- لو عاد بي الزمن إلى الوراء سأتخلص من الخوف وأكتب الرواية.

- ديواني "أنت لا تخصني وأنا لا أخصك" هو الأخ الأكبر لكل أعمالي.

- هناك قصائد تشبه الجَدَّات وأخرى تشبه القتلة.. وقصائد تتصادق معك وأخرى تهمسُ في روحك وتمضي.

لو عاد الزمن بالشاعر المصري مؤمن سمير إلى الوراء يتمنى أن يكون الشعر أكثر رفقاً به، وأكثر تصالحاً معه، وأن يتركه لكتابة الرواية، فالخوف أجبره على مدار سنوات ألا يقترب منها.

لو عاد به الزمن أيضاً إلى الوراء فلا شك أنه سيحذف كثيراً من القصائد التي يرى أنها لا تمثله الآن وقد صار أكثر خبرة ودراية وإحاطة بالقصيدة المتوهجة الحرة الطازجة.

يعد مؤمن سمير واحداً من أهم شعراء قصيدة النثر في مصر. تتميز تجربته بالغزارة والتنوع، فلديه "بورتريه أخير، لكونشرتو العتمة"، "هواء جاف يجرح الملامح"، "غاية النشوة"، "بهجة الاحتضار"، "السِريِّون القدماء" "ممر عميان الحروب"، "تفكيك السعادة"، "تأطير الهذيان"، "بقع الخلاص"، " يطل على الحواس"، "رفة شبح في الظهيرة"، "عالِقٌ في الغَمْرِ كالغابة كالأسلاف"، "إغفاءة الحطَّاب الأعمى"، "حيزٌ للإثم"، "بلا خبز ولا نبيذ"، وأخيراً ديوان "أنت لا تخصني وأنا لا أخصك" الذي يدور حوله هذا الحوار.

- ماذا كنت تعني بأن ديوانكَ الجديد "أنتَ لا تخصني وأنا لا أخصُّكَ" محاولة للحصول على ما يشبه الشيخوخة الهادئة؟

• كنت أقصدُ أن هذا الديوان تمت كتابته تحت تأثير حالة لا واعية من الإنهاك العصبي صنعها الديوانان السابقان عليه وهما "شَوْكة الراوي العليم" و"ذاكرة بيضاء".. بحيث كانت حالات كتابة قصائده المتوالية، أشبه بمحاولات التعافي أو الهروب لضفاف أكثر هدوءاً وتأملاً.

- هل ترى أنك حققت البساطة التي تنشدها في هذا الديوان؟

• ما زلتُ أنتمي لفكرة ترى في البساطة مفهوماً مخاتلاً، لذا فأظنها لا تُقصد لذاتها بل تصل إليها الكتابة عندما يكون اتجاه النظر وتوجُّه القناعات الخاصة بالكاتب أكثر قربًا من النهر الوديع الذي يخفي أكثر مما يفصح ويفتح الباب داخله للضجيج ثم يترك نافذة ليهرب الصوت بهدوء عفوي وغير متكلف، وبهذا تكون الكتابة محاولة لمداعبة قلب الأشياء بأقل قدر من الكلمات، وبأكبر قدر من اقتفاء حالة الصفاء التي تحققها الموسيقى، واختيار التربيت على الأرواح بديلًا عن نزع الجلد، والعودة لطعم القبلة عوضًا عن تمزيق الفم والهروب به بعيدًا تحت شجرة لها أظافر في آخر الطريق.

- ما المختلف بين الديوان الأخير وأعمالك السابقة؟ أين تضعه منها؟

• تصارعتُ مع الشِعر طويلاً على مدى التجارب السابقة. كنت أسأله ببراءة طفل حيناً وبشراسة مصارعٍ مجنون وعدمي حيناً آخر، عن ماهيته ومداخله وبواباته ومتى يرضى ومتى يقتل، حتى أنني أُنهكت.. واحتدم هذا الشعور مع هذا الديوان بالذات لأنه جاء بعد تجربتين مرهقتيْن على مستوى اللعب الفني أو بالأحرى الوعي الذي كان يسيطر على جسد وروح الشاعر داخلي أثناء الكتابة.. هذا على المستوى النفسي بالأساس أما على المستوى الفني فأظنه جاء ليلملم الكثير من الخيوط الجمالية التي تناثرت في دواوين سابقة ويضعها في مواجهة وضعيتها الأخيرة كثابت من ثوابت وجود الكائن أو البطل الدرامي للقصائد أو افتراضاته في سبيل تحويل الحياة إلى حالات شعرية أو بالأحرى اكتشاف الشعرية المخبوءة تحت ملابس العالم.. لهذا فأنا قد أضع الديوان بالنسبة لباقي الدواوين في موضع الأخ الأكبر الذي يربتُ على شغب ونزق أخوته بمحبة ويغلق عليهم مداخلهم ليجبرهم على استنشاق بعض الهواء بعمق وهدوء في سبيل الكشف عن أبواب أخرى..

- اعتمدتَ في بعض القصائد على الكتلة مثل "بديل حياة باردة" و"عند حافة الكوب" و"حفائر تحت مقبرة بيسوا".. ما الفارق بينها وبين القصائد الأخرى؟

• للقصائد هيئات كثيرة، فمنها قصائد تقول جملة ثم تصمت قليلاً وتتحرك من مكان إلى آخر مطالبةً لك أن تجاورها وتتحاور معها وربما تسير وراءها طويلاً ثم تمسكها من ذراعيْها لتوقفها وتجلسان وتعيدان الحكاية معاً كي تتسرب وتسكننا.. وهناك قصائد تفضِّل أن تصرخ أو تحكي في جلسة واحدة لكنها مكتنزة بإمكانية اللعب والانتقال من زمن لآخر أو من مكان لآخر في ضربةٍ خاطفة لاهثة.. أي أن هناك قصائد تشبه الجَدَّات وأخرى تشبه القتلة.. وقصائد تتصادق معك وأخرى تهمسُ في روحك وتمضي.. قماشة كل قصيدة بالذات هي التي تختار شكلها وصوتها وألوانها.

- المجاز له حضور في بعض القصائد مثل "ذبائح خضراء" و"أنبياء الألفة" و"فرار متكرر".. كيف ترى العلاقة بين قصيدة النثر والمجاز؟

• دَخَلَت قصيدة النثر الفن من بوابة لا تملك التخلي عنها مطلقاً وهي الحرية، إذ أن ارتباطها بها مسألة وجودية وحتمية وتخليها عنها عدمٌ وفناء.. هذه القصيدة تلعب براحتها وترتكب كل ما يحقق الشعرية للكتابة بكل بساطة وجسارة في الآن ذاته، وحيث أنها ضد التنميط والتأطير والقولبة على طول الخط، فمن غير المنطقي أن نضع لها محاذير أو نكبلها بمحظورات خنقت وقتلت شعرية أشكال أخرى من قبل، ومن هنا فالمجاز رغم أنه لعبة بلاغية إلا أنه أداة جمالية بالأساس نصنع عن طريقها دينامية النص وصدقه، مثله مثل السرد وتقنيات السينما وما إلى ذلك. المجاز في هذه القصيدة ليس هو الهدف الأسمى فيتحول معه النص بالتالي إلى منشور لغوي تسوقنا فيه اللغة إلى دوائرها التي بلا نهاية، وإنما هو وسيلة لكتابة جملة شعرية تخدم النص وليس، أبداً، غاية في حد ذاته.

- بعض القصائد تعتمد على السرد مثل قصيدة "ضربة روح".. ما الذي يضيفه السرد للشِعر؟

• السرد الشعري لا يطمح لأن يصنع قصصاً قصيرة مشعَّرة وإنما يخلق حالة شعرية بالأساس، تستعمل السرد كوسيلة جمالية لبناء أدائها الشِعري. لا شك أن السرد يغذي نمو الشعرية ويضيف إليها قنوات فنية أكثر جمالاً وأذرعاً أخرى أطول إذ ربما تمسك بها القمر النائم تحت تراب سجادة غرفة الأميرة..

- كيف تصف رحلتك مع الشِعر التي بدأت قبل ربع قرن تقريباً؟ كيف تبدَّلت شخصيتك وكيف تبدَّل الشعر معها؟

• كانت روحي فوضى فجاء الشِعر ونَظَّمها ربما مع الكثير من القسوة بكل صراحة، لأنني وأنا المنسحب اجتماعياً والخاسر في كل المعارك، التي أدخلتني ظروف الحياة فيها، لم أعد أملك يقيناً تاماً اللهم إلا بَوْصلة هذا الشِعر الذي يسمح لي أن أنام قليلاً وأنا أملك قليلاً من الرضا المزيف، مذكراً إيايَ طول الوقت بأنك عندما لا تملك وسائل متعددة سينتابك دائماً إحساس العجز فارسمه يا أخي لتستمر في التنفس. الأزمة هنا أنَّ ذلك الذي لا أملك سواه قد توحش داخلي وصار يرعى براحته ومن هنا صارت كل قصيدة معركة حقيقية لأني رغم السنوات الطويلة في اقتراف الشِعر، أحترقُ بشكل حقيقي أثناء كتابة القصيدة، فيرتفع ضغط الدم ويرتفع منسوب السكر في عروقي وتزيد ضربات القلب ويتصبب العَرَق حتى لو كنت في الشتاء.. والتفسير الوحيد هو أن هذا القاسي استغل هشاشتي ليتملكني وأصير أسيراً دائماً لمن يدركُ أنني بدونه بلا كينونة..

- ما الذي بقي من جيل التسعينيات الآن ومقولته حول التفاصيل اليومية؟

• ربما يحمل السؤال فخاً لأنه مصاغ بطريقة رثائية توحي بأن هناك جيلاً قد انتهى وينحصر دورنا في البحث عن البقايا.. الجيل الشعري الذي هو عبارة عن مشاريع العديد من الشعراء الذين يكتبون حتى اليوم وفق توجهات جمالية تختلف بالطبع من مشروع لآخر- كيف نقول إنه انتهى بالكامل والشِعر مشروع جمالي فردي بالأساس؟ لقد غابت أسماء عن المشهد الشعري الحالي، تُحسَب على كل الأجيال وليس على جيل التسعينيات فقط، وهذا أمر طبيعي وفرز مرتبط بالزمن لكنَّ الواقع أيضاً أن الكثير من الشعراء قد استمر في الانتاج وقدم إضافات فنية هامة وطور كثيراً من أدواته الفنية وصار نصه يملك بصمة أسلوبية تخصه وحده.. ربما تقصد أن المقولات الجمالية التي ارتبطت بهذا الجيل قد خفتت وانتهى دورها؟ دعنا نكون واضحين، لقد ساهمت هذه المقولات في تحرير أداء الجيليْن السابقيْن عليه، السبعينيات والثمانينيات، من الأوهام الفنية التي عرقلت نصوصهم، وبالتالي تحرروا وانطلقوا نحو قصيدة أكثر رحابة وجمالاً وصفاء. وبالتالي وربما لا أكون مبالغاً إذا قلت إن وجود نصوص التسعينيين قد منح قبلة الحياة لمشاريع شعرية كثيرة.

- لو عاد بك الزمن إلى الوراء هل ستُقدِم على نفس الاختيارات؟

• سأكون كما أنا بالضبط، لكني لو عدتُ بالوعي اللاحق الذي من المؤكد أنني قد اكتسبته، فسأسعى لإصلاح الكوارث التي استسلمتُ لها وأختارُ حياة أخرى لا أكون فيها دائماً بها تحت وطأة الاستلاب والقهر الاجتماعي والخوف من كل ظِل.. أما بالنسبة للفن فأظنني كنت سأستجيب للمرات القليلة التي كنت سأُقْدم فيها على محاولة كتابة رواية، لكنَّ طبيعتي الباطنية نفسياً وإبداعياً، كما كان يسميها الراحل فتحي عبد الله، أخافتني وجعلتني أسيراً لفكرة أنني لا أصلح إلا للشِعر، وما المحاولات الأخرى مثل كتابة المسرح أو المقالات النقدية والنصوص إلا مجرد اقترافات. كان الشِعر يقول لي صباح مساء أن الرواية خطرٌ كبير لأنها ستشدك بأذرعها الأخطبوطية ولن تفلتكَ أبداً وبهذا ستغترب عن طبيعتكَ وصدقك وساعتها لن تنجو أبداً.. بالنسبة للشِعر كنتُ سأحذف قصائد كثيرة من كل الدواوين وقد أحذف سطوراً من قصائد.. العودة بالزمن حلم جميل ومخدر لأنك ربما لن تجني من أعراض انسحابه المتوالية كلما تعلقت به، إلا المزيد من الحزن..

- من آباؤك الشعريون عربياً وعالمياً، ولماذا؟

• ربما هذا سؤالٌ مفخخ آخر، لأن الشاعر يتعلم من الجميع حتى من المختلفين عن توجهاته، من الفلسفة والطيور والموت والروائيين والشعراء والمجاذيب والأشجار والأصوات والروائح.. روح الشاعر هي روحٌ مفتوحة ونهمة ولا تشبع. ما يطمئنني أنني لا أحسِبُ نفسي على أب معيِّن، لقد انتبهتُ للإيقاعات مثلاً منذ الصغر وكنتُ أكتب كلاماً يشبه القصائد وليس حولي قصائد ولا شِعر ثم مرت السنوات وأحرقتُ كل ما لم يعبر عني وكتبتُ قصائدي في الجامعة وأنا لا أدركُ أنها تنتمي لقصيدة النثر! أخاف طول الوقت أن أغرق في مشروع معين فألمحُ فجأة أن صوته الخاص قد تسرَّب إلى كتابتي وساعتها سيكفُّ لهاثي وأموت، وأصيرُ خرقةً تعافُ أمي أن تمسح بها الغبار.

- أخيرا..ً بماذا تحلم للشعر؟

• الشِعر هو ضرورة إنسانية تَعَاقب البشر على الاهتمام بها وتدليلها خوفاً من ضياع روح وإنسانية الإنسان.. أما بالنسبة للشِعر الذي أعرفه عن قرب فلا أتمنى منه إلا تكرار تجربة الرفق بي والتربيت عليَّ كلما هَلَّ الفجر، ليس لأني أُرهَقت من مصاحبته فقط ولكنَّ الشغف ما زال يحدوني لمعاينة مزيد من أوجه أخرى له، أقل قسوةً وأريحية، ثم بعد ذلك اختبار النتائج علها تفتحُ سككاً جديدة ونوافذ أخرى ربما تعيد صياغتي كإنسان من جديد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: قصیدة النثر إلى الوراء وأنا لا لو عاد

إقرأ أيضاً:

نجم برشلوني من أصل عربي يصبح الوجه الإعلاني الأكثر طلباً في العالم

نجم برشلوني من أصل عربي يصبح الوجه الإعلاني الأكثر طلباً في العالم

مقالات مشابهة

  • قصيدة في حب الأردن
  • الشاعر الشاب يزن عيسى يحصد الجائزة الثالثة في مسابقة أمير الشعراء
  • في آخر أمسيات المعرض: شعر البادية يصدح بين جنبات القاهرة
  • في اليوم قبل الأخير لختامه.. معرض الكتاب يشهد أمسية شعرية حافلة
  • عيد عبدالحليم: حين أكتب الشعر فأنا أكتب نفسي.. وأهدي الجائزة لجيل التسعينيات
  • نجم برشلوني من أصل عربي يصبح الوجه الإعلاني الأكثر طلباً في العالم
  • ما هي الدول الأوروبية التي تعاني أكثر من غيرها من مشاكل التركيز والذاكرة؟
  • حمادة صميدة: أتمنى تقديم دور مريض سرطان
  • الشاعر السوري فواز قادري: دير الزور حكاية حب لا تنتهي.. والكتابة لا تهادن الواقع