أطلقت دولة الإمارات مساراً جديداً لـ "الملكية الفكرية الخضراء"، والذي يهدف إلى تحفيز الابتكار وتسريع توطين التكنولوجيا وإقامة مشاريع جديدة في مجالات الاقتصاد الدائري والاستدامة البيئية والاقتصاد الجديد.

ويمتد المسار إلى ثلاثة أشهر وسيسهم في تعزيز تنافسية منظومة الملكية الفكرية في الدولة ودفعها إلى مستويات أكثر تقدماً وازدهاراً، وكذلك دعم توجهاتها في التحول نحو نموذج الاقتصاد الدائري.

مباردرات نوعية

وقال عبدالله بن طوق المري وزير الاقتصاد رئيس مجلس الإمارات للاقتصاد الدائري، إن دولة الإمارات بفضل الرؤية الاستشرافية للقيادة الرشيدة نجحت في تبني مبادرات ومشاريع نوعية لقطاع الملكية الفكرية، باعتباره أحد القطاعات الحيوية لبناء اقتصاد وطني قوي ومستدام.
وأضاف: نحن اليوم في ضوء هذا التوجه نشهد مشروعاً جديداً لهذا القطاع الحيوي وهو مسار "الملكية الفكرية الخضراء"، والذي يُمثل محطة جديدة لنشر الوعي بأهمية استخدام التكنولوجيا والتقنيات الخضراءلتقديم خدمات ومنتجات متطورة تخدم المجتمع، وكذلك تعزيزجاذبية الإمارات للابتكارات الخضراء والمستدامة، بما يُسهم في ترسيخ مكانتها ضمن الدول الأكثر ابتكاراً على مستوى العالم، وبما يتماشى مع رؤية "نحن الإمارات 2031".

أهمية خاصة

وأكد أن المسار الجديد للملكية الفكرية يكتسب أهمية خاصة كونه يأتي بالتزامن مع إطلاق حكومة دولة الإمارات شهر الابتكار الحكومي وذلك مع العمل والتعاون مع الجهات المحلية المعنية بالبيئة في الدولة والمنظمة العالمية للملكية الفكرية "الويبو"، على تنفيذ كافة المستهدفات الخاصة بهذا المسار، لتوفير المزيد من الممكنات والفرص التي تُحفز المخترعين والمبدعين على تطوير ابتكارات ومشاريع مستدامة في المجالات والقطاعات الاقتصادية الحيوية.
جاء ذلك خلال إحاطة إعلامية نظمتها وزارة الاقتصاد في مقرها بدبي، استعرضت خلالها مستهدفات المسار الجديد لـ"الملكية الفكرية الخضراء"، ودوره الحيوي في دعم الجهود الوطنية لتعزيز الابتكارات في المجالات الاقتصادية المستدامة بالدولة.

الاستدامة في الإمارات

من جانبه، أكد عبدالله أحمد آل صالح، وكيل وزارة الاقتصاد، أن الاستدامة والحفاظ على البيئة تمثل جزءاً أصيلاً من الثقافة الإماراتية عبر تاريخها، إذ استطاعت دولة الإمارات بناء نهضتها اعتماداً على مبادئ وأسس الاستدامة، مما عزز مكانتها الرائدة إقليمياً وعالمياً في تبني المبادرات والحلول الصديقة للبيئة، كما تشكّل الاستدامة محوراً رئيسياً في الخطط والاستراتيجيات التي تبنتها الدولة خلال المرحلة الماضية لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام.
وأشار إلى مواصلة وزارة الاقتصاد حرصها على دعم المشاريع الوطنية الهادفة إلى تعزيز الاستدامةفي مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية والتجارية، بما يتماشى مع توجهات الدولة في بناء اقتصاد مستدام ومتوازن يحافظ على المصادر الطبيعية للأجيال القادمة.
وقال وكيل وزارة الاقتصاد خلال كلمته التي ألقاها في الإحاطة الإعلامية: إن المسار الجديد لـ "الملكية الفكرية الخضراء" سيسهم في تشجيع الأفراد والمؤسسات والشركات على تبني أفضل الحلول الرقمية والتقنيات المتقدمة لإنتاج منتجات وخدمات مستدامة تدعم حماية البيئة معتبراً أن هذا المسار يؤدي دوراً حيوياً في تحفيز الابتكار والإبداع في المجالات المستدامة، وتعزيز تنافسية الدولة ورفع مكانتها في المؤشرات العالمية ذات الصلة، لا سيما مؤشر الابتكار العالمي، والذي تواصل فيه الإمارات عاماً بعد عام ريادتها الإقليمية والدولية.
وأضاف: يأتي المسار الجديد استكمالاً لجهود الدولة في تطوير منظومة الملكية الفكرية في الدولة اعتماداً على أفضل الممارسات العالمية، وتقديم أعلى مستويات الحماية القانونية لهذه المنظومة، كما يلبي هذا المسار النمو المتزايد في الطلب على الابتكارات الصديقة للبيئة على المستوى المحلي والعالمي.

