د. بدر البلوشي

العطاء ليس مجرد فعل خيري يقتصر على تقديم العون المادي أو المعنوي؛ بل هو رحلة عميقة تثري الروح وتغذي النفس. في هذا المقال، نستكشف كيف يمكن أن يُسهم العطاء في زيادة السعادة والرضا الشخصي، وكيف يُعد مفتاحًا لحياة مليئة بالمعاني والأهداف.

العطاء هو نبع الروح الذي لا ينضب، يسقي عطش الروح للارتقاء والنماء، ويفتح أبواب القلوب لتبني جسور المحبة والأخوة، حيث يتجاوز العطاء حدود الماديات ليعكس جودة النفس وغناها، فكل عمل نبيل نقدمه ينحت في أعماقنا معالم شخصية قادرة على تحويل السلبيات إلى إيجابيات والألم إلى أمل.

في جوهره، العطاء فلسفة حياة تعيد تشكيل مفاهيم الثروة والنجاح، وترسم لنا طريقًا نجد فيه السعادة بأبسط صورها. إنه دعوة للتحلي بالقوة الحقيقية التي ترفع الضعفاء وتغني الآخرين، وبذلك نبني عالمًا يسعى نحو معانٍ أعمق وأمل دائم.

العطاء كمصدر للسعادة

يقولون "السعادة تكمن في العطاء بلا انتظار الأخذ"، وهذا يعكس حقيقة أن مساعدة الآخرين تُبعث الراحة والسلام الداخلي. فالعطاء ينشط مناطق في الدماغ مسؤولة عن الشعور بالمتعة والسرور، مما يجعل الشخص يشعر بالسعادة الغامرة عندما يرى الأثر الإيجابي الذي يُحدثه في حياة الآخرين. العطاء بحر لا ساحل له من المودة والألفة، يترجم إلى سكينة تسكن الروح وطمأنينة تغمر القلب. "فالسعادة تنبع من العطاء دون انتظار المقابل"، كلمات تعكس الأثر العميق لمساعدة الآخرين في إثراء النفس بالرضا والسلام الداخلي. يُحفز العطاء مناطق الدماغ التي تنبض بالمتعة والبهجة، فتفيض النفس سعادةً وهي ترى بصماتها الإيجابية تزهر في حياة الناس.

العطاء وتقوية الروابط الاجتماعية

عندما نُساعد الآخرين، نُبني جسورًا من التواصل والتفاهم بيننا وبينهم، مما يؤدي إلى علاقات أكثر قوة ومتانة. هذه العلاقات تُعزز من شعورنا بالانتماء والتقدير، وهو ما يُعد ركيزة أساسية للشعور بالسعادة.  العطاء ينسج من خيوط الألفة أواصر متينة، يرسم عبرها خرائط لعلاقات إنسانية راسخة ودافئة. بمد يد العون إلى الآخرين، نزرع في حقول أرواحنا بذور الود والتفاهم، مما ينمي سنابل مودة تستند إلى أعمدة الاحترام والتقدير المتبادل. هذه الوشائج العميقة تغذي شعورنا بالانتماء وتجعل كل لحظة مشتركة مصدرًا للسعادة والأمان، وهو ما يُعد دعامة لا تتزعزع في بنيان السعادة الإنسانية.

العطاء تحقيقًا للذات

العطاء يُعطي الفرصة للفرد للتعبير عن ذاته ومشاركة مواهبه وقدراته مع الآخرين. هذا النوع من التعبير الذاتي يُساهم في تعزيز الثقة بالنفس ويعطي إحساسًا بالرضا والإنجاز. العطاء يُشرع أبواب الروح لتتوسع في آفاق التعبير عن الذات، ويُمكن الفرد من نسج خيوط مواهبه وقدراته في نسيج الحياة الواسع. هذه الرحلة الروحية ليست مجرد إسهام في العالم الخارجي، بل هي استكشاف لأعماق الذات واكتشاف للطاقات المكنونة التي تُزهر في رياض العطاء. تلك المشاركة تُغذي الثقة بالنفس وتُزهر بالرضا والإنجاز، مما يمنح الإنسان إحساسًا بالتكامل والتحقق الذي يعانق السماء بأجنحة من الفخر والسمو.

