الثورة نت/

غادرت حاملةُ الطائرات الأمريكية (يو إس إس هاري ترومان) البحرَ الأحمر، جارَّةً خلفَها أذيالَ الهزيمة التي جرَّتها قبلَها ثلاث حاملات طائرات أرسلتها الولايات المتحدة لوقف العمليات اليمنية المساندة لغزة خلال معركة طوفان الأقصى، لكنها اصطدمت بتحدٍّ عملياتي وتكتيكي غير مسبوق جعلها عاجزة تمامًا عن إحداث أي تأثير، للمرة الأولى في تأريخها، بل ووجدت نفسها مطارَدةً بهجمات نوعية مباشرة، الأمر الذي أجبر كبار قادة البحرية الأمريكية على الاعتراف باستحالة ردع اليمن، وأشغل وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الأمريكية والعالمية بالحديث عن دلالات وتداعيات هذا الفشل التاريخي.


ووفقًا لبيانٍ أصدرته البحرية الأمريكية، مساء الخميس، فَــإنَّ حاملة الطائرات (هاري ترومان) قد غادرت البحر الأحمر ووصلت إلى اليونان بعد قرابة شهرين من قدومها إلى المنطقة، لتكون رابع حاملة طائرات أمريكية تغادر المنطقة بدون تحقيق الهدف الرئيسي لإرسالها والمتمثل في ردع القوات المسلحة اليمنية وإضعاف قدراتها والتأثير على موقف القيادة اليمنية بواسطة القوة.
وعلى العكس من ذلك الهدف، فَــإنَّ مغادرة الحاملة ترومان يأتي تتويجًا لهزيمة تاريخية كبرى لحقت بالبحرية الأمريكية في مواجهة اليمن، حَيثُ لم تقف الأمور عند حَــدّ العجز عن وقف العمليات المساندة لغزة والفشل في حماية الملاحة الصهيونية، بل أصبحت حاملات الطائرات الأمريكية والسفن الحربية التابعة لها أهدافًا مباشرة للضربات اليمنية، الأمر الذي أجبرها على البقاء بعيدًا على مسافة مئات الأميال من منطقة العمليات اليمنية، قبل أن تهرُبَ من جهات مختلفة، حَيثُ فرَّت الحاملتان (أيزنهاور) و (ترومان) من شمال البحر الأحمر، فيما فرت الحاملتان (روزفلت) و(لينكولن) عبر المحيط الهادئ.
وكانت الحاملة (هاري ترومان) قد تعرضت قبل هروبها لست هجمات صاروخية وجوية يمنية في ظرف شهر واحد فقط، وكانت أقرب نقطة تمكّنت الحاملة من الوصول إليها تبعد عن اليمن أكثر من 600 كيلو متر، وسرعان ما اضطرت للتراجع عن تلك النقطة باتّجاه شمال البحر الأحمر بعد الهجوم الأول، في ديسمبر، لتتمركز على بُعد حوالي 1500 كيلو متر، قبل أن تحاول الاقتراب مجدّدًا وتتعرض لهجمات أُخرى، في مطاردة أثبتت القوات المسلحة خلالها تفوُّقًا عملياتيًّا وتكتيكيًّا كَبيرًا على البحرية الأمريكية، حَيثُ جاءت تلك الهجمات استباقية وتمكّنت من إفشال اعتداءات كبيرة كانت حاملة الطائرات تحضِّرُ لها في كُـلّ مرة.
وعلاوة على ذلك، فقد تعرضت الحاملة (ترومان) ومجموعتها من السفن الحربية لفضيحة في أول محاولة لها للاعتداء على اليمن بعد وصولها بأيام، حَيثُ تعرضت لهجوم استباقي كبير سبَّب حالة إرباك غير مسبوقة جعلت السفينة الحربية (جيتيسبيرج) تطلق صواريخَها على الطائرات الحربية الأمريكية، في محاولة لاعتراض الصواريخ والمسيَّرات اليمنية، ما أسفر عن إسقاطِ مقاتلة من نوع (إف-18)، فيما نجت مقاتلة أُخرى من نفس النوع بصعوبة؛ الأمر الذي سلط المزيد من الضوء على مدى التفوق التكتيكي والعملياتي للقوات المسلحة في مواجهة أحدث أنظمة وأساليب القتال الأمريكية، على عكس البحرية الأمريكية التي ظلت محشورة في مربع الصدمة منذ بداية المواجهة برغم محاولاتها الحثيثة لتعديل تكتيكاتها وأساليبها لمواكبة التحدي غير المسبوق الذي شكلته العمليات اليمنية.
