تبسيط الاقتصاد العالمي الـمُـعَـقَّـد
تاريخ النشر: 21st, August 2023 GMT
كان الاقتصاد العالمي هذا العام عامرا بالمفاجآت الـمحيرة. في الوقت الحالي، يتجاوز نـمو الناتج المحلي الإجمالي في اليابان نظيره في الصين، وفي الولايات المتحدة بلغت مبيعات التجزئة في يوليو ضعف التوقعات الـمُـجـمَـع عليها، على الرغم من ملاحقة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لواحدة من أكثر دورات رفع أسعار الفائدة تركيزا في عقود من الزمن.
في المملكة المتحدة، ارتفع نمو الأجور إلى معدل سنوي بلغ 7.8% في حين ظل التضخم الأساسي مرتفعا، حتى بعد رفع أسعار الفائدة 14 مرة متتالية من قِـبَـل بنك إنجلترا (وننتظر مزيدا في المستقبل). من ناحية أخرى، خفضت كل من البرازيل وتشيلي أسعار الفائدة، في تباعد واضح عن توقعات السوق بأن يُـبـقي الاحتياطي الفيدرالي على أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة. كل هذا الشذوذ ليس سوى غيض من فيض، وتزداد الأمور تعقيدا على تعقيد بفضل العواقب غير المؤكدة التي قد تترتب على تحولات بنيوية كبرى تلوح في الأفق. تشمل هذه التحولات الانتقال الضروري إلى الطاقة الخالية من الكربون، وثورة الذكاء الاصطناعي، فضلا عن تغيرات أخرى عديدة مدفوعة بالإبداعات الجديدة. إذا أضفنا إلى كل هذا التوترات الجيوسياسية والتراجع عن العولمة الاقتصادية والمالية، تنفتح أمامنا مجموعة واسعة من السيناريوهات المحتملة. مع هذا العدد الكبير من القطع المتحركة، وفي ظل هذه الظروف غير التقليدية (وغير المسبوقة في كثير من الحالات)، سيكون الإبحار عبر هذه التضاريس أمرا بالغ الصعوبة لأي شخص. وهنا أجد أنه من المفيد بوضوح العودة إلى إطار تحليلي بسيط تعلمته في وقت مبكر من حياتي المهنية كخبير اقتصادي. إنها نسخة متطرفة من «المعادلة المختصرة» التي يستخدمها أهل الاقتصاد للتركيز على قِـلة من العوامل الرئيسية للتنبؤ بالنتائج. قد لا تفسر هذه العوامل ظاهرة ما بشكل كامل، لكن هذه الاستراتيجية أفضل من الاعتماد على مجموعة ضخمة وغير عملية من العوامل.
في سياق اليوم، يطرح النهج التحليلي الذي أتبناه هنا سؤالا بسيطا: ما هي المعلومة التي قد تكون الأعظم قيمة لي على الإطلاق إذا تقطعت بي السبل على جزيرة معزولة لمدة ستة أشهر وكنت أريد أن أفهم ما حدث للاقتصاد العالمي أثناء غيابي تلك الفترة؟ في ظل الظروف الحالية، سأكون راغبا في المقام الأول في التعرف على الكيفية التي أدارت بها الولايات المتحدة ديناميكيات النمو والتضخم في اقتصادها. أو على وجه التحديد، سأكون راغبا في معرفة ما إذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي تمكن من تحقيق «الهبوط الناعم» (على النحو الذي أدى إلى إعادة التضخم إلى مستوى منخفض أقرب إلى هدفه دون أن يتسبب في إحداث زيادة حادة في البطالة). هذه المعلومة بالغة الأهمية؛ لأن الاقتصاد العالمي يفتقر حاليا إلى محركات بديلة. ومن الواضح أن تحديات النمو التي تواجه الصين والمملكة المتحدة ومنطقة اليورو ليست قابلة للإصلاح السريع بتعديل السياسات؛ ولا يتحمل النظام المالي الدولي، الذي يظل معتمدا على الاستدانة في ظل مستويات ديون ضخمة، ارتفاعا آخر في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وزيادة قوية في قيمة الدولار؛ ولا يزال لزاما على اليابان أن تجد طريقة للخروج من سياسة «التحكم في منحنى العائد» على نحو سلس؛ ولا يزال الاقتصاد العالمي يعاني من التفتت التدريجي.
للوهلة الأولى، تبدو احتمالات تمكن الاحتياطي الفيدرالي من تحقيق الهبوط الناعم واعدة. فقد تراجع التضخم عن ذروته التي تجاوزت 9% في العام المنصرم إلى ما يزيد قليلا على 3%، مما يجعله أقرب كثيرا إلى الهدف 2%. من ناحية أخرى، يستمر إنفاق الأُسَـر في دفع النمو الاقتصادي، كما أصبحت الميزانيات العمومية للشركات قوية. تشير هذه الظروف إلى أن الاقتصاد الأمريكي قادر على امتصاص التأثير التراكمي المترتب على رفع أسعار الفائدة من قِـبَـل الاحتياطي الفيدرالي بمقدار خمس نقاط مئوية، بينما يتجنب أيضا التأثيرات التي يخلفها النمو الصيني ومغازلة أوروبا للركود من حين إلى آخر.