العطاء طريقةً للتغلب على الصعاب

يجد الكثيرون في العطاء طريقة لمواجهة التحديات الشخصية، كالشعور بالوحدة أو الاكتئاب. العطاء يُحفز الفرد على الخروج من دائرة الذات ومواجهة مشكلات الحياة بروح جديدة مفعمة بالأمل والتفاؤل. العطاء يتسلق جبال اليأس، يُنير دروب الوحدة بمصابيح الأمل، ويُعيد رسم الأفق بألوان الفرح والتفاؤل. في رحابه، ينطلق الفرد من عزلته الداخلية ليعبر بوابات الذات نحو ساحات العالم الرحبة، حيث يتحدى الصعوبات بسلاح العطاء، وهذا الفعل النبيل يُبعثر غيوم الاكتئاب ويزرع بدلًا منها زهورًا معطرة بالأمل، مما يجعل من العطاء جسرًا يعبر به الإنسان نحو شواطئ السلام النفسي والرضا الروحي.

العطاء والصحة العقلية والجسدية

أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين يُمارسون العطاء بانتظام يتمتعون بصحة عقلية وجسدية أفضل. العطاء يُقلل من الضغط النفسي ويُحسن من وظائف المناعة ويقلل من أعراض الأمراض المزمنة. العطاء يُعد نسيماً يُنعش الروح ويُجدد خلايا الجسد، فقد كشفت الأبحاث العلمية أن للعطاء أثرًا مُباركًا يمتد من القلب إلى أقاصي الجسم، وهو طوق النجاة من بحور الضغوط النفسية، وبلسم يُحسن من وظائف المناعة ويُبعد شبح الأمراض المستعصية. في ظلال العطاء، تزهر الصحة العقلية والجسدية، وينحسر ألم العلل، فتتجلى السعادة ليس فقط كحالة عاطفية، بل كحالة بيولوجية يعيشها الإنسان بكل خلية في جسده.

العطاء.. فلسفةُ حياة

للعطاء أبعاد فلسفية تتجاوز الفعل الإنساني البحت؛ فهو يُعلمنا القناعة والرضا بما نملك، ويُظهر لنا أن الغنى الحقيقي يكمن في كوننا مصدرًا للخير في حياة الآخرين. العطاء يُشكل فلسفة عميقة تُعيد تشكيل مفاهيم الوجود والغنى؛ فهو ليس مجرد فعل خيري، بل رؤية كونية تعلمنا أن الثروة الحقيقية تكمن في قدرتنا على بث الخير في الكون. يُعلمنا العطاء القناعة والسلام مع النفس ويكشف لنا كيف أن الغنى الأمثل هو أن نكون سببًا في إسعاد الآخرين وإغنائهم روحيًا ومعنويًا. في هذا السياق، يتجلى العطاء كمسار حياة يجعل من كل لحظة فرصة لزرع الأمل ونشر النور في الدروب المظلمة.

في نهاية المقال وفي خضم الحياة اليومية وسعينا وراء السعادة، قد ننسى أن أبسط الأفعال يمكن أن تُعيد تشكيل معنى الحياة؛ حيث إن العطاء ليس مجرد مساعدة الآخرين، بل هو اكتشاف للذات في مرآة العالم. عندما نُعطي، لا نُعطي فقط من مواردنا، بل نُغني أرواحنا ونزيد من قدرتنا على الشعور بالفرح والاكتفاء.

