في حضرةِ سبأ: قراءة تاريخيّة في جذورِ الأزمة اليمنيّة المعاصرة (1-2)
تاريخ النشر: 8th, February 2025 GMT
يبدو الحديث عن اليمن اليوم ملتبسا ما بين واقعٍ معقّدٍ وطموحاتٍ مُصادَرة، غير أنّ العودة إلى عُمق التاريخ تكشف لنا عن سياقاتٍ ممتدةٍ تفسِّر كثيرا من جذور الأزمات المعاصرة. تُعَدُّ سبأ إحدى أعرق الممالك التي رسَّخت مكانة اليمن في التاريخ العربي، وقد تركت بنية اجتماعية وسياسية ظلَّت حاضرة، وإنْ تغيَّرت صورُها، في الوعي الجمعي اليمني منذ آلاف السنين.
يعود تاريخ مملكة سبأ إلى القرن العاشر قبل الميلاد تقريبا، حين رسَّخت حكمها في مناطق واسعةٍ من جنوب الجزيرة العربية. ولعل أهمَّ ما ميَّزها هو نجاحها في إقامةِ نظامٍ سياسيٍّ قادرٍ على تنظيم العلاقات بين القبائل من جهة، وبين المركز (العاصمة أو السلطة المركزية) من جهة أخرى. في هذا الإطار، أسست سبأ بنى إداريّةٍ وهياكل سلطةٍ ساهمت في تعظيم قوتها الإقليمية، ما هيَّأ لها السيطرة على طرق التجارة -وخاصة تجارة البخور والتوابل- التي ربطت الجزيرة العربية بمناطق الشرق والغرب.
وعلى الرغم من أن الدولة السبئية بادت من مسرح السياسة قبل قرونٍ طويلة، فإن تأثيرها بقي حيا في ذهنية المجتمع اليمني. فالجغرافيا الاستراتيجية لليمن وتنوُّع بيئاته الساحلية والجبليّة والصحراوية ظلَّ يُنتِج هويّاتٍ وقوى محلّيةٍ متنافسة، فيما يكشف النمط الذي أرساه السبئيون مبكرا عن إمكانية استغلال هذا التنوع في بناء كيانٍ سياسيٍّ متماسكٍ أو تأجيجِ تناقضاته تبعا لطبيعة الحكم والتحالفات.
يُمثِّل انتقال اليمن من حُكم الإمامة الزيدية في الشمال إلى مرحلة الاستعمار البريطاني في الجنوب إحدى أهمّ حلقات التحوُّل السياسي والاجتماعي في تاريخ البلد. فقد شَكَّلت الإمامة الزيدية، على مدى قرونٍ، صيغة تجمع بين المرجعية الدينية والسيادة السياسية، حيث اعتمدت في جزءٍ كبيرٍ من شرعيتها على الانتماء الديني وأُطُرٍ قبليةٍ واجتماعيةٍ متداخلة. برزت هذه الصيغة بوضوحٍ في مناطق المرتفعات الشمالية التي اتسمت بطبيعةٍ جبليةٍ صعَّبت السيطرة عليها بالطرق العسكرية التقليدية، ما حتَّم على أئمّة الزيدية عقد تحالفاتٍ قبليةٍ متينةٍ تضمن الولاء مقابل منحهم امتيازاتٍ اقتصاديةٍ أو نفوذا إداريا في مناطقهم.
اعتمدت الإمامة -من الناحية المؤسسية- على سلطةٍ مركزيةٍ ذات توجهٍ دينيٍّ، لكنّها لم تكن تملك جهازا بيروقراطيا حديثا بالمعنى الكامل. بدلا من ذلك، قامت على شبكةٍ من العلاقات "العُرفية" والالتزامات المتبادلة بين الإمام والقبائل المؤيدة له بل وأسر أبناء زعماء القبائل لضمان ولائهم في كثير من الأحيان. وقد شكَّل هذا النموذج قاعدة لأطرٍ سياسيةٍ وعلاقاتٍ اجتماعيةٍ بقيت حاضرة في الذاكرة الجمعية. إذ إنّ القبائل، من خلال ما يسمّى "العُرف" أو "النظام القبلي"، امتلكت سلطة شبه مستقلة منحتها القدرة على إدارة شؤونها الداخلية فيما تلتزم في آنٍ واحدٍ بالدفاع عن سلطة الإمام أو تنفيذ بعض توجيهاته. هذا التوازن الدقيق ساهَم في إطالة عمر الإمامة وجعَلها قادرة على الصمود أمام محاولات التغلغل العثماني في فتراتٍ سابقة.