هذا أَيْـضًا ما أكّـدته اعترافات جديدة بالهزيمة والفشل، ترافقت مع مغادرة حاملة الطائرات (هاري ترومان) وحدّدت بوضوح سياق هذه المغادرة التي ربما كانت ستحدث في وقت سابق لولا وقف إطلاق النار في غزة، حَيثُ قال نائب رئيس العمليات البحرية الأمريكية نائب الأدميرال دانيال دواير: إن “القتال في البحر الأحمر أظهر أن التكنولوجيا ليست نهائية الابتكار ولن ينحصر المستقبل عليها” مُشيرًا إلى أن “التدريب الجيد لا يكفي” في مواجهة “التقنيات الجديدة والمختلفة” التي استخدمتها القوات المسلحة في معركة البحر الأحمر.
وأضاف: “إذا نظرنا للتهديد في البحر الأحمر سنجده متعدد المجالات، إنه تحت البحر وعلى البحر وفوق البحر” مُشيرًا إلى أنه “بينما تُطَوِّرُ البحرية الأمريكية تكتيكاتها وإجراءاتها وتقنياتها، فَــإنَّ الخصوم يراقبون ويغيِّرون الطريقة التي يقاتلون بها”.
وتؤكّـد هذه التصريحات بوضوح فشَلَ البحرية الأمريكية في مواكبة المستجدات التقنية والتكتيكية والعملياتية التي فرضتها القوات المسلحة اليمنية في معركة البحر الأحمر، وهو ما يؤكّـد بدوره أن الهزيمة الأمريكية أمام اليمن لم تكن ناتجة عن “تردّد سياسي” لإدارة بايدن كما يروج البعض، بل كان ناتجة عن سقوط مدوٍّ لاستراتيجيات الردع الرئيسية.
وفي هذا السياق أَيْـضًا، أكّـد كليفورد ماي، رئيسُ ومؤسّسُ “مؤسّسة الدفاع عن الديمقراطيات” والتي تعتبر واحدةً من أبرز منظمات الضغط الأمريكية المؤيدة للكيان العدوّ، أنَّ “الاستجابةَ العسكرية الأمريكية” للوضع في البحر الأحمر كانت “مكلفة وغير فعَّالة استراتيجيا” حسب وصفه، مُشيرًا إلى أن “الولايات المتحدة أنفقت ما يُقدَّرُ بمليار دولار لاعتراض وتدمير الصواريخ الحوثية القادمة، وهو نهجٌ أشبهُ بإطلاق النار على السهام”.
واعتبر ماي أنه إذَا لم تتم هزيمة القوات المسلحة اليمنية فَــإنَّ “صورة الضعف الأمريكي سوف تتعزز، والأهم من ذلك أنها سوف تشكل سابقة” مُشيرًا إلى أن “تكلفة تحويل مسار السفن، للقيام برحلة طويلة حول الساحل الجنوبي لإفريقيا، تُقدَّر بأكثر من 40 مليار دولار خلال العام الماضي”.
وبالنظر إلى البُعد الاستراتيجي الواضح للهزيمة الأمريكية والذي يتعلق بمفهوم “الردع” مباشرة، فَــإنَّ إدارة ترامب -وبرغم محاولاتها الدعائية لحصر الهزيمة على الإدارة السابقة- تبدو عاجزة تمامًا عن تغيير الوضع؛ فحتى قرار التصنيف الجديد الذي حاولت من خلاله أن تظهر وجود “نهج مختلف” عن نهج إدارة بايدن، لا يمتلك أي أفق لإحداث تأثير حقيقي، وهو ما باتت مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الأمريكية تقر به، حَيثُ أكّـد المعهد الأمريكي للسلام، أنه “من غير المرجح أن يغيّر أي تصنيف إرهابي أجنبي، أَو مزيج من الوصفات السياسية، الأهدافَ الاستراتيجية للحوثيين فيما يتصل بفلسطين” مُشيرًا إلى أن “تأثير التصنيف المحتمل على مسار الصراع ليس مؤكّـدًا على الإطلاق”.
وهذا ما أكّـده أَيْـضًا لجوءُ الولايات المتحدة مؤخّرًا لتحريكِ حكومة المرتزِقة واستخدامها كغطاء لتحقيق أهداف قرار التصنيف، من خلال التنسيق لتصعيدٍ جديدٍ ضد وسائل الإعلام الوطنية، حَيثُ كشفت هذه الخطوةُ بشكل واضح عن انعدامِ الخيارات الفعَّالة لدى الولايات المتحدة وعن المسافة الكبيرة التي باتت تفصلُ بين الأوراقَ المتاحة وبين هدف “الردع” الذي انهار في البحرِ الأحمر إلى غير رجعة.