ولكن كما أشار المؤرخ الاقتصادي نيال فيرجسون مؤخرا فإن «إدارة السياسة النقدية لا تشبه على الإطلاق قيادة طائرة». يبدو هذا التشبيه قابلا للتطبيق بشكل خاص على الاحتياطي الفيدرالي، لعدة أسباب. أولا، أصبح دليل تشغيل الاحتياطي الفيدرالي عتيقا باليا. الواقع أن «إطاره النقدي الجديد» كان مناسبا للعقد السابق عندما كان الطلب الكلي ناقصا، وليس هذا العقد الذي يتسم بعدم كفاية العرض الكلي. ثانيا، أصبحت منطقة هبوط الاحتياطي الفيدرالي موضع شك؛ لأن هدف التضخم الذي يلاحقه قد يكون أكثر انخفاضا مما ينبغي؛ نظرا للحقائق البنيوية والمزمنة الحالية. ثالثا، مع تركيز الاحتياطي الفيدرالي المفرط على الظروف الفورية، قد تنتهي به الحال إلى إهمال أنماط الرياح التي تنتظره في المستقبل مع تغير ارتفاعه. رابعا، بدأ الاحتياطي الفيدرالي تسلسل الهبوط متأخرا، بعد فترة وطوية أخطأ خلالها توصيف التضخم على أنه «مؤقت» قبل أن ينفذ أخيرا دورة مكثفة من زيادات أسعار الفائدة. وأخيرا، ليس من الواضح ما إذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي قد تعلم من أخطائه في التنبؤ والتواصل ما يكفي لتمكينه من إجراء تصحيحات المسار الضرورية. صحيح أن الاقتصاد الأميركي تحدى المتشككين بالحفاظ على نمو قوي أعلى من مستويات النمو في غيره من الاقتصادات الكبرى، على الرغم من أسعار الفائدة المرتفعة بشكل ملحوظ والرياح المعاكسة العاتية القادمة من الخارج. لكن استمرار هذا الأداء الاستثنائي يتوقف على قدرة الاحتياطي الفيدرالي على ترسيخ معدل تضخم منخفض ومستقر دون أن يتسبب في إحداث حالة من الركود. إنها غاية تحتاج إلى إيجاد توازن دقيق، وكل ما قد يحدث سيؤثر بشكل كبير حتما على بقية الاقتصاد العالمي والكيفية التي يتعامل بها صناع السياسات مع حالة انعدام اليقين غير العادية اليوم. أتمنى أن نحتفل بعد ستة أشهر من الآن بنجاح بنك الاحتياطي الفيدرالي في تحقيق الهبوط الناعم السلس وتمكين الاقتصاد الأميركي والاقتصاد العالمي من إدارة التحولات المزمنة والاستراتيجية المثيرة، على الرغم من كونها عصيبة، التي تنتظرنا في المستقبل. لكن أخشى ما أخشاه هو أن تكون هذه العملية أشد تعقيدا من توقعات عدد كبير من أهل الاقتصاد ومحللي السوق، مما يلقي بظلال كثيفة كان من الممكن تجنبها ذات يوم على واحدة من النقاط المضيئة القليلة في الاقتصاد العالمي.
محمد العريان رئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج وهو أستاذ بكلية وارتون بجامعة بنسلفانيا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بنک الاحتیاطی الفیدرالی الاقتصاد العالمی أسعار الفائدة
إقرأ أيضاً:
البنك المركزي المصري يحسم سعر الفائدة اليوم.. ما هي التوقعات؟
يعقد البنك المركزي المصري اليوم الخميس اجتماعا هاما للجنة السياسة النقدية والتي تقر أسعار الفائدة على الجنيه المصري في الإيداع والإقراض.
ورجح استطلاع أجرته وكالة «بلومبيرج» أن يؤجل البنك المركزي بدء دورة التيسير النقدي التي طال انتظارها، في ظل تفاقم حالة عدم اليقين الاقتصادي بسبب الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واقتراحه المثير للجدل بتهجير الفلسطينيين من غزة.