علاوة على ذلك، أسهمت الطبيعة الجغرافية الوعرة في شمال اليمن في تشكيل مجتمعٍ أكثر انغلاقا وتمركزا حول القيادات الدينية والقبلية. وخلقت هذه العزلة نسبيا نمطا من "الاكتفاء المحلي" تُدار فيه الموارد الزراعية والمائية عبر تقاليد اجتماعيةٍ مستقرةٍ ومكفولةٍ بقوانين العُرف. وقد ساعد هذا الواقع الإمامة في تعزيز دورها كحَكَمٍ دينيٍّ يحظى بالولاء، لكنّه أيضا حدَّ من إمكانية انفتاح الشمال على أنساقٍ إداريةٍ أو اقتصاديةٍ جديدةٍ من خارج محيطه الجغرافي.
على النقيض من ذلك، وجد الجنوب نفسه في تجربةٍ مختلفةٍ تماما عقب بسط النفوذ البريطاني على عدن عام 1839. تشكَّلت لدى الجنوبيين خبرةٌ مباشرةٌ مع نموذج الدولة الحديثة القائمة على مؤسساتٍ اقتصاديةٍ وإداريةٍ مسقطةٍ من الخارج. لم تكن عدن مجرّد قاعدةٍ عسكريةٍ مهمّة للبحرية البريطانية فحسب، بل تحوَّلت سريعا إلى ميناءٍ إقليميٍّ حيويٍّ جذب عمّالا وموظفين من مختلف الأجناس والخلفيات. وقد أسهم ذلك في إنتاج بيئةٍ اجتماعيةٍ أكثر تنوعا واحتكاكا بالثقافات الأجنبية، سواءٌ من خلال التعليم أو النظام الإداري والقانوني الذي حاول البريطانيون تطبيقه.
ومع مرور الوقت، رسَّخت الإدارة الاستعمارية أنماطا جديدة من الملكية العقارية، وأدخلت مناهج تعليمية حديثة بالمقاييس السائدة آنذاك، كما أتاحت ظهور طبقةٍ اجتماعيةٍ متعلمةٍ نسبيا ومُسيّسةٍ في آنٍ واحد. وقد نمت في عدن تحديدا طبقةٌ عاملةٌ وناشطةٌ نقابيا في الموانئ والمصانع، إضافة إلى نواةٍ برجوازيةٍ اهتمّت بالتجارة والأعمال. هذا الاختلاف الجذري -مقارنة بطبيعة المجتمع في الشمال- كرّس الفوارق البنيوية بين الجانبين. فبينما اعتمدت الإمامة الزيدية على شرعيةٍ دينيةٍ وقبليةٍ، أصبح الجنوبيون أكثر احتكاكا بمظاهر الدولة القومية الحديثة وبالأفكار التحررية التي نشأت في مدنٍ ساحليةٍ كتلك الواقعة تحت الحكم البريطاني.
رغم التبايُن الظاهر، فإنّ ما ورّثته مرحلة الإمامة في الشمال والاستعمار في الجنوب شكّل بنى اجتماعيةٍ وسياسيةٍ ظلَّت فاعلة حتى بعد الاستقلال ووصول اليمن الشمالي إلى مرحلة الثورة الجمهورية عام 1962. ففي الشمال، تحوَّلت بعض القيادات القبلية والدينية إلى مراكز قوةٍ جديدةٍ داخل النظام الجمهوري الوليد، مستفيدة من الخبرة المتراكمة في إدارة التحالفات التقليدية والولاءات المحلية. وفي الجنوب، استمر تأثيرُ البريطانيين في المؤسسات الإدارية والتشريعية بعد الاستقلال، ما عزَّز -إلى حدٍّ ما- روحا أكثر مركزية وتنظيما في الهيكل السياسي، لا سيما في الفترة اللاحقة لنشأة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ثم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1967-1990)، التي اتّخذت منحى اشتراكيا وطبّقت سياساتٍ مركزية صارمة مقارنة بالشمال.
