاريخ والتقلبات الاجتماعية. لا يمكنها أن تدّعي امتلاك مفاتيح الأبدية.
ومع ذلك، ما زالت السرديات السلطوية تصرّ، بإلحاحٍ وضاعة، على الالتفاف حول العقل الجمعي، وتدجينه عبر منظومات الخطاب الديني والسياسي، بحيث يُغلق الأفق أمام أي محاولة للفكاك من قبضتها.
لكن لماذا تحتاج السلطة إلى الدين؟ ولماذا يتكئ المستبد على رجل الدين كما يتكئ الاعرج على عصاه؟
يبدو الأمر وكأنه استدعاءٌ مقصود لوهم السرمدية، حيث يحاول الحاكم، كيانٌ زائل بحكم التاريخ، أن يُلبس نفسه رداء المقدس، أن يعبر هشاشته عبر أوهام الإطلاق، أن يتمدد في الزمن عبر أذرع الأيديولوجيا اللاهوتية.
منذ اللحظة التي يدرك فيها أي نظام سلطوي محدوديته، يبدأ في استدعاء الغيبي، يحتمي به، يستخدمه كسلاحٍ ضد أي محاولة لتفكيك بنيته.
السردية هنا ليست جديدة: الملك الذي يتوجّه بمباركة الكهنة، الخليفة الذي يُسمى “ظل الله في الأرض”، الطاغية الذي يحيط نفسه بفقهاء السلطة، في مشهدٍ كاريكاتوري يختزل ألفيةً من التاريخ في صورةٍ واحدة، حيث يجلس السياسي في مركز الهيمنة، بينما يجلس رجل الدين على حافة المشهد، كمجرد انعكاسٍ سلطوي لصورة الحاكم.
حين تتحول الدولة إلى وسيطٍ بين الإنسان والمطلق، يصبح الدين أداةً لإعادة إنتاج السلطة، لا مشروعًا روحيًا مستقلًا. لا تكتفي الدولة بتطويع الدين لخدمتها، بل تحوّله إلى خطابٍ مغلق، لا يسمح بأي تأويلٍ خارج المسموح به، ويُستخدم لتبرير الاستبداد، وتشريع الإقصاء، وعزل المثقف أو نفيه أو التخلص منه أو جعله ضمن منظومة الهيمنة.
يتحول الفقر إلى “ابتلاء”، والقمع إلى “حماية”، والصمت إلى “حكمة”.
لا يعود الإيمان مسألةً شخصية، بل يتحول إلى ميثاقٍ اجتماعيٍ قسري، تفرضه السلطة كإجراءٍ إداري، كجزءٍ من البيروقراطية السلطوية، حيث يصبح التدين علامةً إجبارية على الولاء، لا اختيارًا فرديًا ينتمي إلى حقل التجربة الداخلية للإنسان.
في السودان، لم يكن نظام الجبهة الإسلامية إلا امتدادًا فجًّا لهذه السردية، حيث استخدم الإسلاميون الدين غطاءً لتبرير حكمهم، وحوّلوا جهاز الدولة إلى مؤسسةٍ لإعادة إنتاج الطاعة تحت لافتة الشريعة.
حين استولت الجبهة الإسلامية على السلطة بانقلاب 1989، قدمت خطابًا قائمًا على أن الحكم الإسلامي هو الطريق إلى “المدينة الفاضلة”، حيث يصبح السودان نموذجًا “للدولة الرسالية” التي تقود العالم الإسلامي.
لكن في الممارسة، لم يكن هذا المشروع سوى إعادة تدويرٍ لصيغ الاستبداد الكلاسيكي، مع إضفاء طابعٍ ديني يمنحه غطاءً شرعيًا.
تحولت الدولة إلى مؤسسةٍ عقائدية، تُوظف فيها أجهزة الأمن والمخابرات، ليس فقط لقمع المعارضين، بل لمراقبة إيمان الأفراد، حتى بات الولاء للنظام يتجسد في الشعائر والتصريحات قبل أي شيءٍ آخر.
لم يكن الهدف خلق مجتمعٍ أكثر تدينًا، بل خلق مجتمعٍ أكثر خضوعًا، حيث يصبح التدين جزءًا من البنية البيروقراطية للهيمنة.
كما في كل الأنظمة التي تستخدم الدين كأداة، كان لا بد من تصفية المثقفين الذين يشكلون تهديدًا لهذا البناء.
لم يكن من الممكن السماح لأي خطابٍ بديل أن ينمو، فإما أن يتم تدجين المثقف داخل المنظومة، عبر تقديمه كواجهةٍ دينية “معتدلة”، أو يتم نفيه تمامًا، سياسيًا أو حتى جسديًا.
