غزة- على أرض جباليا، ورغم اتفاق وقف إطلاق النار، تدور معركة لا تعرف الهدنة، حيث الحياة والموت يتنازعان على كل شبر، فهنا لا تنطفئ جذوة البقاء بين أهل المخيم، الذين يقفون في مواجهة الفناء، لا كضحايا، بل كجنود يحملون راية الحياة وسط أنقاضها، فلا يهادنون الرماد الذي يحاول أن يغطي الأفق، ولا يسلّمون لإرادة الاحتلال طمس وجودهم.

من بعيد وقبيل الوصول، يمكن ملاحظة كثافة عدد الأعلام الفلسطينية المنتصبة فوق ركام المنازل وعلى رؤوس الخيام، ترفرف بين الشوارع وعلى العمارات المطرزة بالرصاص كما يصفها أحد سكان مخيم جباليا "هذا تذكير للعائدين هنا بأن فلسطين تستحق، وأنها حية في قلوبنا مهما حاولوا محوها" كما يُجمعون هنا.

خلال الزيارة الأولى للجزيرة نت للمخيم شمال قطاع غزة قبل بضعة أيام، كان المظهر العام السائد رماديا، لكن خلال بضعة أيام، تمكّن الآلاف من العودة إلى بيوتهم وأعادوا تدشين مظاهر الحياة التي نجحت إسرائيل في دفنها، لكنها لم تنجح في وأد إرادة العائدين إليها.

وفي مقابلاتهم مع الجزيرة نت خلال الزيارة الثانية، كان الحُب هو الدافع الرئيسي لسكان المخيم والمدينة هنا، يقولون بصوت واحد "لا نستطيع البُعد عن جباليا"، وبهذا يفسر العائدون إليها هرولتهم إليها رغم خرابها.

مدارس إيواء مدمرة ومحروقة يستخدمها العائدون ملجأ بعد سد الثغرات بالأقمشة والنايلون (الجزيرة) سوق ما بعد الحرب

في قلب الدمار بوسط المخيم، صنع العائدون سوقا لتأمين احتياجاتهم، وبين مستنقع من الوحل الناجم عن تكدس مياه الصرف الصحي الذي أحدثه تدمير البنية التحتية بشكل كامل، يضع الباعة بسطات الخضار والأغذية على طاولات مرتفعة.

إعلان

على الناحية المقابلة عدد كبير من بسطات الأحذية وملابس البالة "المستخدمة"، صحون وأوانٍ تم انتشالها من ركام المنازل معروضة للبيع، ويلتف حولها الناس للشراء منها بأسعار زهيدة.

ببنطاله المشمّر، يقف خليل عمر أمام بسطة المعلبات وقدماه غارقتان في الماء، ينادي "6 علب تونة بـ 10 شواكل"، تقف قبالته سيدة لتشتري كمية منها، تتمتم "شرينا الواحدة قبل شهر بـ20″، ترد السيدة المرافقة لها "هذا ما اختلف عن أيام الحرب، امتلاء السوق بالأطعمة والإندومي والشوكولاتة، عدا ذلك لم يصنع انتهاء الحرب فرقا بأي شيء".

يعقب البائع خليل أنه يحمل بضاعته من منطقة "جباليا البلد"، ويسير بها إلى المخيم ليعرضها للبيع في هذه المنطقة المنكوبة "الناس هنا بحاجة لكل ما يعينهم على البقاء، السوق يتمدد يوميا والحياة تعود رغم أنها بشكلها البدائي" حسب وصفه.

وعود منسية

يفترش الناس الشوارع وركام البيوت، هذا هو الحال الذي رصدته الجزيرة نت عن أماكن نوم العائدين إلى بيوتهم المهدمة، جزء منهم اصطحب خيمته خلال نزوحه من جنوب القطاع، والسواد الأعظم ممن كانوا ينزحون في مراكز الإيواء في مدينة غزة انتشلوا أغطية مهترئة من ركام منازلهم وصنعوا منها خياما لا تسترهم ولا تقيهم بردا.

وعلى فرشة مهترئة مقابل ركام بيته، بالقرب من سوق جباليا، يستلقي المواطن أبو محمد شلايل، يعتذر لعدم قدرته على الاعتدال، فهو لا يستطيع الانحناء، لإصابة تلقّاها في أمعائه، حيث تضاعفت حالته خلال حصاره في مستشفى العودة مدة شهرين، وتعفنت جروحه وخرج القيح منها، وهو لا يزال يعاني مضاعفات ذلك حتى اليوم.

يقول أبو محمد للجزيرة نت "أعيش في صدمة، لا أستطيع استيعاب ما حدث، أستمر في الالتفات حولي حتى أُدرك ما حل بجباليا وكيف قُلبت حياتنا"، ويتحدث وقد نصب أعمدة من حديد انتشلها من بين بقايا الركام، لكنه ينتظر الحصول على "شادر" أو خيمة.

إعلان

يقول "عدت لحظة انسحاب الجيش إلى جباليا ومنذ ذلك الوقت لم يقدم لنا أحد شيئا"، ويتساءل "لماذا لم يتبنانا أحد نحن المشردين حتى اللحظة؟ أين الوعود بإدخال الكرفانات وبدء الإعمار الذي صدّعوا به رؤوسنا؟!".

