منذ تأسيس الولايات المتحدة، ظل الدستور الأمريكي رمزًا للصمود السياسي، وعنوانًا للحريات والديمقراطية. غير أن البروفيسور إروين تشيميرينسكي، في كتابه “لا ديمقراطية إلى الأبد: كيف يهدد الدستور الولايات المتحدة”، يرفع سقف التساؤل إلى مستوى غير مسبوق: هل يمكن أن يكون الدستور الأمريكي، الذي طالما شكل العمود الفقري للديمقراطية، سببًا في زعزعتها وتآكلها من الداخل؟

بجرأة فكرية وعمق تحليلي، يسلط المؤلف الضوء على أوجه القصور في الهيكل الدستوري الأمريكي، ويكشف كيف أن نصوصًا كان يُفترض أن تحمي الديمقراطية باتت اليوم تشكل تهديدًا لها.

فالديمقراطية، وفق تشيميرينسكي، ليست كيانًا خالدًا، بل منظومة سياسية هشة، تحتاج إلى إعادة بناء مستمرة حتى لا تنحرف عن مسارها.

الدستور بين قدسية النصوص وواقع الممارسة

يتعامل الأمريكيون مع دستورهم كوثيقة مقدسة، غير قابلة للنقد أو التعديل الجذري. لكن تشيميرينسكي يرى أن هذه القدسية المبالغ فيها قد جعلت من الدستور عائقًا أمام التطور السياسي. فالوثيقة التي كُتبت في القرن الثامن عشر، عندما كانت أمريكا دولة ناشئة، لا يمكن أن تكون صالحة بكل تفاصيلها لإدارة دولة معقدة في القرن الحادي والعشرين.

يتعامل الأمريكيون مع دستورهم كوثيقة مقدسة، غير قابلة للنقد أو التعديل الجذري. لكن تشيميرينسكي يرى أن هذه القدسية المبالغ فيها قد جعلت من الدستور عائقًا أمام التطور السياسي. فالوثيقة التي كُتبت في القرن الثامن عشر، عندما كانت أمريكا دولة ناشئة، لا يمكن أن تكون صالحة بكل تفاصيلها لإدارة دولة معقدة في القرن الحادي والعشرين.يرى المؤلف أن المعضلة لا تكمن فقط في طبيعة النصوص، بل في كيفية استخدامها من قبل النخب السياسية التي نجحت في تأويل الدستور بطريقة تخدم مصالحها الخاصة. ويذهب إلى القول بأن الكثير من المبادئ الدستورية، التي كان يُفترض أن تضمن العدالة والمساواة، أصبحت مجرد شعارات فارغة تُستخدم لإضفاء الشرعية على أنظمة غير عادلة.

الانتخابات.. عندما تتحول الديمقراطية إلى لعبة حسابية

إذا كان جوهر الديمقراطية هو حكم الأغلبية، فإن النظام الانتخابي الأمريكي يطرح مفارقة غريبة. المجمع الانتخابي، الذي يفترض به أن يعكس إرادة الشعب، بات أداة تُستخدم للالتفاف على هذه الإرادة. ويشير تشيميرينسكي إلى أن المجمع الانتخابي قد أفرز، في أكثر من مناسبة، رؤساء لم يحصلوا على الأغلبية الشعبية، ومع ذلك تمكنوا من الوصول إلى البيت الأبيض.

هذه الظاهرة، التي تجلت في انتخابات 2000 و2016، تثير تساؤلات جدية حول مدى عدالة النظام الانتخابي الأمريكي. فبدلًا من أن يكون كل صوت انتخابي متساويًا في القيمة، نجد أن أصوات بعض الولايات تملك وزنًا أكبر من غيرها، مما يؤدي إلى نتائج لا تعكس الإرادة الشعبية الحقيقية.

المال والسياسة.. حين يتحول الدولار إلى الناخب الأول

في فصل آخر من الكتاب، يتناول تشيميرينسكي واحدة من أكثر القضايا حساسية في السياسة الأمريكية: المال في الانتخابات. في النظام الحالي، يمكن لأصحاب الثروات الطائلة والشركات الكبرى ضخ ملايين الدولارات في الحملات الانتخابية، ما يجعل من المستحيل تقريبًا لأي مرشح مستقل أو لا يملك دعمًا ماليًا قويًا أن ينافس في هذا السباق.