وبهذا، نجد أنّ اليمن حمل معه "ازدواجيّة" أو "ثنائيّة" في تشكيل دولته: فمن جهةٍ شمالٌ ذي إرثٍ قبليٍّ ودينيٍّ عميقٍ ومرتبطٍ بأطروحاتٍ ثوريّةٍ جمهوريةٍ تلوّنت لاحقا بمزيجٍ من العسكريّة والقبلية والدين، ومن جهةٍ أخرى جنوبٌ حمل بقايا تجربةٍ استعماريّةٍ جعلته أكثر انخراطا في المفاهيم الحديثة للدولة والمؤسّسات، على الرغم من الانعطاف الاشتراكي الذي شهدته السلطة الحاكمة هناك.
إنّ هذه الخلفيات المختلفة لم تُطوَ بشكلٍ كاملٍ مع توحيد شطري اليمن في 1990، إذ إنّ استدعاء الرموز الدينية والقبلية لا يزال حاضرا بقوةٍ في مناطق الشمال، كما أنّ الحديث عن الاستقلال الإداري والمطالب الفدرالية أضحى محوريا في الجنوب. وتُشكّل هذه المطالب، في جوهرها، امتدادا لما رسَّخته فتراتُ الإمامة والاستعمار من هوياتٍ متمايزة، سواءٌ في نمط الإدارة أو في أنساق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
ولهذا، لا يمكننا دراسة جذور الأزمة اليمنية المعاصرة بمعزلٍ عن التعقيد التاريخي الذي ترتّب على التحوُّل من سلطةٍ دينيةٍ-قبليةٍ تقليديةٍ في الشمال، إلى نفوذٍ استعماريٍّ أجنبيٍّ ترك بصمته في الجنوب. فما بَدا مجرَّد انتقالٍ من مرحلةٍ تاريخيّةٍ إلى أخرى كان في حقيقته تأسيسا لبُنى اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ متضاربةٍ على المستوى القيمي والإداري، ظلَّت تتفاعل فيما بينها على مدار عقودٍ، وطفَت إلى السطح بعد الوحدة بشكلٍ أكثر وضوحا مع توالي الأزمات الداخلية والإقليمية. ومن ثَمّ، فإنّ فهم جذور هذه الأزمة يقتضي تحليل الكيفية التي تَشَكَّلت بها المؤسسات والذهنيات في كلٍّ من الشمال والجنوب، ومن ثَمَّ تحديد مواطن التقاطع والاختلاف والتناقض.
في المحصّلة، إنّ الأسس التي أرستها الإمامة في الشمال والاستعمار في الجنوب لا تزال فعّالة، وإن بِصُوَرٍ مختلفة، في تشكيل روافد المشهد اليمني الراهن. وما لم تتمكّن الدولة الوطنية المعاصرة من استيعاب هذا الخليط التاريخي وبناء صيغةٍ مؤسّسيةٍ جديدةٍ تُعالج الاختلافات الهيكلية في كل إقليم، فسيظل اليمن يشهد موجاتٍ متعاقبةٍ من الصراعات تغذّيها الانقساماتُ البنيويةُ القديمة وتُجدِّدها الأوضاعُ السياسيةُ والعسكريةُ الراهنة.
ولطالما مثّلت الجغرافيا في اليمن أحد أهمّ العوامل المؤثرة في تشكيل تركيبة المجتمع وتوجيه مسارات التاريخ السياسي والاقتصادي. ومن يتأمَّل خريطة اليمن بدقّةٍ يلحظ أنّها تجمع أطيافا واسعة من التضاريس: سواحل شاسعة تطلّ على بحر العرب والبحر الأحمر، ومرتفعاتٍ جبليةٍ شاهقةٍ تمتدّ على طول البلاد، وصحاري مترامية الأطراف تفصل مناطق الداخل عن بعضها. عبر هذه الجغرافيا المتباينة، تشكّلت الهويّاتُ القبلية والإقليمية والاقتصادية المختلفة، وصاغتها بمرور الزمن كياناتٌ سياسيةٌ ومعيشيةٌ مركّبة. إنّ قراءة هذه البنية الجغرافية والاجتماعية معا تكشف عن كثيرٍ من جذور الصراعات الحالية، وتُظهر في الوقت ذاته الإمكانات الواعدة المتأتّية من تنوّع الموارد ومواقعها.