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: البحریة الأمریکیة الولایات المتحدة حاملة الطائرات القوات المسلحة م شیر ا إلى أن البحر الأحمر هاری ترومان فی البحر ف ــإن

إقرأ أيضاً:

دمشق التي تغادر زمن الوجع والمرارة

ما من مدينة أكثر أهمية إذا أردنا قراءة سمات النهوض والتطور من العاصمة السورية دمشق، فقد بقيت تستقطب على الدوام اهتمام الآخر، وعندما يتطلع المرء إليها فإنه يتطلع في الحقيقة إلى أصول الدنيا.

ويُجمع المؤرخون على أن الحياة دبت في دمشق وتواصلت دون انقطاع منذ الألف الثاني قبل الميلاد وازدهرت وتطورت، وأصبحت ملتقى القوافل التجارية الآتية من الجزيرة العربية وأفريقيا الشرقية والأناضول وآسيا الوسطى ومفترق الطرق القادمة من الهند والصين ومحطة رئيسية على طريق الحرير القديم.

وأسهم تعاقب الحضارات على أرضها في تنامي المظاهر الاجتماعية وتعدد دور العبادة وتطور نموذج السلطة الحاكمة، وعبّرت جميعها عن وجود شكل مبكر لحياة مدنية ذات بعد إنساني وصبغة روحانية اشتهرت بها المنطقة.

ومثلما سمحت قدراتها على لعب أدوار متقدمة كمدينة مركز وعاصمة قومية باتت في فترات مختلفة مسرحا لتجاذبات أممية على جانب من الأهمية جعلتها تخضع لامتحانات صعبة في الحرب والسلام دفعت أثمانها غاليا، لكنها نجحت في تجاوز تحدياتها مع مرور الوقت.

ومع ذلك، لم تكن دمشق بمنأى عن لعبة الموت على مر العصور، فقد تعمدت بالدم منذ آماد بعيدة، كما تعرضت للخراب والدمار مرات عديدة، واختفت ورودها وأزهارها، وتعفر ربيعها بسنابك خيول ملوك بيزنطة وقواد الحملات الصليبية ومصفحات ومدافع الجيوش الفرنسية، وأخيرا بدبابات البعث وطائرات وصواريخ عائلة الأسد التي حكمت سوريا منذ عام 1970 حتى سقوطها في ديسمبر/كانون الأول 2024.

إعلان مدينة مليئة بالمسرات والمتع

ارتبطت دمشق طبيعيا بنهر بردى الذي ينبع من سهول الزبداني على بعد 50 كيلومترا من المركز، وقد ألهبت مياهه التي تسقي ما يصطف على ضفتيه من بساتين مشاعر الكثير من أدباء الغرب ومستشرقيه ممن زاروها.