مستهدفات المسار

واستعرض مجموعة من المستهدفات الخاصة بمسار "الملكية الفكرية الخضراء" والتي تسعى الوزارة إلى تحقيقها، وتتضمن إطلاق برنامج لتسريع عملية تسجيل طلبات براءات الاختراع المتعلقة بالتقنيات المستدامة والابتكارات الصديقة للبيئة، ورفع نسبة طلبات تسجيل براءات الاختراع الخاصة بالابتكارات المستدامة والبيئية لتصل إلى 8% من إجمالي طلبات تسجيل براءات الاختراع في الدولة، وتعزيز الأطر القانونية لحماية براءات الاختراع المعنيةبالاستدامة البيئية، لا سيما أن إجمالي عدد الطلبات المقدمة لتسجيل براءات الاختراع في الدولة تشهد نمواً متواصلاً حيثوصلت إلى قرابة 3622 طلب خلال العام 2024.
وفي ختام كلمته، أكد آل صالح أن دولة الإمارات استطاعت أن توفر بنية تشريعية قوية وتنافسية لتنمية الملكية الفكرية، والتي تضمنت إصدار قوانين "حماية حقوق الملكية الصناعية" و"العلامات التجارية" و"حقوق المؤلف والحقوق المجاورة"، وهو ما جعلها في مصاف الدول المتقدمة عالمياً في الملكية الفكرية والابتكار، كما جاءت في المرتبة الأولى عربياً في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2024.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: عام المجتمع اتفاق غزة سقوط الأسد إيران وإسرائيل غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية الإمارات براءات الاختراع وزارة الاقتصاد دولة الإمارات المسار الجدید فی الدولة

إقرأ أيضاً:

تحولات الغزالي الفكرية.. من العقل الفلسفي إلى الذوق الصوفي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يُعد الإمام أبو حامد الغزالي (ت. 505هـ) أحد أبرز العلماء الذين جمعوا بين الفقه والتصوف والفلسفة، وكان لموقفه من التصوف تأثير كبير على الفكر الإسلامي. بدأ حياته عالمًا في الفقه والأصول، حيث درَّس في المدرسة النظامية ببغداد، وبرز كأحد أعلام المذهب الشافعي وعلم الكلام الأشعري، غير أن أزمة روحية عميقة دفعته إلى اعتزال الحياة العامة وترك منصبه المرموق، ليخوض تجربة صوفية استمرت سنوات، عبَّر عنها في كتابه "المنقذ من الضلال"، حيث قال: "علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق" (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص131).

انعكست هذه التجربة الروحية على كتاباته، لا سيما في "إحياء علوم الدين"، الذي يعد من أهم المراجع الصوفية، حيث جمع فيه بين تعاليم الشريعة وأخلاق التصوف. 

لم يكن تصوف الغزالي منفصلًا عن الفقه، بل اعتبره وسيلة لتزكية النفس وتطهير القلب، مؤكدًا أن التصوف لا يكتمل إلا بالجمع بين العلم والعمل، قائلاً: "التصوف هو صدق التوجه إلى الله، والزهد فيما سوى الله، وتحقيق العبودية القلبية له" (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص30). بهذه الرؤية، أسهم في إضفاء شرعية فكرية على التصوف داخل الإطار السني، وجعل منه نهجًا أخلاقيًا وروحيًا متكاملًا.

 

من النقد إلى التجربة الروحية

في بداية حياته الفكرية، كان الإمام الغزالي شديد الارتباط بعلم الكلام والفلسفة، حيث تلقى تعليمه في المدارس النظامية، التي كانت مراكز أساسية لنشر الفكر الأشعري والمذهب الشافعي. برع الغزالي في المنطق والفلسفة والفقه، لكنه بدأ يدرك تدريجيًا أن هذه العلوم، رغم قيمتها، لا تروي العطش الروحي العميق ولا تمنح الإنسان المعرفة الحقيقية بالله. 

في كتابه "المنقذ من الضلال"، يعترف بأنه عاش فترة من الشك والاضطراب الروحي، حيث وجد أن العقل وحده لا يستطيع أن يصل إلى اليقين المطلق، بل يحتاج إلى تجربة روحية أعمق تتجاوز الاستدلالات النظرية (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص120-122).

مع مرور الوقت، بدأ الغزالي يقترب من التصوف بعد أن لاحظ أن الفقه والكلام يهتمان بالظاهر، بينما يهتم التصوف بتطهير القلب والوصول إلى مقام الإحسان. يقول في "المنقذ من الضلال": "علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق" (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص131). هذا التحول لم يكن مجرد اعتراف نظري، بل كان نتيجة تجربة شخصية مر بها الغزالي، حيث ترك التدريس في بغداد واعتزل في الشام ثم مكة، متفرغًا للعبادة والخلوة والتأمل، وهو ما ساعده على إعادة صياغة رؤيته للعالم واليقين.

أدرك الغزالي أن العلم النظري، رغم ضرورته، لا يكفي وحده للوصول إلى الحقيقة، إذ لا بد أن يكون مقرونًا بالعمل القلبي والتجربة الروحية. في كتابه "إحياء علوم الدين"، شدد على أن المعرفة الحقيقية لا تُكتسب إلا بالتذوق والممارسة، حيث يقول: "ليس الخبر كالمعاينة، ولا المعاينة كالذوق، ولا الذوق كالاتحاد والانغماس" (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص25). ومن هنا، أصبحت رحلته من العلم النظري إلى التصوف تجربة محورية في حياته، انعكست في كتاباته التي جمعت بين البعد الفقهي والروحي، مما جعله أحد أبرز المفكرين الذين حاولوا التوفيق بين العقل والتجربة الروحية في الإسلام.

 

الصوفية كضرورة روحية: فرض عين؟

تُنسب إلى الإمام الغزالي مقولة: "الدخول مع الصوفية فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام". هذه العبارة تعكس قناعته العميقة بأن التصوف ليس مجرد خيار أو أسلوب تعبدي إضافي، بل هو منهج ضروري لإصلاح النفس وتهذيب الأخلاق. فبحسب الغزالي، الإنسان معرض بطبيعته لنوازع الغرور والرياء والتعلق بالدنيا، ولذلك لا بد له من اتباع نهج روحي يعينه على تزكية قلبه والتخلص من الصفات الذميمة. يرى الغزالي أن التصوف يحقق هذا الهدف لأنه يهتم بجوهر الإيمان، وليس فقط بظواهر الأحكام الشرعية (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص25-27).

لم يكن الغزالي يعتبر التصوف بديلًا عن الفقه أو العقيدة، بل كان يرى فيه مكملًا ضروريًا لهما. ففي رأيه، الشريعة تحدد الأفعال الظاهرة للعبادة، لكن التصوف يهتم بالنيات والصفاء الداخلي. وفي هذا السياق، يشير في "إحياء علوم الدين" إلى أن علم الظاهر (الفقه) يعالج الأفعال، بينما علم الباطن (التصوف) يعالج القلوب، وكلاهما لا غنى عنه للمؤمن الساعي إلى تحقيق الإخلاص في عبادته (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص28-30). وبذلك، لم يكن الغزالي يدعو إلى الانعزال عن أحكام الشريعة، بل كان يؤكد على أهمية الجمع بين المعرفة الدينية الصحيحة والسمو الروحي العميق.

خصص الغزالي في "إحياء علوم الدين" فصولًا كاملة لآداب الصوفية، مشيرًا إلى أن جوهر التصوف يكمن في تحقيق الصفاء الروحي والانشغال بمحبة الله. يقول: "الصوفي هو من صفا قلبه لله، وزهد في الدنيا، وانشغل بمحبته، وانقطعت عنه العلائق إلا من وجهته" (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص30). ومن هنا، فإن دعوته للدخول في طريق الصوفية ليست دعوة إلى الانتماء إلى طريقة صوفية محددة، وإنما دعوة إلى السير في طريق التهذيب الروحي والتقرب إلى الله، وهو ما يراه ضرورة لكل مسلم يسعى إلى إصلاح قلبه وحياته الدينية.

 

مقامات التصوف عند الغزالي

مرّ أبو حامد الغزالي (ت. 505هـ) في رحلته الفكرية بمحطات مختلفة، بدأها بالمنهج العقلي الفلسفي والكلامي، لكنه وجد أن هذه العلوم وحدها لا توصل إلى اليقين الروحي الذي كان ينشده. دفعه هذا البحث إلى التصوف، حيث اكتشف أن الطريق إلى معرفة الله لا يعتمد فقط على الجدل العقلي أو الاستدلال المنطقي، بل يحتاج إلى التجربة الروحية والذوق العرفاني. في كتابه "المنقذ من الضلال"، يعترف بأن الكتب الفلسفية والكلامية لم تمنحه الطمأنينة التي كان يبحث عنها، فيقول: "علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق" (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص131). من هنا، انتقل إلى التصوف، حيث قسم رحلته إلى مرحلتين رئيسيتين: المنهج النظري، والتجربة العملية.

1. المنهج النظري: مقامات السلوك إلى الله

اعتمد الغزالي في فهم التصوف على مطالعة كتب المتصوفة الأوائل، حيث درس مؤلفات الحارث المحاسبي، والجنيد، وأبي طالب المكي، وغيرهم. وجد أن التصوف يقوم على مقامات يرتقي بها السالك تدريجيًا في رحلته الروحية، وأهم هذه المقامات:

الزهد: وهو التخلي عن الدنيا والتعلق بالآخرة، حيث يرى الغزالي أن حب الدنيا يُعد من أكبر العوائق أمام السالك إلى الله (إحياء علوم الدين، ج3، ص175).

المحبة: وهي حب الله حبًا خالصًا، بحيث تصبح مشيئته هي المحرك الأول للسلوك (إحياء علوم الدين، ج4، ص280).

 الإلهام: وهو نور يقذفه الله في قلب العبد ليهديه إلى الصواب دون الحاجة إلى استدلال عقلي طويل (المنقذ من الضلال، ص138).

 الفناء: وهو الوصول إلى حالة من التجرد الكامل من الذات والانغماس في شهود الحق، وهو أرقى درجات التصوف عند الغزالي (إحياء علوم الدين، ج4، ص310).

2. التجربة العملية: الذوق والحال وتبدل الصفات

لم يكتفِ الغزالي بالبحث النظري، بل خاض تجربة صوفية عملية، حيث اعتزل التدريس والفتوى، وخرج في رحلة استمرت نحو عشر سنوات، زار فيها بلاد الشام والعراق ومكة. في هذه الفترة، أدرك أن التصوف ليس مجرد نظريات، بل هو ذوق وحال وتبدل في الصفات الداخلية. ففي "إحياء علوم الدين"، يوضح أن السالك لا يصل إلى المعرفة الحقيقية بالله إلا إذا عاش تجربة روحية صادقة، فيقول: "ليس التصوف كلامًا يقال، بل حال يُدرك، وذوق يُعاش، ومن لم يذق لم يعرف" (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص38). وهكذا، أصبح الغزالي نموذجًا للصوفي الذي يجمع بين المعرفة النظرية والخبرة الروحية، مما جعله أحد أبرز رواد التصوف الإسلامي.

 

نقد الغزالي للصوفية المنحرفة

على الرغم من تأييده العميق للتصوف وإعلائه من شأنه كوسيلة لتزكية النفس والتقرب إلى الله، لم يكن الإمام الغزالي مؤيدًا لكل ما يُنسب إلى الصوفية، بل كان شديد النقد لبعض الممارسات التي رآها خروجًا عن المنهج القويم. كان يرى أن التصوف الصحيح يجب أن يكون منضبطًا بأحكام الشريعة، وأي انفصال بين الظاهر (الشريعة) والباطن (الحقيقة) يؤدي إلى الانحراف. في كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام"، يوضح أن بعض الصوفية تجاوزوا الحد، سواء بتركهم الفرائض ظنًا منهم أنهم وصلوا إلى مقام الاكتفاء القلبي، أو بادعائهم الوصول إلى حقائق لا تحتاج إلى التزام بالأحكام الشرعية (الغزالي، إلجام العوام، ص42-44).

أحد أخطر الانحرافات التي انتقدها الغزالي هو ادعاء بعض الصوفية أنهم بلغوا مقامًا يسمح لهم بإسقاط التكاليف الشرعية عن أنفسهم، حيث اعتبر هذا النوع من التصوف مخالفًا لحقيقة الدين. يحذر الغزالي من الغلو في فكرة "الكشف الباطني"، إذ يرى أن بعضهم وقعوا ضحية الوهم عندما زعموا أنهم وصلوا إلى معرفة خاصة بالله تتجاوز الكتاب والسنة. يقول: "قد استدرج الشيطان قومًا فزيّن لهم القول بوحدة الوجود المطلقة، فخرجوا عن حد الاعتدال، وظنوا أنهم قد أدركوا الحقائق الإلهية بمجرد الذوق والمكاشفة" (الغزالي، إلجام العوام، ص45). من هنا، كان الغزالي يرفض التصوف الذي ينحرف عن ضوابط الشريعة، ويؤكد أن أي تجربة روحية يجب أن تكون محكومة بالنصوص الدينية.

كما انتقد الغزالي بعض المظاهر السلبية التي انتشرت بين الصوفية في زمانه، مثل الاعتماد على الكرامات بدل الاجتهاد في العبادة، والمبالغة في التركيز على الرؤى والمنامات كوسيلة لاستنباط الأحكام. في كتابه "إحياء علوم الدين"، يفرق بين الصوفية الحقيقيين الذين يسلكون طريق التهذيب والمجاهدة، وبين المدعين الذين يبحثون عن الشهرة أو يدّعون امتلاك قدرات خارقة. يقول: "كثُر المتصوفة في زماننا، فمِنهم الصادق في سيره إلى الله، ومنهم مَن جعل التصوف وسيلة لكسب الدنيا والجاه، فالتصوف الحق هو تصفية القلب، لا مجرد لبس الصوف والرقص والوجد" (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص62). ومن خلال نقده الحاد لهذه الممارسات، سعى الغزالي إلى إعادة التصوف إلى أصله النقي القائم على الزهد والإخلاص، بعيدًا عن الإفراط والتفريط.

 

أثر الغزالي في التصوف الإسلامي

كان للإمام الغزالي تأثير بالغ في مسار التصوف الإسلامي، إذ استطاع أن يقدم نموذجًا متوازنًا يوفق بين الشريعة والحقيقة، مما جعله جسرًا بين الفقهاء والصوفية. قبل الغزالي، كان هناك توتر بين الاتجاهات الفقهية والتصوفية، حيث كان بعض الفقهاء ينظرون إلى الصوفية بعين الريبة، معتبرين أنهم يبتعدون عن الالتزام الظاهري بالشريعة، بينما كان بعض الصوفية يرون أن الفقهاء يركزون على الأحكام الظاهرية دون النفاذ إلى جوهر الدين. من خلال كتابه "إحياء علوم الدين"، قدم الغزالي معالجة شاملة تجمع بين التزكية الروحية والالتزام بالأحكام الشرعية، مما ساهم في ترسيخ التصوف كجزء من الفكر الإسلامي السني (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج1، ص3-5).

انعكس تأثير الغزالي بوضوح في الحركات الصوفية التي جاءت بعده، مثل الطريقة الشاذلية والنقشبندية، حيث استندت هذه الطرق إلى منهجه في الجمع بين العبادة الظاهرة والتزكية الباطنية. فقد تأثر أبو الحسن الشاذلي (ت. 656هـ) بمفهوم الغزالي عن التصوف المتوازن، حيث أكد على أهمية الجمع بين الذكر والعمل وعدم الانعزال عن المجتمع، وهو ما يظهر في كتاباته حول التوكل والسير إلى الله. كما اعتمدت الطريقة النقشبندية، التي أسسها الشيخ بهاء الدين نقشبند (ت. 791هـ)، على منهج الغزالي في تربية المريدين وتوجيههم إلى تصفية القلب دون إهمال الشريعة. ويؤكد الباحث أبو العلا عفيفي أن الغزالي "وضع الأسس الفكرية التي مهدت لظهور التصوف الطرقي الذي أصبح أكثر تنظيمًا في القرون التالية" (عفيفي، التصوف: الثورة الروحية في الإسلام، ص132).

