لجريدة عمان:
2025-02-05@18:53:39 GMT

خرافة النظام الدولي الليبرالي

تاريخ النشر: 5th, February 2025 GMT

عند انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة للمرة الأولى في عام 2016، هبت مؤسسة السياسة الخارجية للدفاع عما يسمى بالنظام الدولي الليبرالي- وهو اختصار لنظام المؤسسات والمعايير والقواعد التي تطورت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ـ خشية أن يدمرها ترامب. وبعد ثماني سنوات يعود ترامب إلى البيت الأبيض. ولكن في هذه المرة لا يبدو أنه قد بقي من النظام الدولي الليبرالي الكثير لكي يدافع عنه أحد.

ويرجع هذا إلى أفعال إدارة بايدن بقدر ما يرجع إلى أفعال إدارة ترامب الأولى.

طيلة الوقت، لم تكن ماهية النظام الدولي الليبرالي واضحة بدقة. فقد كانت فيه عناصر مختلفة (نظام أمني ونظام اقتصادي ونظام لحقوق الإنسان)، وكان يعمل بأشكال مختلفة في الأجزاء المختلفة من العالم (فكان، على سبيل المثال، شديد الاختلاف في أوروبا الغربية عما كان عليه في آسيا). كما أنه تطور بمرور الوقت (فعلى وجه الخصوص، كان نظام ما بعد الحرب الباردة مختلفا تمام الاختلاف عن نظام الحرب الباردة). فضلا عن أنه لم يكن من الواضح نهائيا ما الذي يجعل منه «ليبراليا» أو حتى ما يعنيه ذلك.

ومع ذلك، لم يهتم غير عدد قليل من خبراء السياسة الخارجية بهذه التعقيدات. وعمدوا بدلا من الاهتمام بتلك التعقيدات إلى استحضار المصطلح - الذي أطلق عليه منظر العلاقات الدولية الواقعي جراهام أليسون اسم «هلام المفاهيم» - لانتقاد أي خروج تقريبا على استراتيجية السياسة الخارجية الأمريكية بعد الحرب الباردة المتمثلة في الهيمنة الليبرالية. وبدلا من التفكير في كيفية إصلاح النظام الدولي الليبرالي بهدف جعله أكثر شرعية واستدامة، دافعوا عنه دونما نقد.

ومثلما أوضح المؤرخ مايكل كيميج، فقد ظهرت فكرة النظام الدولي الليبرالي، التي نظّر لها أكاديميون من أمثال جون إيكينبيري في جامعة برينستون، بوصفها مبدأ تنظيميا للسياسة الخارجية الأمريكية في أثناء إدارة أوباما. (وقد عمل كيميج نفسه في وزارة الخارجية في أثناء إدارة أوباما). كان ذلك أقرب إلى بديل لفكرة الغرب الحضارية العتيقة، أو «فكرة الغرب التكنوقراطية» ـ على حد وصف كيميج نفسه ـ التي لم تركز على الثقافة بقدر ما ركزت على المؤسسات، برغم أنه لم يكن واضحا أي المؤسسات هو «الليبرالي» وبالتالي يكون جزءا من النظام.

كان مفهوما في كثير من الأحيان أن النظام الدولي الليبرالي «قائم على القواعد»، برغم أن القواعد ـ وخاصة قواعد النظام الاقتصادي بعد الحرب الباردة ـ كانت من إنشاء الغرب الذي «تلاعب بها» بحيث تصب في صالحه. ولكن في أثناء إدارة أوباما، شاع المصطلح بوصفه وسيلة ينتقد بها الدبلوماسيون والخبراء الغربيون قيام القوى غير الغربية ـ وخاصة الصين وروسيا ـ بخرق القواعد.

من بعض الأوجه، انشق الرئيس ترامب عن النظام. ففي الوقت الذي خفض فيه الضرائب وقلل اللوائح، عمد أيضا إلى فرض التعريفات الجمركية في محاولة لدعم التصنيع المحلي، منشقا بذلك عن الليبرالية الاقتصادية للنظام الدولي بعد الحرب الباردة، وهو ما قد نسميه بالليبرالية الجديدة الوطنية. وفي ما يتعلق بالقضايا الأمنية، كان الانشقاق أقل، فبرغم أن ترامب هدد بسحب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلنطي، فإنه لم ينفذ تهديده قط، والواقع أن إدارته قدمت التزامات للحلفاء ـ ولأوكرانيا ـ أكبر مما قدمته إدارة أوباما.

وعندما تولى جو بايدن الرئاسة خلفا لترامب في عام 2020، سعى في البداية إلى أن يجعل الديمقراطية المبدأ الإطاري الجديد للسياسة الخارجية الأمريكية. وسعى-على وجه الخصوص- إلى جمع ديمقراطيات العالم وتوحيد قواها ضد القوى الاستبدادية. وهكذا، فإن الديمقراطيين ـ الذين أصبحوا أكثر من الجمهوريين تشددا تجاه روسيا، وذلك خاصة بسبب التدخل الروسي الملحوظ في انتخابات عام 2016 ـ أعادوا إحياء اتجاه المحافظين الجدد بعد أن أفقدته حرب العراق مصداقيته.

ثم لم يمض على تولي بايدن منصبه إلا ما يزيد قليلا على العام حتى جاء الغزو الروسي لأوكرانيا فأنهى فكرة «مجتمع الديمقراطيات». وبقدر ما تصور كثيرون في أوروبا والولايات المتحدة أن حرب أوكرانيا هي الخط الأمامي في الصراع العالمي بين الديمقراطيات والدول الاستبدادية، سرعان ما تبين أن الديمقراطيات غير الغربية من قبيل البرازيل والهند وجنوب إفريقيا لا ترى الأمر على هذا النحو. فانغلق الغرب على نفسه ـ متحدا، ولكنه معزول.

وهكذا عادت فكرة «الغرب» ـ في انتكاسة إلى التفكير الحضاري السابق لأوباما. ومما يزيد الطين بلة أنه غالبا ما يحدث خلط بين الغرب وبين فكرة الديمقراطية وكأنما ما من ديمقراطيات في العالم إلا في الغرب أو كأنما كل الدول غير الغربية هي دول استبدادية.

ثم جاء السابع من أكتوبر وحرب إسرائيل في غزة، وفي حين أن الحكومات الأمريكية والبريطانية والألمانية استمرت في التعبير عن غضبها من كل ما تفعله روسيا في أوكرانيا ـ من احتلال الأراضي، وقتل المدنيين، وقصف المدارس والمستشفيات، وما إلى ذلك ـ فقد دعمت هذه الحكومات نفسها إسرائيل وهي تفعل مثل ذلك في غزة. وبات واضحا تمام الوضوح أن بعض الأرواح أقل قيمة في نظر صناع السياسات في الغرب من بعضها الآخر.

ولو أن هناك لحظة بعينها تحولت فيها فكرة النظام الدولي الليبرالي إلى مزحة، فلعلها لحظة في الخريف الماضي اجتمع فيها زعماء العالم في الأمم المتحدة في نيويورك، وفي أثناء ذلك قامت إسرائيل ـ وهي لا تزال تنعم بحماية الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مجلس الأمن شأن ما نعمت بها جنوب إفريقيا في زمن الفصل العنصري ـ بتوسيع نطاق الحرب وقامت بغزو لبنان.

وفي النهاية، يتوقف على رؤيتكم للسياسة الدولية أن تحددوا ما إذا كان النظام الدولي الليبرالي قد مات خلال العام الماضي أم أنه انكشف واتضح أنه محض خدعة. ومنظرو العلاقات الدولية الليبرالية يؤمنون بالتقدم في السياسات الدولية، وبخاصة من خلال إنشاء المؤسسات والمعايير والقواعد التي تقيد الدول. وكان النظام الدولي الليبرالي تعبيرا عن هذا الإيمان.

أما المنظرون الواقعيون ـ من ناحية أخرى ـ فيميلون دوما إلى رؤية هذه المؤسسات والمعايير والقواعد باعتبار أنها إما طوباوية على نحو خطير أو هي محض ساتر دخاني يخفي أكثر مما يبدي. ويؤمنون، في نهاية المطاف، بأن الأقوياء يفعلون ما يحلو لهم ـ وفي الوقت الحالي يبدو أن العالم يؤكد تحليلهم المتشائم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بعد الحرب الباردة إدارة أوباما فی أثناء

إقرأ أيضاً:

كاريكاتير.. تحريض ترامب على استئناف الحرب في غزة خطر يهدد بزواله

 كاريكاتير:

تحريض ترامب على استئناف الحرب في غزة خطر يهدد بزواله:

 

مقالات مشابهة

  • تحليل CNN.. مقترح ترامب بشأن غزة يخلق وضعًا مرعبًا من شأنه هز النظام العالمي
  • «تنسيقية شباب الأحزاب» تعقد ندوة حول «النظام الانتخابي» بمعرض القاهرة الدولي للكتاب
  • مأزق إيران مع دونالد ترامب
  • هكذا أحال النظام الدولي دول العالم الإسلامي إلى بلاد محتلة
  • كيف تكونُ انقلابيًّا مقبولًا لدى الغرب والشرق؟!
  • التنمية وحوار بغداد الدولي  
  • كاريكاتير.. تحريض ترامب على استئناف الحرب في غزة خطر يهدد بزواله
  • بروفيسور إسرائيلي: استقرار النظام الأردني هو مصلحة إسرائيلية بالغة الأهمية
  • هل شرب الماء الساخن مع الليمون سر الصحة المثالية أم مجرد خرافة؟