يتوزّع سكان اليمن تاريخيا بين المرتفعات العالية (مثل جبال صعدة وصنعاء وذمار وإب وغيرها) والمناطق الساحلية (خصوصا مناطق تهامة والحديدة في البحر الأحمر، ومناطق عدن وحضرموت في بحر العرب) والمناطق الصحراوية الممتدّة في الداخل (أهمّها أجزاءٌ من محافظات مأرب والجوف وشبوة). هذه التنوّعات خلقت أنماطا مختلفة من سُبُل العيش؛ فالقبائل في الجبال تميل إلى الزراعة المعتمدة على الأمطار والمصاطب الجبلية والحصاد المائي التقليدي، بينما عزّز سكان السواحل اقتصاد الصيد البحري والتجارة البينية عبر الموانئ، في حين اتّسمت المجتمعات الصحراوية بطابعٍ بدويٍّ ارتحل في بعض الفترات بحثا عن المراعي والموارد المائية.
أنتجت هذه التفاوتات تضاريسية "تشتتا" ديموغرافيا أضفى على كلّ منطقةٍ خصوصيّة قوية. ففي حين تمكّنت القبائل الجبلية من بناء هياكل حكمٍ محليةٍ وسلطاتٍ دفاعيةٍ متماسكةٍ ضدّ أيّ تدخلٍ خارجي، بفضل الجغرافيا الوعرة وسهولة التحصن في الجبال، كانت المناطق الساحلية أكثر انفتاحا على المؤثّرات الخارجية والتواصل مع القوى البحرية الإقليمية والدولية. وعلى امتداد التاريخ، أنعشت الموانئ الساحلية اقتصاداتٍ حيوية قائمة على الاستيراد والتصدير والتبادل التجاري، فيما ظلّت مناطق الداخل الجبلية محتفظة بوتيرتها الخاصة في العمل الزراعي والحياة القبلية المنضبطة بأعرافها وقوانينها.
قبل آلاف السنين، كانت طرق تجارة البخور واللبان والسلع النفيسة تعبر اليمن باتجاه الجزيرة العربية والشام، وتنطلق أيضا نحو شرق أفريقيا والهند عبر الموانئ الجنوبية للبلاد. وكان لموقع اليمن الاستراتيجي على مضيق باب المندب والبحر العربي دورٌ محوريٌّ في صناعة هذه المكانة التجارية، إذ تحوّلت الموانئ اليمنية -بدءا من عدن مرورا بالمخا ووصولا إلى الشحر وغيرها- إلى نقاط التقاء للتجار والبحّارة من أصقاعٍ مختلفة.
تاريخيا، اندفعت القوى المحلية في اليمن إلى محاولة السيطرة على هذه الطرق بما فيها القوافل البرية والبحرية، لأنّها تمثّل شريانا اقتصاديا يغذّي ميزانيات السلطة. وما زاد من شدّة المنافسة هو ارتباط السيطرة على الطرق بموقعٍ استراتيجيٍّ يدرّ العوائد الجمركية والضرائب على الحركة التجارية، بالإضافة إلى رمزية الهيمنة على عقدة الربط بين الشرق والغرب. من هنا، ظهرت التكتلات القبلية حول بعض المدن والموانئ، إمّا بهدف حمايتها أو السعي للسيطرة عليها، ما خلق تنافسا ممتدا وعابرا للقرون.
وقد أكسب هذا الواقعُ كلَّ قبيلةٍ أو تجمعٍ محليٍّ استقلالية نسبية في حماية مصالحها، ولم يكن الحاكم المركزي -أيا كان شكله في حقب التاريخ- قادرا على بسط نفوذٍ حقيقيٍّ إلا إذا عقد تحالفاتٍ قبليةٍ رشيدة، ونال ولاء تلك المجموعات المهيمنة على جزءٍ من الطرق التجارية. وحتى في العصر المعاصر، حينما حاولت الدولة اليمنية إقامة سلطةٍ مركزيةٍ أكثر انتظاما، واجهت عوائق الجمْع بين سياساتها الوطنية وبين تضارب مصالح القبائل المتجذّرة في تلك الطرق والموانئ.
رغم ما تتمتع به بعض مناطق اليمن من خصوبةٍ أراضٍ زراعيةٍ، خاصة في المرتفعات الغربية والوسطى، فإنّ شُحّ المياه ظلّ مشكلة مزمنة. فهذا الشحّ المائي يؤثر مباشرة في توزيع النفوذ القبلي وسُبل العيش والسكان؛ إذ إنّ الجماعات القبلية التي تسيطر على مصادر المياه -بما فيها الآبار والعيون والسدود الصغيرة- غالبا ما تحظى بنفوذٍ أكبر، بل وقدرتها على الصمود أمام الاضطرابات السياسية تكون أقوى. ويُعدّ سد مأرب في التاريخ القديم نموذجا بارزا للتكامل الزراعي ولتوزيع الموارد على نطاقٍ واسع، وقد انهار أكثر من مرةٍ مخلِّفا آثارا اقتصادية واجتماعية كبيرة.