ويصف المؤلف هذه الظاهرة بأنها “خصخصة الديمقراطية”، حيث لم تعد الانتخابات تُحسم بناءً على البرامج السياسية بقدر ما تحسمها الأموال التي تُنفق على الإعلانات والحملات الإعلامية. فحين يصبح الوصول إلى السلطة مرتبطًا بمدى القدرة على جمع التبرعات، فإن الديمقراطية تتحول إلى نادٍ مغلق لا يدخله إلا الأثرياء وأصحاب المصالح.

المحكمة العليا.. هل ما زالت حصنًا للديمقراطية؟

لطالما اعتُبرت المحكمة العليا الأمريكية آخر حصن للدفاع عن الحقوق الدستورية، لكن تشيميرينسكي يرى أنها باتت، في العقود الأخيرة، مجرد أداة في يد الإيديولوجيات السياسية. فمن خلال تعيين القضاة من قبل رؤساء ينتمون إلى أحزاب معينة، أصبحت المحكمة تميل بشكل واضح إلى جهة سياسية دون أخرى، مما أفقدها حياديتها المفترضة.

يشكل النظام الفيدرالي الأمريكي تحديًا آخر أمام تحقيق العدالة الشاملة. فالولايات تملك صلاحيات واسعة تخولها سن قوانين قد تتعارض مع المبادئ الدستورية العامة.يتطرق المؤلف إلى قرارات المحكمة العليا التي غيرت مسار السياسة الأمريكية، مثل قرارها بإلغاء القيود على الإنفاق الانتخابي، وهو ما سمح بتدفق الأموال الطائلة إلى السياسة، وقرارها بشأن الإجهاض الذي ألغى سابقة قانونية عمرها نصف قرن. ويرى أن المحكمة لم تعد تمثل صوت القانون، بل باتت تمثل مصالح القوى المسيطرة على السياسة الأمريكية.

التحدي الأكبر.. حقوق الأقليات والفيدرالية

يشكل النظام الفيدرالي الأمريكي تحديًا آخر أمام تحقيق العدالة الشاملة. فالولايات تملك صلاحيات واسعة تخولها سن قوانين قد تتعارض مع المبادئ الدستورية العامة. ووفق تشيميرينسكي، فإن هذا الوضع أدى إلى تفاوت كبير في الحقوق بين ولاية وأخرى، حيث تتمتع بعض الولايات بتشريعات متقدمة في مجالات مثل الحقوق المدنية، بينما تفرض ولايات أخرى قوانين أكثر تحفظًا قد تنتقص من حقوق الأفراد.

ويسلط الكتاب الضوء على القوانين التي أُقرت في بعض الولايات لتقييد التصويت، والتي تهدف، وفق المؤلف، إلى استبعاد شرائح معينة من الناخبين، خاصة الأقليات والفقراء. ويرى أن هذه القوانين تمثل تهديدًا مباشرًا للديمقراطية، حيث تُستخدم كوسيلة لإبقاء السلطة في أيدي فئة محددة.

إصلاحات أم انهيار؟ أي مستقبل للديمقراطية الأمريكية؟

بعد هذا النقد اللاذع، يطرح تشيميرينسكي رؤية للإصلاح، يدعو فيها إلى إعادة صياغة بعض أسس الديمقراطية الأمريكية. ومن بين الإصلاحات التي يقترحها:

1 ـ إلغاء المجمع الانتخابي واعتماد التصويت الشعبي المباشر.
2 ـ فرض قيود صارمة على تمويل الحملات الانتخابية لمنع تأثير المال على السياسة.
3 ـ إعادة هيكلة المحكمة العليا بحيث لا تكون خاضعة لتأثير الحزب الحاكم.
4 ـ ضمان حقوق الأقليات من خلال قوانين فيدرالية صارمة لا يمكن للولايات التلاعب بها.