ويرى جميع خبراء الاقتصاد الثمانية الذين استطلعت الوكالة آراءهم باستثناء واحد، أن البنك المركزي سيبقي على سعر الفائدة القياسي عند مستوى قياسي مرتفع يبلغ 27.25%، وذلك في اجتماعه السابع على التوالي، اليوم الخميس، فيما يحيد بنك مورجان ستانلي آند كو إنترناشيونال بي إل سي، حيث يتوقع خفضاً في سعر الفائدة من قبل البنك المركزي المصري بنسبة 2%، ليصل سعر الإيداع إلى 25.25% وسعر الإقراض لـ 26.25%
وقال فاروق سوسة، الخبير الاقتصادي في مجموعة جولدمان ساكس للشرق الأوسط وشمال أفريقيا: «إن سلسلة السياسات التجارية الحمائية التي ينتهجها الرئيس الأميركي تسببت بالفعل في ارتفاع قيمة الدولار، مما أثر على تدفقات المحافظ المصرية وأوقف ما كان انتعاشا مؤقتا للجنيه المصري».
ولم يؤد اقتراح الرئيس الأمريكي ترامب (غير المسبوق) بنقل نحو مليوني فلسطيني من سكان غزة إلى دول مجاورة كجزء من خطة أمريكية لإعادة بناء القطاع الذي مزقته الحرب إلا إلى زيادة القلق، حيث رفضت مصر وبقية العالم العربي والعديد من الدول في جميع أنحاء العالم الخطة بشدة، فيما ألمح ترامب إلى أنه قد يقطع المساعدات عن القاهرة لإجبارها على الامتثال.
ورغم أن أي تأثير اقتصادي على مصر من المرجح أن يكون طفيفاً نظراً لأن المساعدات الأميركية تمثل 0.1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، فإن «احتمال ممارسة الضغوط الأميركية على مصر أدى إلى تآكل معنويات المستثمرين»، على حد قول سوسة.
وأثارت المخاوف بشأن مصير وقف إطلاق النار المستمر منذ شهر في غزة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني احتمالات استئناف هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، مما يقوض الآمال في عودة الشحن بقوة إلى قناة السويس هذا العام، حيث انخفضت العائدات المصرية من أحد طرق التجارة الرئيسية في العالم بنسبة 60% على الأقل بسبب الحرب، مع خسارة تقدر بنحو 7 مليارات دولار للسنة المالية الحالية.
وقالت سميرة كالا، الخبيرة الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في دويتشه بنك إيه جي، إن كل هذه التطورات «تصب في صالح نهج الانتظار والترقب» لدي البنك المركزي المصري.
وستدرس اللجنة المعدة من قبل البنك المركزي المصري اليوم آثار التضخم المحلي الذي لا يزال مرتفعا، والذي خالف توقعات الاقتصاديين بتباطئه قليلا فقط إلى 24% في يناير الماضي من 24.1% في ديسمبر 2024.
وتعتبر أسعار المستهلك المرتفعة أحد أعراض الأزمة الاقتصادية القاسية التي استمرت عامين حتى قدمت خطة الإنقاذ العالمية بقيمة 57 مليار دولار بقيادة الإمارات العربية المتحدة والتي تم الاتفاق عليها في أوائل عام 2024.
ويشمل هذا التمويل صفقة موسعة بقيمة 8 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي، حيث استكمل الصندوق مراجعته الرابعة للبرنامج، رغم أن مجلس الإدارة لم يعلن موافقته بعد على صرف القرض المرتبط به بقيمة 1.2 مليار دولار.
وفي سبتمبر 2024، أعلن البنك المركزي أن أسعار الفائدة ستظل عند مستوياتها الحالية إلى أن يحدث «انخفاض كبير ومستدام» في التضخم، وعلى الرغم من المفاجأة الطفيفة التي شهدها شهر يناير الماضي، فإن أغلب خبراء الاقتصاد ما زالوا يتوقعون أن يشهد شهر فبراير انخفاضاً حاداً، ويرجع هذا في الأساس إلى المقارنة الإيجابية مع العام السابق.
وقالت قالت كارلا سليم، الخبيرة الاقتصادية في ستاندرد تشارترد، إنه بحلول اجتماع «المركزي المصري» المقبل في 17 أبريل، قد يستفيد البنك المركزي من شهرين متتاليين من تضخم أدنى 20% وشريحة قرض صندوق النقد الدولي، وهو ما «يجعل الظروف أكثر ملاءمة» لدورة تيسير نقدي.
رفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة إلى مستوى قياسي عند 27.25% للإيداع و28.25% للإقراض، عندما أعلن تحرير سعر الصرف خلال مارس 2024، حيث زادت المعدلات بواقع 600 نقطة أساس، فيما كان آخر خفض لها في ذروة جائحة كوفيد-19 في عام 2020
اقرأ أيضاًقبل قرار «المركزي المصري».. تفاصيل أعلى سعر فائدة على شهادات ادخار البنك الأهلي
قبل اجتماع البنك المركزي.. سعر الذهب اليوم الخميس 20 فبراير
اليوم.. البنك المركزي يحسم مصير أسعار الفائدة