وطوقتها بساتين وهضاب طبيعية، وأضافت إليها الحدائق وأفرع النهر مشهدا خلابا، مما دفع المؤرخ الطبري إلى أن يعتبرها أحد الأماكن الأربعة في العالم المليئة بالمسرات والمتع، في حين نظر إليها الفرنسي بيير ديلفيل هيلبير كمعجزة، ومعجزتها في الغوطة، هذه الواحة الواسعة والملاذ الظليل.

روح الشرق

دخلت المسيحية دمشق في زمن بولس الرسول، وبحسب سفر أعمال الرسل دُعي المؤمنون بالمسيح، مسيحيون لأول مرة في أنطاكيا عاصمة البلاد آنذاك، وأقام في مدنها عدد من الرسل الـ70 الذين عينهم يسوع بحسب إنجيل لوقا، وكان من أبرزهم حنانيا الذي غدا أسقف دمشق.

وفي أواخر العقد الرابع من القرن السادس الميلادي وصلها الإسلام على يد أبي عبيدة بن الجراح، وعيّن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان واليا عليها، وعقب وفاته حل مكانه معاوية، وخلال فترة وجيزة انفردت دمشق بقيادة الدولة الإسلامية، وأصبحت عاصمة إمبراطورية مترامية الأطراف امتدت حدودها من جنوب الصين إلى إسبانيا والجنوب الفرنسي.

وسوف يمنحك تجاور المساجد والكنائس في الحواري القديمة وتمازج أصوات الأذان الشجية من شرفات المآذن مع أصوات أجراس النواقيس بإيقاعاتها المؤثرة انطباعا قويا عن عاصمة بقيت وفية لتقاليدها رغم تطورها المدني والحداثي.

فقد حافظت الشام على التآخي وأصول العيش المشترك بين أديان ومذاهب احتضنت بعضها البعض ضمن نسيج متماسك، خيط من أصول واحدة.

وتماهت العلاقة بين المسيحية والإسلام داخل أحياء وحارات متعددة، لم تكن تفرق في يوم من الأيام بين دين وآخر، ليس فقط على مستوى الجوار، بل على مستوى السلطة والحياة السياسية الوطنية في البلاد.

إعلان

وفي هذا الصدد، تروي الصحفية الفرنسية أليس بوللو في يومياتها كيف حاول الفرنسيون إحداث شرخ بين السكان المسلمين وجيرانهم المسيحيين أثناء ثورة عام 1925 عبر بث الإشاعات لإحداث صدع داخل الجبهة المدنية الدمشقية، قائلة "وعلى الفور تلقى غبطة بطريرك الروم الأرثوذكس كتابا من قيادة الثورة يطمئنه بعدم صحة الإشاعات، ويتعهد له على لسان سلطان باشا الأطرش قائد الثورة بأن لا خوف ولا خطر على المسيحيين من الثورة الوطنية، فهي لا تقصد إيذاءهم أو ترمي إلى إساءة معاملتهم بأي حال".

ومن الواضح أن العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط سكان حي باب توما- القصاع أكبر الأحياء المسيحية في دمشق بجيرانهم المسلمين -على سبيل المثال- تتجاوز حدود الجيرة في كثير من الأحيان، لتبدو أقرب إلى علاقة روحية تجسد مفهوم العائلة بمنطق القيم الأخلاقية والعرف والتقاليد.

فقد كانت المسيحية والإسلام وجهين لعقيدة لم ينظر الدمشقيون إليها إلا من خلال مصدر إلهي واحد حض أتباع كل ديانة على الرحمة والتآخي ورهافة القلب.

وزاد الإسلام حين جعل الاعتقاد بالأنبياء ونبوتهم جانبا مكملا للإيمان وشرطا من شروط صحته، وخص عيسى وأمه مريم بمكانة يدرك المسيحيون أنهم لم يألفوا ما يماثلها في أي معتقدات أخرى.