وأودُ أن أُنهي المقال وأقول إن زحمة الأيام وسعينا المحموم خلف ظلال السعادة، قد نغفل أحيانًا عن قوة البساطة في إعادة رسم معالم حياتنا. العطاء ليس مجرد تقديم المساعدة؛ بل هو رحلة استكشاف عميقة لأعماق الذات عبر مرآة العالم.

وأخيرًا.. بالعطاء، لا نفتح فقط خزائن مواردنا؛ بل نُثري أرواحنا ونُعلي من قدرتنا على الشعور بالفرح والاكتفاء، مكتشفين أن في كل عطاء قطعة من القلب تُهدى، وفي كل جسر يُبنى، سلام داخلي يُزهر.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

عُمان.. حينما تمتد الروح من التاريخ إلى المستقبل

لفت جناح سلطنة عُمان في معرض إكسبو 2025 بأوساكا اليابانية الأنظار، عندما قام صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد بافتتاح الجناح.. فلم يكن المعرض مجرد مشاركة تقدم عُمان في إطار تقليدي، بدا الأمر مختلفا كثيرا، فكانت عُمان حاضرة في سياقها الحضاري الذي يتناسب مع احتفالية عالمية مثل هذه، خاصة وأن اليابان معنية كثيرا بالجوانب الحضارية والثقافية والمعرفية التي أبدعها الإنسان عبر تاريخه الطويل، كما أن الأمر يبدو متناسقا مع اللحظة التاريخية الراهنة التي يحتاج فيها العالم إلى العودة إلى الجذور وإبراز المنجز الإنساني الحضاري في وقت تتآكل فيه هذه المنجزات لصالح قيم سطحية ومادية.

لقد كشفت تفاصيل المعرض للعالم المجتمِع في أوساكا الكثير عن عمق الهوية العمانية الممتدة من الماضي نحو المستقبل والتي يمكن أن تبرز في كل التفاصيل حتى تلك الأكثر حداثة ومواكبة للعصر. وكانت كل هذه التفاصيل حاضرة منذ العتبات الأولى لجناح سلطنة عُمان، الجناح الذي صممه شباب عمانيون خبروا أرض عُمان ورمزية كل شيء فيها، وسمعوا همس الماء الذي يعزف حولها سمفونية خالدة.. فكان الجناح أكثر من مجرد مبنى، إنه سردية مرئية وحقيقية لروح عُمان الممتدة عبر الزمان والمكان.

وبعد تجاوز العتبات التي تحكي قصة الحضارة العمانية تستطيع الأمم القادمة من كل الاتجاهات التي تلتقي في اليابان أن تقرأ رسالة عُمان في هذه التظاهرة وتعبر من فوق الجسور التي بنتها هناك: جسر التفاهم، وجسر للحوار، وجسر للسلام.. وكلها جسور تصنع شعار الحضور العماني في المعرض «روابط ممتدة» وهو شعار يكشف عن فهم عُمان العميق لمثل هذه المشاركات التي لا بدّ أن تتجاوز المستوى القريب إلى مستوى أكثر عمقا يعبر عن علاقة عُمان عبر التاريخ بالعالم والتي كانت على الدوام مبنية على فكرة التلاقي لا التصادم، والتفاعل لا الانغلاق. فلم تغادر أرض عُمان التي مرت عليها قوافل الحضارات وأبحرت منها السفن إلى أقصى المحيطات جوهرها الأصيل رغم أنها منغمسة في اشتغالات العالم بالتكنولوجيا والابتكار والإبداع في كل مجالاته.

ولا أحد يمكن أن يتصور أن معارض إكسبو عبر العقود الماضية كانت منصات تجارية، رغم أهمية هذا الجانب، لكنّ رسالتها أعمق من ذلك فهي أقرب إلى فضاء رمزي يعكس رؤى الأمم لأنفسها وللعالم.. وهي في بعد آخر من أبعادها العميقة اختبار للهوية، ونافذة على المستقبل فتستطيع أن ترى في هذه المعارض إلى أي مدى أنت متمسك بهويتك ومدى بعدك أو قربك من المستقبل الذي تتحدث عنه وتطرب لحكايته.