هكذا وجدنا عشرات المفكرين السودانيين يختارون المنافي، بينما أُفرغت الساحة الثقافية لصالح خطابٍ دينيٍ مؤدلج، يُعيد إنتاج نفسه عبر فقهاء السلطة، الذين تحولوا إلى أدواتٍ ناطقةٍ باسم النظام.
في المقابل، كان الشيوخ والفقهاء الرسميون يتمتعون بامتيازات السلطة: القصور، والصفقات، والظهور الإعلامي المكثف، في حين كانت المساجد المستقلة تتعرض للمضايقة، وأحيانًا الإغلاق.
لم يكن الدين هو المقصود في ذاته، بل كان مجرد قناعٍ سياسيٍ لتمرير مشروع الهيمنة، حيث تتحول المنابر إلى أداة ضبط، لا إلى فضاءٍ للبحث عن المعنى أو للحوار المفتوح.
لكن لماذا تصرّ السلطة على التلبّس بالمقدس؟ ولماذا تعيد إنتاج هذا النموذج رغم فشله؟
الإجابة تكمن في طبيعة السلطة ذاتها، في حاجتها الدائمة إلى تبرير وجودها عبر أدواتٍ ما فوق سياسية.
السياسة، في جوهرها، تقوم على الصراع والموازنة والمصالح، وهي جميعًا أمورٌ نسبية، متغيرة، مؤقتة.
الدولة التي تفقد قدرتها على إقناع الجماهير بشرعيتها من خلال الإنجاز والتنمية، تلجأ إلى استراتيجيةٍ أخرى: تحويل الشرعية إلى سرديةٍ لاهوتية، بحيث لا تعود المسألة متعلقةً بكفاءة الحكم، بل بقدسيته، بحيث يصبح الاعتراض على السلطة نوعًا من التجديف، وتصبح المعارضة السياسية ضربًا من الخروج على النص المطلق، لا على القانون الوضعي.
لكن إذا كانت الدولة ليست مسؤولةً عن خلاص الأفراد، فلماذا تصرّ على لعب هذا الدور؟ ولماذا يصرّ بعض الأفراد على قبول هذه السردية، حتى عندما تكون ضد مصالحهم المباشرة؟
الإجابة تكمن في ما أسماه أنطونيو غرامشي بـ”الهيمنة الثقافية”، حيث لا تفرض السلطة سيطرتها فقط بالقوة، بل عبر التحكم في الخطاب، في الأفكار، في ما يُقال وما لا يُقال.
السلطة الأكثر إحكامًا ليست تلك التي تضطهدك، بل تلك التي تقنعك بأن اضطهادها هو شكلٌ من أشكال الحماية، وأن قمعها لك هو نوعٌ من الرعاية، وأن بقاءها ضروري، حتى لو كان ثمن ذلك هو اختناق المجال العام، وانغلاق الأفق، وانعدام أي إمكانيةٍ لتصور مستقبلٍ خارج الهيمنة.
لكن هل نكتفي بالنقد، أم نطرح سرديةً مضادة؟ هل يمكن تصور دولةٍ لا تحتكر الدين، ولا تُفرغه من مضمونه الإنساني، ولا تستخدمه أداةً في مشاريع السلطة؟
الدولة التي لا تزعم احتكار الحقيقة ليست بالضرورة دولةً ليبراليةً متوحشة، ولا دولةً فوضويةً بلا معنى.
يمكن تصوّر دولةٍ مدنية، اشتراكيةٍ ديمقراطية، تضمن الحقوق دون أن تفرض الوصاية، تحترم الإيمان دون أن تؤدلجه، تتيح المجال للنقد دون أن تمتصّه داخل آلتها البيروقراطية.
في النهاية، الدولة ليست نبيًا، ولا الحاكم قديسًا، ولا النظام السياسي كيانًا سرمديًا.
إنها جميعًا مؤسساتٌ بشرية، قابلةٌ للتغيير، قابلةٌ للزوال، لا تحمل أي قيمةٍ مطلقة، ولا تمتلك أي شرعيةٍ فوق تاريخية.
وإذا كان الإنسان سيحاسب فردًا، فلا مبرر لأن يُفرض عليه طريقٌ واحد، مرسومٌ بأيدي رجال السلطة، باسم الدين، أو باسم الدولة، أو باسم أي سرديةٍ أخرى تحاول تطويعه داخل مشروع الهيمنة.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً: