لجريدة عمان:
2025-04-10@21:58:42 GMT

هل تكفي الذكريات لملء فراغ الغياب؟!

تاريخ النشر: 6th, February 2025 GMT

هل تكفي الذكريات لملء فراغ الغياب؟!

لا أستطيع أن أنسى اليوم الذي رحلوا فيه، كان الوداع مفاجئًا، وكأن الزمن قد قرر أن يسحب من بين يديّ أجمل لحظات العمر، تلك اللحظات التي كانت مليئة بابتساماتهم وأصواتهم التي لا تبارح مسامعي، هل غاب الأجداد حقًا؟ أم أن غيابهم مجرد وهمٍ يتسلل إلى القلب، فتلتقيه الذكريات لتملأ الفراغ الذي خلّفوه؟ تلك اللحظات التي ضمّت وجودهم، والتي تطرّزت بعباراتهم وحكمتهم، تصبح كالنغمة التي تتكرر في قلب المكان، فتذكرنا أن حضورهم كان طيفًا لا يموت، رغم غيابهم الجسدي.

حينما أكتب عن الأجداد، لا أستطيع أن أتجاهل الكم الهائل من المشاعر التي تُثار في قلبي، هم ليسوا مجرد أفراد مرّوا في حياتنا، بل كانوا علامات فارقة، شوارع راسخة في خريطة الذاكرة، عندما كنت صغيرًا، كانت لحظاتهم مليئة بحكايات يروونها عن الزمن البعيد، وعن الأجداد الذين سبقوهم، وعن أيام الطفولة التي عاشوها في زمن آخر، كان كل حديث منهم يبعث في روحي طمأنينة، وكل كلمة تحمل بداخلها عطر الماضي، وكل نصيحة تحمل بريق حكمة مفقودة في زماننا المعاصر.

«إذا أردت أن تعرف كيف تكون قويًا، فتذكر كيف كنا نعيش أيام الشدة...» هكذا كان يقول لي جدي، في كلمات بسيطة لكنها تحمل أثقالًا من تجارب الحياة.

لكن عندما غابوا، لم يعد للصوت نفسه وقعٌ في المكان، أصبحت كل زاوية في البيت فارغة، كما لو أن الزمن قد اختطف معه جزءًا من روح المكان، غيابهم لم يكن غيابًا عن الأجساد فحسب، بل عن طيفهم الذي كان يعطر الأوقات، وعن بصماتهم التي كانت تشكل هوية الأسرة، كيف للذاكرة أن تحمل كل هذا العبق؟ كيف للمكان أن يبقى حيًا دون حضورهم؟

المفارقة العجيبة أن الأجداد لا يموتون كما يموت الآخرون، فهم لا يرحلون إلا في أجسادهم، يظلون حاضرين في كل زاوية من حياتنا، في كل خطوة نخطوها، وفي كل لحظة صمت نعيشها، نراهم في كل مكان، في ابتسامة طفل، في طريقة كلامنا، في الحكمة التي ننقلها لأبنائنا وأحفادنا، هل يكفي هذا؟ هل تكفي الذكريات لتغطي الفراغ الذي خلفوه؟ هل تكون الأجيال الجديدة قادرة على فهم المعاني التي زرعوها فينا؟ أم أن الزمن، كما في كل شيء آخر، ينسى شيئا فشيئا حتى يغيب المعنى عن الأعين؟

في لحظات الضياع، في لحظات الحيرة، ندرك أن غياب الأجداد هو غيابٌ لا تعوضه الأيام ولا الأوقات، نحن أمام حقيقة واحدة: لا يمكن للزمن أن يعيد لنا ذلك الحضور العميق، ذلك المعنى الكبير الذي كان في قلوبهم، لا يمكن للذكريات أن تملأ الحيز الذي خلفوه، ولا يمكن لنا أن نرثَ سوى ما زرعوه فينا من حب، من حكمة، ومن صبر.

ولكن، في كل ذلك، هناك شعاع من الأمل، شعاع ينبعث من تواصلنا مع إرثهم، من تمسكنا بتلك القيم التي زرعوها فينا، مهما مرَّ الزمان، تظل آثارهم حية فينا، إن نحن حملناها في قلوبنا وطبّقناها في حياتنا، الأجداد علمونا كيف نواجه الحياة بكل صعوباتها، كيف نتمسك بالأمل حينما يعصف بنا اليأس، علمونا أن الفقد ليس نهاية، بل هو بداية لفهم أعمق للحياة، وكيف أن الموت ليس إلا نقطة انتقال من عالم إلى آخر. لا نملك سوى أن نعيش على ذكراهم، وأن نحيي إرثهم بما في ذلك من تربية، وحكمة، وقيم، الأجداد هم الحافز الذي يدفعنا للمضي قدمًا في الحياة بكل ما فيها من تحديات، في كل مرة نعيش لحظة فرح، نتذكرهم، وفي كل مرة نتعثر، نتذكرهم، وجودهم في ذاكرتنا يجعلنا نرسم خطانا بثقة، وتظل حياتهم مثالًا نحتذي به.

في غيابهم، قد يكون الفرح أقل سطوعًا، ولكن الذكريات ستظل تلوّن حياتنا بألوانهم الطيبة، وها نحن اليوم، نعيش وسط هذه الذكريات، نحتفظ بكل كلمة قالوها، بكل دعوة كانوا يرفعونها إلى السماء من أجلنا، وفي كل مرة ندعو لهم بالرحمة، نجد أنفسنا جزءًا من تلك الحلقة التي لا تنتهي.

اللهم اجعلهم من أهل الجنة، وارزقهم الراحة الأبدية، ونسألك أن تكون أرواحهم في طمأنينة، وأن تظل دعواتهم تحفظنا في الدنيا، كما حفظنا حضورهم في قلوبنا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

رسالة بعد منتصف الليل

يعتقد كثيرون أن دور الأستاذ الجامعي ينتهي عند شرح المقررات وتصحيح الاختبارات، غير أن التجربة تثبت أن العلاقة بين الأستاذ وطلابه تتجاوز تلك الحدود، وتمسّ جوانب إنسانية عميقة قد لا تظهر في المحاضرات، لكنها تتجلّى في لحظات خاصة، وغير متوقعة.
ذات مساء، وبينما كنت أراجع عددًا من أوراق البحث، وصلني بريد إلكتروني من طالب في ساعـة متأخرة من الليل، ومن الطبيعي أن توقيت هذه الرسالة يثير فضولي، لكن ما شدّني أكثر هو محتواها. كانت كلماتها بسيطة، لكنها مثقلة بمشاعر الصمت الطويل، والإنهاك الذي لا يُقال.
كتب يقول: “أدرك أنني لم أكن موفقًا في تقديم العرض المطلوب، وأعتذر عن ذلك، وأنا لا أبحث عن عذر، لكني أمرّ بمرحلة صعبة نفسيًا، ولم أجد من أشاركه ما أمرّ به”.
جلست أمام الرسالة أتأمل، لا من باب الحكم، بل من باب المشاركة الإنسانية، فهذا الطالب من أكثر الطلاب نشاطًا وتفاعلاً، ولكنها بدت وكأنها تحمل في داخلها ما يفوق قدرته على الاحتمال.
وفي الحال بادرت بالرد، ولم أنتظر للصباح، وعبّرت له عن تقديري لصراحته، واقترحت عليه أن يتوجه إلى مركز الإرشاد الطلابي في الجامعة، وكنت وقتها أتوّلى إدارته مع نخبة من زملائي الأكاديميين والاختصاصيين والإداريين، وطمأنته أن ضعف الأداء لا ينتقص من قيمته، بل يدل على حاجة إنسانية لا يمكن تجاهلها.
وفي اليوم التالي، حضر المحاضرة كعادته لكنه جلس بهدوء، يلتفت نحوي بنظرة امتنان صامتة. لم نُعد الحديث، فقد قالت الرسالة كل شيء، وبعد أيام، علمت من الزملاء بالمركز أنهم تواصلوا معه، وبدأت رحلة تعافٍ بطيئة لكنها ثابتة.
وبعد قرابة الشهر، فوجئت به يقف أمام زملائه لتقديم عرض جديد، لكن هذه المرة كانت مختلفة، فحضوره أقوى، وحديثه أكثر تنظيمًا، ونبرته تحمل ثقة واضحة، كما رأيت في عينيه بداية جديدة، لا في الأداء فحسب، بل في الطريق الذي اختار أن يسلكه نحو التوازن النفسي.
ذلك الموقف جعلني أعيد التفكير في دوري كأستاذ، فنحن مسؤولون عن التعليم، لكننا أيضًا نؤدي دورًا في التوجيه والدعم، حتى وإن لم يكن ذلك مكتوبًا في الوصف الوظيفي، فقد تصلنا رسائل في أوقات غير معتادة، لكنها تحمل في طياتها نداء استغاثة، أو رجاء بأن يسمعهم أحد.
الأستاذ الناجح ليس فقط من يشرح المادة بإتقان، بل من يفتح نافذة أمل في وجه من يشعر أنه على وشك السقوط، وكم من رسالة صامتة كانت بداية تحوّل في حياة طالب أو طالبة، فالمهم أن نكون حاضرين، ولو بكلمة في منتصف الليل.

مقالات مشابهة

  • الغياب.. لحظات إنسانية قابلة للتأمل !
  • 5 آلاف نفقة شهرية لطفليها لا تكفي .. انتصار تستأنف على حكم محكمة الأسرة
  • جولان: نتنياهو يرفض تحمل المسؤولية حتى بعد الكارثة التي شهدتها إسرائيل
  • بعد 12 عاماً من الغياب.. أحمد مكي يحضّر لعودته إلى السينما
  • رسالة بعد منتصف الليل
  • أمريكا بين الذكريات والبحث عن الذات
  • لحظات الوداع واسترجاع الذكريات
  • وزير التعليم الفلسطيني: نحن باقون على أرض الأجداد ولن نتركها
  • بعد الغياب .. دنيا بطمة تعود لتتألق في حفل الدار البيضاء
  • ثلاث أحزاب سياسية تكفي للسودان الجديد