وبقيت المدينة متمسكة بتراثها الديني والإنساني، وحافظت على الروحانية التي تتمتع بها رغم الحروب والمآسي، إذ صنعت من أوجاعها صورة مشرقة لطالما هزت مشاعر الذين لا يعرفونها عن قرب، كما ترجمت بتسامحها روح الشرق، تلك الروح التي كثيرا ما عبرت عن ارتباطها بقوة عليا وانجذابها العاطفي نحو الخير والجمال والمعرفة.

المدينة المقدسة

تقلدت دمشق قلادة العروبة في وقت مبكر، وحين كان ينظر إليها كعاصمة حكمت جنوب المتوسط تحت راية الخلافة ومنبع تفاعل الفكر والعلم ومدينة مقدسة تضم تربتها آثار عشرات الرسل والأنبياء مكث فيها المسيح مع أمه، ودخلها القديس يوحنا المعمدان، وغدت المكان الذي وصلته كلمة الله قبل أي مكان آخر، وكان ينظر إليها بمثابة مركز إشعاع قومي شهدت أرضها أولى خفقات العروبة وتجلياتها.

إعلان

وعلى هذه الخلفية تواصل استهدافها، وبقيت محط أطماع الشرق والغرب، وقطعة الجبن التي يسيل لها اللعاب كلما داعبت نوازع الشر توجهات المال والسياسة.

لقد حاول الصليبيون احتلالها بعد أن استولوا على القدس لكنهم فشلوا، واستطاع عماد الدين زنكي أن يؤسس في تلك المرحلة مع ابنه نور الدين لزمن استعادت العاصمة السورية فيه مجدها وتألقت ونهضت علومها وإبداعاتها.

ثم تابع الأيوبيون ما أنجزته الأسرة الزنكية، وبرز نجم صلاح الدين الأيوبي باعتباره قائدا ومحاربا من طراز رفيع حكم بلاد الشام ومصر وحرر القدس، وتمكن من بعده الظاهر بيبرس القائد المملوكي من تحرير أنطاكيا وطرابلس وعكا، مسدلا بذلك الستارة على ما عرف بالعصر الصليبي، عصر التوحش والدماء.

دمشق تنافس إسطنبول

حافظت دمشق على تألقها كمركز ولايات ثلاث خلال فترة الحكم العثماني لبلاد الشام بعد أن دخلها السلطان سليم في 27 سبتمبر/أيلول 1516 عقب انتصاره على سلطان المماليك قانصوه الغوري في معركة مرج دابق شمالي حلب.

وتؤكد الوثائق العربية والعثمانية ارتباط شمال جبال طوروس بجنوبها بعلاقات طيبة بعد أن أصبحت إسطنبول مقرا لخلافة الإسلام، وكان من الواجب على المسلمين أن يرتبطوا بسلطة أمير المؤمنين أو الخليفة دون تردد أو انتظار.

وخلال فترة قصيرة نافست شام شريف إسطنبول عاصمة الخلافة، وبقيت المدينة الأكثر إثارة في مخيلة رواد المعرفة وباحثي التاريخ ونشطاء الفكر والسياسة.

وكان إذا ما أريد حقا التعمق بهذه الروح ومتابعة خفقاتها -وفق الكاتب الفرنسي بيير لامازيير- فإنه يجب أن تكون وجهة المرء هي دمشق لأنها قلب سوريا ودماغها.

كيف غيرت عائلة الأسد وجه دمشق؟

توسعت المدينة خارج حدودها القديمة في مطلع القرن الـ20، وشهدت الأطراف الملاصقة لسورها أحياء حديثة وشوارع ممهدة وأسواقا جديدة كالحميدية ومدحت باشا وناظم باشا وعمارات ذات مسحة غربية أخذت في الظهور على امتداد الطريق الواصل بين ساحة المرجة وحي الصالحية، حيث ينتشر مركزها التجاري.

إعلان

وبخلاف العواصم العربية الأخرى مثل بغداد والقاهرة لم تكن العاصمة السورية التي دخلت سجل التراث العالمي في عام 1987 مدينة مترامية الأطراف، بل احتفظت على الدوام بطابع المدينة التقليدية التي ترتبط مع محيطها بعلاقة تكاملية دون اعتماد كلي أو تراجع في مسارها، فبقيت ودودة مع محيطها تربط بينهما علاقات دافئة ومشاعر متبادلة تزداد لحمة في أوقات الشدة.

وخلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في عام 2011 ضد حكم عائلة الأسد كان محيط دمشق أكبر رافعة للثورة، لكنه دفع ثمنا باهظا على غرار ما تعرضت له المدن الناشطة على يد القوات الحكومية من عمليات قتل وتدمير ممنهجة.

لم تتصالح دمشق مع البعث منذ انقلابه في عام 1963، وأعلنت في عام 1965 عصيانا مدنيا داخل الجامع الأموي بدعوة من الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي كان حينئذ يقود صراعا مع الملاحدة حتى العظم، فقابلته سلطة البعث بكل قسوة، ودفعت المدرعات العسكرية لتقتحم حرم الجامع وترتكب مذبحة وتعتقل عشرات المدنيين.

تواصلت المذابح طوال عهد عائلة الأسد، لكنها ازدادت ضراوة أثناء حكم الأسد الابن، إذ لم ينجُ منها حتى الأطفال الذين خرجوا يهتفون للحرية بشكل عفوي وسلمي في الشوارع والساحات.

وفي مفارقة مؤلمة، يروي الشيخ علي الطنطاوي أنه شاهد أطفالا يتظاهرون ضد الاحتلال الفرنسي لدمشق "يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء فر من مدرسته وحقيبته لا تزال معلقة بعنقه، وحمل مسطرته بيده، ومنهم صبي اللحام وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعا وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار، وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة أناشيد وطنية".

ويتابع "وقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب، لقد رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب ثم انفتح برجها وخرج منه شاب فرنسي يبتسم للأطفال وفي عينيه أثر الدمع من التأثر، ويداعبهم ويقدم لهم قطعة من الشوكولاتة ثم يعود إلى مخبئه".

إعلان

في القروسطية -التي تبوأت صدارة المشهد في ظل حكم آل الأسد- لا مكان للرحمة، فقد دعم العنصر الوراثي للعائلة الحاكمة سلوكا جرميا خطيرا، لم يكن من الوارد بحسب مقاييس الحكم الرشيد أن ينتج رئيسا عصريا يعمل لمستقبل بلاده.

فتغير تاليا وجه دمشق التاريخي والجمالي، وأمعنت معاول السلطة بتحالفها مع الزبائنية في عمليات الهدم لتغيب الديمقراطية والحريات السياسية خلف قضبان السجون والمعتقلات، وتفقد المدينة معظم معالمها الطبيعية والتاريخية، إذ لم يعد بإمكان المرء الذي يقف على جبل قاسيون أن يرى على امتداد النظر غير كتل إسمنتية رمادية اللون ابتلعت مساحاتها الخضراء الواسعة، وطقوس شعوبية تقتص من تاريخها العربي المضيء على نحو مبرمج وصريح.

مقالات مشابهة

  • إعلان أمريكي رسمي بمغادرة حاملة الطائرات “ترومان” منطقة البحر الأحمر
  • سياسي مصري: اليمن بات قوة إقليمية ستساهم في تخليص المنطقة من الهيمنة الأمريكية
  • لماذا غادرت حاملة الطائرات الأمريكية ترومان البحر الأحمر؟
  • البحرية الأمريكية تعلن مغادرة حاملة الطائرات "ترومان" البحر الأحمر
  • البحر الأحمر بدون حاملة طائرات.. ترومان تنسحب
  • وادي بلي وطريق الملح بالبحر الأحمر.. كنز جيولوجي وسياحي يروي تاريخ التجارة القديمة
  • بسبب عمليات صنعاء البحرية.. خسائر إسرائيل تتجاوز الـ”40 مليار” دولار
  • قائد في البحرية الامريكية: اسطولنا يحتاج لدمج التكنولوجيا التي يستخدمها “الحوثيون”  
  • دمشق التي تغادر زمن الوجع والمرارة