لكن السؤال الذي يبقى مطروحًا: هل النظام السياسي الأمريكي مستعد لمثل هذه الإصلاحات؟ أم أن المصالح الراسخة ستمنع أي تغيير جوهري؟

الديمقراطية ليست أبدية

لا يقدم كتاب “لا ديمقراطية إلى الأبد” مجرد نقد سياسي، بل هو دعوة إلى إعادة التفكير في الديمقراطية ككل. فالمؤلف يؤكد أن الديمقراطية ليست كيانًا ثابتًا، بل نظام يتطلب مراجعة دائمة. وإذا لم يتم إصلاحه بشكل جذري، فقد يصبح مجرد قشرة فارغة، تحكمها نخب لا تعكس تطلعات الشعوب.

في النهاية، يتركنا الكتاب أمام تساؤل مفتوح: هل نشهد بداية أفول الديمقراطية الأمريكية؟ أم أن هناك فرصة أخيرة لإنقاذها؟

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب كتابه امريكا كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المحکمة العلیا فی القرن یرى أن

إقرأ أيضاً:

ماذا نعرف عن "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" التي يطالب ترامب وماسك بإغلاقها؟

واشنطن - الوكالات
وجّه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وحليفه الملياردير إيلون ماسك، انتقادات حادة،  للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التي جمدت الإدارة الأميركية الجديدة معظم تمويلها مؤخرا.

واعتبر ترامب أن المؤسسة الأميركية الكبرى، تُدار من طرف "مجانين متطرفين"، مؤكداً عزمه على التخلص منهم قبل اتخاذ قرار نهائي بشأن مستقبل أنشطتها.

وأدلى ماسك، الذي كلفه ترامب خفض الإنفاق الفدرالي الأميركي، بسلسلة تعليقات لاذعة عبر منصته "إكس"، على الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، واصفا إياها بأنها "منظمة إجرامية".

وقال رئيس شركة "تسلا" و"سبيس إكس" في منشوره: "هل تعلمون أنه بأموال دافعي الضرائب، موّلت الوكالة.. أبحاثا حول الأسلحة البيولوجية، بما في ذلك كوفيد-19 الذي قتل ملايين الأشخاص؟".

وتأتي هذه التصريحات في أعقاب الأمر التنفيذي الذي وقعه ترامب لتعليق جميع برامج المساعدات الخارجية الأميركية مؤقتا لمدة 90 يوما، بينما يحتدم النقاش بشأن جدوى هذه والمساعدات ومدى تأثيرها على المصالح الأميركية في الساحة الدولية.

وتصدرت الوكالة التي تتولى منذ عقود مسؤولية تنفيذ برامج المساعدات الخارجية حول العالم، قائمة المؤسسات المستهدفة في حملة إدارة ترامب لإعادة تشكيل الحكومة الفدرالية.

وتقدم USAID المساعدات الإنسانية والتنموية لدول، وذلك بشكل رئيسي من خلال تمويل المنظمات غير الحكومية والحكومات الأجنبية والمنظمات الدولية أو الوكالات  الأخرى، وفقاً لخدمة أبحاث الكونغرس.

وتدير الوكالة ميزانية ضخمة تجاوزت 40 مليار دولار في السنة المالية 2023، أي ما يمثل من 1 بالمئة من الميزانية الفدرالية الأميركية.

وتصل مساعداتها إلى نحو 130 دولة حول العالم، مع تركيز خاص على الدول التي تواجه أزمات إنسانية أو تنموية.

وتتصدر أوكرانيا وإثيوبيا والأردن وجمهورية الكونغو الديمقراطية والصومال قائمة أكبر الدول المتلقية للإعانات التي تقدمها.

ويعمل في الوكالة فريق كبير يضم أكثر من 10 آلاف موظف، يتوزع ثلثاهم في أكثر من 60 بعثة قطرية وإقليمية حول العالم.

وتنفذ الوكالة مشاريعها من خلال شبكة واسعة من الشراكات، تشمل المنظمات غير الحكومية والمتعاقدين والجامعات والمنظمات الدولية والحكومات الأجنبية.