أما النفط في اليمن، فبالرغم من وجود احتياطياتٍ متواضعةٍ في مناطق شبوة وحضرموت ومأرب، فإنّه لم يكن في أيّ وقتٍ من الأوقات بكمياتٍ تُضاهي ما لدى دول الخليج المجاورة، الأمر الذي وضع اليمن في موقعٍ اقتصاديٍّ متوسطٍ إلى محدود. ومع ذلك، باتت السيطرة على مناطق إنتاج النفط والغاز واحدة من محرّكات الصراع الحديثة، إذ تحاول كل قوةٍ أو جماعةٍ مسلّحةٍ إثبات موطئ قدمٍ في تلك المناطق بهدف الحصول على النفوذ والموارد. ويمكن فهم هذا الدافع على أنّه امتدادٌ تاريخيٌّ للصراع على الموارد؛ إذ يضيف النفط والغاز طبقة جديدة من التنافس على ثرواتٍ غير متجددةٍ تتركّز في جيوبٍ جغرافيةٍ بعينها.
يشتهر اليمن في الذهنية العامة بتركيبته القبلية، وتعود هذه السمعة إلى أسبابٍ تاريخيةٍ وجغرافيةٍ متداخلة. فالعزلة النسبية لبعض المناطق الجبلية والداخلية عزّزت تكوين هويةٍ قبَليةٍ عميقةٍ، ترتكز على تحالفاتٍ داخليةٍ ضامنةٍ للأمن ورعاية المصالح المشتركة. وقد عوّضت القبيلة -في كثيرٍ من الفترات- غياب الدولة المركزية أو ضعفها، بفرضها أعرافا قضائيةٍ وعُرفا اجتماعيا رادعا للنزاعات البينية. وفي الوقت نفسه، يمكن لهذه البنية القبلية أن تشكّل صعوبة أمام محاولات بناء دولةٍ حديثةٍ، ما لم يتمّ إدماجُ القبائل في النظام السياسي والاقتصادي بشكلٍ يلبّي حدا أدنى من التطلّعات والامتيازات.
تُدير القبائل مواردها بتعاضدٍ شبه مستقلٍ عن الدولة، بما في ذلك الإشراف على المراعي ومصادر المياه الصغيرة وفرض إتاواتٍ أو رسومٍ للتجار والعابرين. وفي مناطق الطرق التجارية أو الممرّات الجبلية الحساسة، يظهر دور بعض القبائل في حماية القوافل أو ابتزازها. هذا النمط موجودٌ تاريخيا بكثرة، وقد تراجع في فتراتٍ معينةٍ مع تمدّد سلطة الدولة، لكنه يعود إلى الظهور في الفترات التي تضعف فيها هذه السلطة المركزية، وقد شاهدنا ذلك بجلاءٍ خلال السنوات الأخيرة في ظل النزاعات الراهنة.
يُعَدّ باب المندب بوابة استراتيجية للتجارة الدولية؛ إذ تمر عبره أعدادٌ كبيرةٌ من السفن التي تتجه إلى قناة السويس أو تخرج منها. هذا الموقع الفريد جعل الساحل الغربي لليمن ساحة متواصلة لتنافس القوى الإقليمية والدولية، بدءا من الحملات العثمانية والبرتغالية في العصور الماضية، وصولا إلى الصراع الدولي الراهن على النفوذ في البحر الأحمر وخليج عدن. من هنا، ترتفع قيمة السيطرة على الجزر والموانئ اليمنية بوصفها أوراق ضغطٍ على مسارات التجارة العالمية.
تطلّع اليمنيون تاريخيا إلى استثمار تلك الميزة الاقتصادية لرفد خزينة البلاد، غير أنّ هشاشة الدولة وتعدّد الولاءات القبلية والإقليمية أدّى إلى تبديد جانبٍ مهمٍّ من تلك الموارد. وعلى الرغم من أنّ النشاط التجاري الدولي يشكّل فرصة للنهوض بالاقتصاد المحليّ، فإنّ تنافس القوى المحلية والإقليمية على الموانئ وطرق الملاحة كثيرا ما حوّلها إلى مناطق صراعٍ، حُرمت عنده البلاد من عائدٍ ماليٍّ وتنمويٍّ مستحق.