ومن المفترض أن يتردد أبو محمد على مشفى الشفاء للمراجعة الطبية والغيار على جروحه، لكنه لا يتمكن من الذهاب لانعدام المواصلات وحاجته إلى السير ساعات طويلة.

ويلتفتُ أبو محمد إلى منزله المسوّى بالأرض بعد أن كان يرتفع عنها 5 طوابق، وصار اليوم كومة من ركام، ويقول بصوت يملؤه القهر "أقصى أمانيّ اليوم أن أنام مرتاحا هادئا هانئ البال، دون أن أترنح بخوفي على أطفالي الخمسة الذين يعيشون حياة لا ترضاها البهائم".

وقبل أن يكمل ينادي طفله، يكشف عن قدميه، ويطلب التدقيق فيها "لقد هجم عليه كلب وهو نائم، ضربته بعصا حديدية حتى فكّ أنيابه عن قدمه وفر" ويتابع بكل ألم وحسرة "ثم تسألونني كيف حالك؟!".

خيام منصوبة على ركام البيوت في مخيم جباليا (الجزيرة) الصغار الكبار

قبالة منزل أبي محمد، تقع مساحة كانت مزارع قبل أن تجرفها الآليات الإسرائيلية، وهناك يلهو أطفال صغار، سألتهم الجزيرة نت "ماذا تفعلون؟"، أجابوا "نحفر نفقا" قبل أن تتعالى ضحكاتهم.

وفي معرض ردهم على سؤال وجهته لهم الجزيرة نت جميعا "هل يروق لكم العيش في هذا المكان المدمر؟" كانت الإجابات أكبر من أعمارهم، أحدهم قال "كيفما يكون شكلها بنشوفها جنة"، وردّ آخر "الوطن زي الضنى (الولد) فش أغلى منو"، أما الثالث فقال "حب جباليا بيجري بدمنا، هيك أبوي كان يحكي!".

"ليسوا أطفالا" تعلّق من بعيد سيدة تتربع أمام نار موقد الحطب، اقتربت منها الجزيرة نت، فعبّرت عن أسفها لما حلّ بأطفالها، تقول سناء أحمد وهي أم لـ5 أطفال "لا تعليم لا دراسة لا مستقبل لا أُفق".

وتتابع "يقضي أطفالنا يومهم في الشوارع أو يجمعون الحطب أو يبحثون في رُكام بيوتهم عن شيء يمكننا الانتفاع به أو بيعه، أو للوقوف على طابور المياه الملوثة التي نشربها من بئر مالحة نبتلع معها الرمل!"، تتابع بكل حسرة "مرضنا من الهم ومن كثرة التفكير في واقعنا الذي لم نتخيله يوما، لكننا نحاول التكيف مع ما فُرض علينا من مآسٍ".

الغزيون يعيدون افتتاح مشاريعهم القديمة بخيام من النايلون في وسط المخيم (الجزيرة) حياة فوق الركام

يبدو مشهد الخيام المنصوبة فوق ركام البيوت عاديا، وهو الشكل السائد لسكن الناس هنا، كما يعيد الناس فتح مشاريعهم بشكل مصغّر، فصيدلية "جوري" مسحها الاحتلال وصارت أثرا بعد عين، ويعيد صاحبها فتحها بشوادر من نايلون، حيث يتوافد عليها الزبائن القدامى يجلبهم اسمها القديم الذي يعرفونه.

إعلان

على الناحية الأخرى محل لبيع وتبديل المصاغ الذهبي، وبجوارها بسطات لشحن البطاريات والهواتف باستخدام ألواح الطاقة الشمسية، هي محاولة لصنع حياة طبيعية في مكان غير طبيعي البتة.

ويلجأ كثير من العائدين إلى جباليا لقضاء ليلهم في مدارس الإيواء التي لم يبق منها سوى أعمدة، يسدون الثغرات بالنايلون أو بالقماش وينامون ليلهم.

استطلعت الجزيرة نت أوضاع النازحين في إحدى هذه المدارس التي كانت قوات الاحتلال قد دمرتها لكنها غفلت عن الجزء الشرقي منها، لكنه مطرز بالقذائف منقوش بالرصاص محروق، وأشبه بـ"خرابة" ذات جدران سود آيلة للسقوط، ودرج متهالك، ورغم ذلك أوى إليه المئات، مبررين ذلك "المهم أن نبقى بجباليا حتى لو عشنا في خم دجاج".

تماما كما قالت أم غزل عليان التي قدمت من جنوب القطاع بعد رحلة نزوح فيه استمرت مدة عام كامل، فقبلت البقاء في هذا المكان الموحش، تسير أم غزل وهي تتحسس الجدران وتقول: "الجدار نعمة، أن تجد شيئا تسند إليه ظهرك نهاية النهار، هذه نعمة لم نجدها حين كنا في خيام الجنوب، أن تتنفس هواء حارتك هذه نعمة اختنقنا من غيرها هناك".

وفي معرض ردها على سؤالنا عن كيفية تعايشها في هذا المكان القاتم، قالت إنها تراه أكثر سترة من خيام الشوارع خاصة أن لديها 4 فتيات يحتجن إلى شيء من الخصوصية"، لكن أقسى ما تعانيه أم غزل -وهي زوجة لأسير اختطفه جنود الاحتلال من جباليا قبل أكثر من عام- هو تعبئة المياه، حيث تمشي مع بناتها مسافة طويلة جدا تحمل كل واحدة منهن جالونا لتعبئته من إحدى الآبار البعيدة!.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الجزیرة نت أبو محمد

إقرأ أيضاً:

“البيئة” ترصد هطول أمطار في (11) منطقة.. والرياض تسجّل أعلى كمية بـ (39.6) ملم في عرجاء بالدوادمي

المناطق-واس

سجّلت منطقة عرجاء بمحافظة الدوادمي في منطقة الرياض أعلى معدل لكميات هطول الأمطار في المملكة بـ (39.6) ملم، فيما سجّلت المجمعة (30.6) ملم، ومزارع خروب بشقراء (29.0) ملم، وذلك ضمن (11) منطقة شهدت كميات متفرقة من الأمطار على مناطق المملكة خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية.

ووفقًا للتقرير اليومي لوزارة البيئة والمياه والزراعة، حول كميات هطول الأمطار في مناطق المملكة كافة، سجّلت (155) محطة رصد هيدرولوجي ومناخي، خلال الفترة من الساعة التاسعة صباح الخميس 6 مارس، حتى التاسعة صباح الجمعة 7 مارس 2025م، هطول أمطارٍ في مناطق (الرياض، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، والقصيم، والشرقية، وعسير، وتبوك، وحائل، والحدود الشمالية، والباحة، والجوف).

أخبار قد تهمك “البيئة” ترصد هطول أمطار في (6) مناطق.. والمدينة المنورة تسجّل أعلى كمية بـ (13.2) ملم في القاحة بدر 4 مارس 2025 - 5:10 مساءً بالتعاون مع “الفاو”.. “البيئة” تمكّن شركات القطاع الخاص من تقنيات التحسين الوراثي لتعزيز الإنتاج الحيواني بتنظيم زيارة لبيوت الخبرة القبرصية 1 مارس 2025 - 9:48 مساءً

وأوضح التقرير أن المنطقة الشرقية سجلت (34.0) ملم في محطة القطار بقرية العليا، و(32.8) ملم في الرفيعة بقرية العليا، وبريدة في القصيم (24.8) ملم، وعنيزة (17.4) ملم، بينما سجّلت منطقة حائل (30.1) ملم في مدينة حائل، و(21.3) ملم في عقدة بحائل، فيما سجّلت الحدود الشمالية (21.8) ملم في حرس حدود طريف، و(17.9) ملم في مطار طريف.

وأبان التقرير تسجيل منطقة مكة المكرمة (10.0) ملم في الطائف، و(6.6) ملم في الخفج بالليث، فيما سجّلت المدينة المنورة (3.4) ملم في بدر، و(2.4) ملم في الحسو بالحناكية، بينما شهدت منطقة الباحة هطول (0.9) ملم في برحرح بالمندق، وعسير (0.7) ملم في بني عمرو بالنماص.

وفي منطقة الجوف، سجّلت أبو عجرم بدومة الجندل (36.0) ملم، فيما بلغ الهطول في مطار القريات (29.6) ملم، فيما سجلت محمية الملك سلمان بتبوك (16.0) ملم، كما سجّلت جامعة تبوك (2.4) ملم، في حين شهدت مناطق أخرى معدلات أقل متفرقة من الهطولات المطرية.

ولمعرفة المزيد من التفاصيل حول كميات الأمطار الهاطلة في جميع مناطق المملكة، خلال الفترة المذكورة، يمكنكم زيارة الرابط التالي: https://bit.ly/3F76muV .

مقالات مشابهة

  • الجزيرة ترصد أجواء رمضان في غزة ظل وقف المساعدات
  • الجزيرة ترصد آثار المعارك وأحوال الناس في حي الجريف شرق الخرطوم
  • “الإعلامي الحكومي” بغزة: إزالة 38 ألفاً و 300 طن من الركام وفتح 417 شارعا خلال أسبوع
  • الجزيرة ترصد معاناة المدنيين في حي الجريف شرق الخرطوم
  • “البيئة” ترصد هطول أمطار في (11) منطقة.. والرياض تسجّل أعلى كمية بـ (39.6) ملم في عرجاء بالدوادمي
  • نجم الهقعة
  • سوقٌ وسط الركام.. كيف يواجه الفلسطينيون في مخيم جباليا الحصار وغياب المساعدات؟
  • الإنصرافي هو الذي شتم قبائل الجزيرة ورفض تسليحها
  • عاجل | إصابة مصور الجزيرة رياض الحسين خلال تغطيته للاشتباكات بين قوات الأمن وفلول النظام في ريف اللاذقية
  • مخيم اليرموك.. رمز اللجوء الفلسطيني الذي حولته براميل “الأسد” إلى ركام