ووضعت الوكالة في مارس 2023، ثلاث أولويات رئيسية، هي: مواجهة التحديات العالمية الكبرى كحالات الطوارئ المعقدة والاستبداد والأمن الصحي، وتطوير شراكات جديدة تدعم التنمية المحلية والقطاع الخاص، وتعزيز فعالية الوكالة من خلال تطوير قدرات موظفيها وتبني البرامج القائمة على الأدلة.

وتمتد مشاريع الوكالة عبر مجالات متنوعة، من تقديم المساعدات للمناطق المتضررة من المجاعة في السودان، إلى توفير الكتب المدرسية للأطفال النازحين في أوكرانيا، وتدريب العاملين في مجال الصحة في رواندا.

وتأسست USAID عام 1961، في عهد الرئيس جون إف كينيدي، في ذروة الحرب الباردة لمواجهة النفوذ السوفيتي، خلال تلك الفترة.

وتم ترسيخ وضعها القانوني عبر قانون المساعدات الخارجية، الذي جمع عدة برامج قائمة تحت الوكالة الجديدة، والذي أقره الكونغرس، قبل أن يصدر أمر تنفيذي وقعه كينيدي لتأسيسها كوكالة مستقلة.

لماذا تواجه انتقادات؟ 

وضعت إدارة ترامب الوكالة في مرمى انتقاداتها ضمن حملة أوسع تستهدف تقليص حجم الإنفاق الحكومي، ومحاربة ما تصفه بالتضخم البيروقراطي في المؤسسات الفدرالية.

وتعززت هذه الحملة بتعهد ماسك بخفض الإنفاق الفدرالي بمقدار تريليوني دولار.

وأصدر ترامب، بعد تنصيبه، أمرا تنفيذياً بتجميد المساعدات التنموية الخارجية الأميركية لمدة 90 يوماً.

وطالما انتقد ترامب المساعدات الخارجية التي تقدمها الولايات المتحدة. وجاء في نص الأمر التنفيذي المتعلق بتعليقها، أنها "لاتتماشى مع المصالح الأميركية، وفي كثير من الأحيان يتعارض مع القيم الأميركية".

كما أشار إلى أن هذه المساعدات "تسهم في زعزعة السلام العالمي، من خلال الترويج لأفكار في الدول الأجنبية تتعارض بشكل مباشر مع العلاقات الداخلية والخارجية المتناغمة والمستقرة بين الدول".

وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال"، أن من المتوقع أن يصدر ترامب، في وقت مبكر من هذا الأسبوع، أمراً تنفيذيا رسميا لدمج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مع وزارة الخارجية.

وقال وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، في أول تعليق علني له حول الموضوع، الخميس، إن برامج الوكالة تخضع للمراجعة لإلغاء أي برنامج "لا يخدم المصلحة الوطنية"، لكنه لم يتطرق إلى مسألة إلغاء الوكالة كمؤسسة.

وأضاف روبيو أن توقف البرامج الممولة أميركيا خلال فترة المراجعة التي تستمر 90 يوماً، أدى إلى "تعاون أكبر بكثير" من متلقي المساعدات الإنسانية والتنموية والأمنية.

مقالات مشابهة

  • وزير الدفاع الأمريكي: سنجهز إسرائيل بالذخائر التي لم تُمنح لها سابقًا
  • وزير الدفاع الأمريكي: سنزود إسرائيل بكل الاسلحة التي تحتاجها
  • نائب إطاري: المشهداني وراء أزمة قرار المحكمة الاتحادية بإيقاف تنفيذ القوانين الجدلية
  • تطورات أزمة طلاب المعونة الأمريكية بعد قرار ترامب.. فيديو
  • محمود فوزي: الحكومة تحترم الدستور وتشجع العمل السياسي
  • محمود فوزي: الدستور أعطى أريحية بشأن النظام الانتخابي
  • "الأونروا" تواجه أزمة مالية حادة بعد توقف المساعدات الأمريكية
  • المحكمة الإدارية العليا ترفض طعن صيدلانية بشأن معادلة شهادة البورد الأمريكي
  • ماذا نعرف عن "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" التي يطالب ترامب وماسك بإغلاقها؟