يُعد كتاب "إحياء علوم الدين" من أكثر الكتب تأثيرًا في الفكر الصوفي حتى يومنا هذا، إذ جمع بين الأحكام الفقهية والأخلاق الصوفية، مما جعله مرجعًا للمريدين والعلماء على حد سواء. فقد قسّمه الغزالي إلى أربعة أجزاء تتناول العبادات والمعاملات والمهلكات والمنجيات، حيث ركّز على الجانب الروحي للإسلام وأهمية إصلاح القلب قبل إصلاح العمل (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج1، ص6-10). ويرى المستشرق لويس ماسينيون أن الغزالي "نجح في إعادة الاعتبار للتصوف داخل التيار السني، بعد أن كان يُنظر إليه بتوجس من قبل الفقهاء التقليديين" (ماسينيون، التصوف والفكر الإسلامي، ص211). ومن هنا، فإن تأثير الغزالي لم يكن محصورًا في عصره، بل امتد ليشكل مرجعية أساسية للتصوف السني حتى اليوم.

 

الغزالي والتكفير: 

من المفارقات التي قد تبدو غريبة للقارئ أن الإمام أبا حامد الغزالي كان من أشد المنتقدين لمنهج التكفير المطلق، رغم أنه نفسه اشتهر بتكفير بعض الفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة". فقد رأى الغزالي أن بعض الفلاسفة خرجوا عن أصول العقيدة الإسلامية في قضايا محددة مثل قدم العالم، وإنكار البعث الجسدي، وإنكار علم الله بالجزئيات، معتبراً أن هذه المسائل الثلاث تمثل كفراً صريحاً، بينما اعتبر غيرها من المسائل مجرد بدع أو أخطاء فكرية (الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص12-15). ومع ذلك، لم يكن الغزالي يدعو إلى تكفير كل الفلاسفة دون تمييز، بل ميز بين من تبنّى هذه الآراء جهلاً وبين من أصرّ عليها عناداً.

وكما سبق الاشارة كان الغزالي في بداياته متأثراً بالمنهج الكلامي الأشعري، ثم انفتح على الفلسفة ودرسها بعمق، حتى قيل عنه إنه "بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع" (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج19، ص323). في كتابه "مقاصد الفلاسفة"، عرض أفكار الفلاسفة بشكل دقيق دون نقد، مما دفع البعض للظن أنه يدافع عنهم، لكنه في "تهافت الفلاسفة" وجّه إليهم نقداً لاذعاً، معتبراً أن بعض آرائهم تؤدي إلى الإلحاد والانحراف عن العقيدة الصحيحة (الغزالي، مقاصد الفلاسفة، ص5). إلا أن الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال" عاد ليؤكد أن التكفير ليس بالأمر الهيّن، وأنه ينبغي التريث والتفريق بين الخطأ العقدي الصريح وبين الاجتهاد الذي قد يكون خاطئاً ولكنه لا يخرج عن الملة (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص146).

ورغم مكانته العلمية الكبيرة، تعرض الغزالي لانتقادات حادة، خاصة من بعض الفقهاء الذين رأوا أن آراءه الصوفية والفلسفية تميل إلى الغموض والتأويل البعيد. وقد اتُهم في بعض الأوساط بأنه تأثر بالفلسفة إلى حدّ أنه استخدم بعض مصطلحاتها في كتبه، خاصة في حديثه عن الفناء والتجربة العرفانية، مما دفع البعض إلى التشكيك في آرائه حول المعرفة الدينية (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج4، ص66). كما أن بعض الفقهاء الحنابلة والمحدثين رأوا أن بعض تأويلاته في "إحياء علوم الدين" قد تقود إلى الانحراف عن ظاهر النصوص، إلا أن هذه الانتقادات لم تصل إلى حد إجماع العلماء على تكفيره، بل ظلت في إطار الجدل الفكري الذي كان سائداً في عصره. وهكذا، فإن الغزالي، رغم موقفه الحاد من الفلاسفة، ظل واعياً بخطورة التكفير، وكان يدعو إلى الاعتدال في الحكم على المخالفين، وهو ما يظهر بوضوح في كتاباته المتأخرة.

 

الصراع بين الفقهاء والسلطة

لم تكن كتابات الإمام أبي حامد الغزالي (ت. 505هـ) محل قبول مطلق في جميع أقطار العالم الإسلامي، بل واجهت معارضة شديدة في بعض المناطق، خصوصًا في بلاد المغرب والأندلس. كانت الدولة المرابطية، بقيادة السلطان علي بن يوسف (ت. 537هـ)، تتبنى المذهب المالكي بشكل صارم، وكان علماؤها يعتبرون بعض آراء الغزالي، خاصة في "إحياء علوم الدين"، خروجًا عن النهج الفقهي التقليدي بسبب اعتماده على التصوف وتأويلاته الفلسفية. وبتأثير بعض الفقهاء، أصدر السلطان أوامر بمنع تداول كتبه، حيث رأى بعض فقهاء المالكية أن كتاباته قد تفتح الباب أمام ممارسات صوفية غير منضبطة أو أفكار تأويلية بعيدة عن النصوص الشرعية (ابن الأبار، الحلة السيراء، ج2، ص311).