إنّ التكوينة القبلية-الإقليمية في اليمن، والتفاوت الحاد بين المناطق الجبلية والساحلية والصحراوية، والسعي المحموم للسيطرة على طرق التجارة البحرية والبرية، وتوزيع الموارد المائية والنفطية، جميعها عناوين أساسيةٌ يتداخل فيها الماضي والحاضر. فلا يمكن مقاربة الأزمة اليمنية الراهنة من زاويةِ الصراع السياسي الداخلي أو التدخّلات الإقليمية فحسب، من دون الوعي بهذه التشكلات التاريخية والجغرافية التي أفرزت تناقضاتٍ عميقةٍ ومرنةٍ في آنٍ معا.
لقد مكنت الجبال السكان من بناء مجتمعاتٍ شديدة البأس والتحصّن، واستولدت الموانئ طبقاتٍ اجتماعية أكثر انفتاحا وتثقيفا، فيما صنعت الصحاري صلاتٍ قبلية مترابطة بين مناطق الداخل والخارج. وفي كل هذه الأقاليم، يظل شحّ الموارد -سواءٌ كانت مائية أم معدنية أم نفطية- سببا مهما لنشوب الاحتكاكات المستمرة. والنتيجة أنّ الجغرافيا في اليمن لا تمثّل مجرّد خلفيةٍ طبيعيةٍ للحدث التاريخي، بل هي لاعبٌ رئيسٌ موجِّهٌ لبنية المجتمع وأولويّات السلطة وأدوات الصراع.
ومن ثمّ، يصبح فهم الانقسامات الحالية -بين شمال وجنوب، وبين مراكز حضريةٍ وأريافٍ وجبالٍ وموانئ- غير مكتملٍ ما لم تُستحضَر الجذورُ الجغرافية والاقتصادية التي جعلت كل طرفٍ يتعامل مع الواقع السياسي بنظرةٍ نابعةٍ من موقعه وتاريخه وخبرته الطويلة في إدارة الموارد أو السعي للهيمنة عليها. إنّ الوعي العميق بهذه العوامل هو أوّلُ خطوةٍ نحو أيّ محاولةٍ جادّةٍ لمعالجة جذور الأزمة اليمنية بدلا من الاكتفاء بأطر الحلول السياسية الضيّقة. فالتحوّلات التي شهدتها البلاد، قديما وحديثا، ما هي إلا انعكاسٌ لصراعٍ أوسع حول رقعةٍ جغرافيةٍ شديدة التنوّع، تضع شعبا متعدّد الأطياف تحت اختبارٍ مستمرٍّ في قدرته على التعايش، والاندماج، والتعاضد في سبيل إقامة دولةٍ حديثةٍ ومستقرّة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه اليمن التاريخ الأزمة الجغرافيا الانقسامات اليمن أزمة تاريخ انقسام جغرافيا مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة أفكار صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأزمة الیمنی السیطرة على ات القبلیة فی الشمال فی الجنوب ة الزیدیة فی مناطق فی الیمن الیمن فی فی تشکیل من جهة التی ت
إقرأ أيضاً:
الزعاق: في الربيع والخريف تصبح الرياح أكثر حدة ..فيديو
الرياض
شرح خبير الأرصاد الجوية، الدكتور خالد الزعاق، معنى كلمة الرياح، مؤكداً أنها حركة الهواء من مكان إلى آخر، حيث تنتقل الرياح من مناطق الضغط العالي إلى مناطق الضغط المنخفض.
وقال الزعاق من خلال برنامجه على قناة العربية: “كلما زادت الفوارق الضغطية زادت حدة وحركة الرياح، وعادة ما تكون الفوارق الضغطية عظيمة في المواسم الانتقالية، مثل موسم الخريف والربيع”.
وتابع الزعاق: ” في الخريف ننتقل من الصيف إلى الشتاء والأصل فيه الحرارة، وفي الربيع ننتقل من الشتاء إلى الصيف والأصل فيه البرودة ، وتبدأ البرودة في آخر الخريف وتنتهي في آخر الربيع”.
وأكد الزعاق أن ما يحدد الحرارة والبرودة وحركة الرياح هو بعد وقرب الشمس من مدار الجدي ومدار السرطان وخط الاستواء.
https://cp.slaati.com//wp-content/uploads/2025/02/ssstwitter.com_1738860205066.mp4