ولذلك كانت عُمان حريصة على بناء جناحها وفق كل هذه المرتكزات لتشارك العالم قيمها وتجاربها وتطلعاتها؛ فاختارت عمان بكثير من الذكاء أن تدشن جناحها بصبّ الماء في مجسم يروي سيرة إنسان عاش قبل آلاف السنين، وكأنها تقول إن الزمن ليس قيدا بل جسر، وإننا نأتي من بعيد لنذهب أبعد.

وهذه الرؤية العميقة تبحث عن تفعيل قوي للقوة الناعمة عبر الجسور التي تبنيها الثقافة الحاضرة في الجناح وعبر التصميم، وأيضا، عبر عرض نادر للهُوية التي تجمع بين الأرض والإنسان والماء، فيما يمكن أن يكون تناغما لا تستطيعه إلا الحضارات العريقة.

ومن خلال المحاور الستة التي يعرضها الجناح ـ من السياحة والاستثمار إلى الهوية والعلاقات الدولية ـ تقدّم عُمان نفسها على الشكل الذي تريده للعالم أجمع وليس لنفسها فقط.. عالم أكثر وئاما، وأكثر تفهما، وأكثر تعاونا.

ولا شك أن معنى مشاركة سلطنة عُمان في هذا المعرض أكبر بكثير من حجم المعرض، لأن رؤيتها فيما تقدمه تستحضر عبقرية المكان، وذاكرة الإنسان، وحكمة التاريخ، لتبني شراكة حقيقية مع المستقبل. وتدرك عُمان أنه ليس ثمة مكان يمكن أن تعرض فيه هذه الرؤية ويستطيع أن يستوعبها في هذه اللحظة التاريخية الفارقة من اليابان، البلد الذي يقدّس التراث بالقدر الذي يحتفي فيه بالتكنولوجيا، وهو البلد الذي يرى في عُمان صديقا تاريخيا يحمل روح الشرق ويتمسك بالمبادئ والقيم الحضارية والإنسانية.

وبهذا المعنى تمضي عُمان في مسيرتها، بهدوئها المتزن، وبخطابها النبيل، وبحضورها الأخلاقي قبل أن يكون سياسيا أو اقتصاديا. وفي إكسبو أوساكا، تثبت مجددا للعالم أنها لا تذهب إليه لتبرز نفسها فقط، ولكن، وهذا هو الجوهر، لتُظهر للعالم وجها من السلام الممكن، ومن الجمال القابل للعيش، ومن الإنسانية التي لا تزال قادرة على الحلم، رغم كل التحديات. وستبقى عُمان تراهن على هذه المفردات رغم ما في العالم من مآزق ومن انهيارات وزلازل كونية.

مقالات مشابهة

  • دريان اكد امام وزيرة التربية القطرية أهمية دور بلادها في مساعدة لبنان
  • “قوة التخلي”: نحو تحرّر من القيود النفسية والمادية
  • أمريكا بين الذكريات والبحث عن الذات
  • أهمها القلب والقولون.. 10 أمراض قد يسببها أشخاص مؤذون في حياتك .. فيديو
  • متلازمة الدهون الوهمية.. لماذا لا يشعر بعض البدناء بالسعادة بعد فقدان الوزن؟
  • آآآه من سجن الروح
  • عبدالقيوم: من عجائب أحوال ليبيا مطالبة مجلس الدولة بتقليص الإنفاق على الآخرين
  • برج العذراء.. حظك اليوم الاثنين 7 أبريل 2025: دعم الآخرين
  • عُمان.. حينما تمتد الروح من التاريخ إلى المستقبل
  • مسؤول إيراني: طهران حذرت 6 دول من مساعدة أمريكا في شن هجمات ضدها