لم تتوقف الحملة على كتب الغزالي بوفاة السلطان علي بن يوسف، بل استمرت في عهد ابنه تاشفين بن علي، الذي كان أكثر تشددًا في محاربة "البدع" كما كان يسميها فقهاء المرابطين. في إحدى رسائله الموجهة إلى القضاة والولاة، شدد على ضرورة ملاحقة كتب الغزالي وإحراقها، قائلاً: "فمتى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة فإيّاكم وإيّاه، وخاصة وفّقكم الله كتب الغزالي. فليتتبع أثرها وليقطع بالحرق المتتابع ضرها" (ابن الأبار، الحلة السيراء، ج2، ص312). يعكس هذا الموقف حدة الخلاف بين الاتجاه الفقهي الصارم في المغرب وبين الفكر الذي كان يمثله الغزالي، والذي جمع بين الفقه والتصوف والفلسفة.

أسباب معارضة المرابطين للغزالي

كان موقف المرابطين من الغزالي نابعًا من عدة عوامل، أبرزها:

    انتقاد الغزالي للمذهب المالكي: في بعض مؤلفاته، لم يخفِ الغزالي انتقاده لبعض الآراء الفقهية السائدة في الغرب الإسلامي، مما أثار حساسية فقهاء المالكية ضده (الغزالي، المستصفى، ج1، ص10).

    العداء للتصوف العرفاني: كانت الدولة المرابطية تفضل التصوف السني المعتدل، بينما رأى بعض علمائها أن الغزالي متأثر بالتصوف الفلسفي الذي قد يؤدي إلى الابتعاد عن ظاهر الشريعة (ابن خلدون، المقدمة، ص418).

    الخشية من التأثير الفكري: انتشرت كتب الغزالي بسرعة بين طلاب العلم والمثقفين، مما أثار مخاوف فقهاء المرابطين من أن تؤدي أفكاره إلى زعزعة نفوذ المدرسة المالكية التقليدية في المغرب.

ورغم هذه الحملة، فإن فكر الغزالي لم يُطمس، بل استمر تأثيره عبر الأجيال، خاصة بعد سقوط دولة المرابطين وصعود الموحدين، الذين كانوا أكثر انفتاحًا على أفكاره.

خاتمة

الإمام الغزالي لم يكن مجرد فقيه أو متكلم، بل كان باحثًا عن الحقيقة، ورأى في التصوف وسيلة لإصلاح القلب وتقريب الإنسان من الله. ورغم أنه مدح الصوفية، فإنه كان حريصًا على التمييز بين التصوف الصحيح والتصوف المنحرف. لذا، فإن مقولته عن "فرضية الدخول مع الصوفية" تعني ضرورة تهذيب النفس وليس بالضرورة الانضمام إلى الطرق الصوفية بمعناها الطرقي المتأخر.

مقالات مشابهة

  • ندوة موسعة عن أهمية التوازن بين حرية التعبير وتنظيم المحتوى وحماية الملكية الفكرية
  • تحولات الغزالي الفكرية.. من العقل الفلسفي إلى الذوق الصوفي
  • دولة الإمارات تطلق مركزاً للتميز في الأمن السيبراني بالتعاون مع «جوجل كلاود»
  • الهيئات الإقتصاديةأطلقت ورقتها الإصلاحية الشاملة: تطلعات نحو لبنان الجديد
  • ترامب يطلق عصر الفحم الجديد لتعزيز الاقتصاد والأمن الأمريكي
  • «يونيفيل»: وقف إطلاق النار في لبنان يتطلب مساراً سياسياً
  • أسامة سعد استقبل المدير الجديد لأمن الدولة في الجنوب
  • «الإمارات للدراجات» ينتزع المركز الثاني في «بتزوليا باسك كونتري»
  • وزير الاقتصاد وحاكم قوانغشي الصينية يبحثان التعاون في الاقتصاد الجديد
  • «دوكاب» تطلق كابلات الألياف الضوئية ذات الجهد العالي لأول مرة في الخليج