صدر عن دار قناديل في بغداد بالعراق عام 2022م كتاب «محاضرات في تاريخ الفكر الفلسفي العربي المعاصر» للمؤرخ العراقي المعاصر إبراهيم خليل العلاف، وهو عبارة عن مذكرة صغيرة ألقاها بين عامي 1997م - 1999م في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة الموصل، ويرى أن العرب أفاقوا على سؤال: «لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟»، وللإجابة عن السؤال ظهرت تيارات فكرية متعددة، يمكن جمعها في: «التيار الديني الإسلامي - الإصلاحي، والتيار الديني الإسلامي - القومي، والتيار القومي التاريخي، والتيار الاجتماعي - التقدمي، والتيار القومي الصرف».

ويرى أن التيار الديني الإسلامي - الإصلاحي يتمثل في ثلاث شخصيات أساسية: الأولى جمال الدين الأفغاني (ت 1870م) ورؤيته تتمثل «في بناء مجتمع إسلامي متماسك، يأخذ بكل أسباب التقدم والحياة الحديثة بشرط ألا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية» ويرى أيضا هناك إسلامان: الإسلام الحقيقي الأصيل الذي لا «يقف ضد التطور والتحديث»، والإسلام المفترى عليه الذي أظهر أنه «دين منغلق يرفض التجديد»، والشخصية الثانية شخصية محمد عبده (ت 1905م)، ويرى «أن الطريق إلى نهضة العرب والمسلمين لا تتم إلا بعد تحرير المجتمع من الداخل -من التخلف والاستبداد والجهل-، ومن الخارج أي تخليصه من النفوذ الأجنبي» ولهذا اشتغل على أمرين: «تنقية الدين من الشوائب والخرافات والبدع»، «وتقريب المسلمين من مقتضيات التمدن الأوروبي الحديث»، والشخصية الثالثة محمد رشيد رضا (ت 1935م) ورؤيته تتمثل أنه «بإمكان المسلمين اللحاق بأوروبا إذا اكتسبوا التقنية التي اتصفت بها أوروبا».

هذا التيار الديني الإسلامي - الإصلاحي كما يرى العلاف لقي تعارضا مع تيارين: تيار الإسلام التقليدي، الذي «رفض التفاعل مع التطور العلمي والحضاري الحديث»، والتيار العقلاني العلماني «الذي يقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة»، وفصل الحاضر عن الماضي، وشبه العلاف هذا التيار الديني الإصلاحي بتيار مارتن لوثر -أي البروتستانت- في ألمانيا في الجانب المسيحي الكاثوليكي.

إلا أنه يؤخذ على قراءة العلاف ثلاثة أمور -في نظري-، الأول أن التيار الديني الإسلامي - الإصلاحي لم يبدأ مع هؤلاء الثلاثة، خصوصا مع الرؤية التي طرحها وهي الانفتاح على التمدن الأوروبي، بل سبقهم مثلا حسن العطار (ت 1835م) ورفاعة الطهطاوي (ت 1873م)، والأمر الثاني أن محمد رشيد رضا له الفضل -بلا شك- في حفظ آراء الأفغاني ومحمد عبده، وخصوصا الثاني، وكانت له مراجعات في التراث الديني ذاته، إلا أنه تراجع في آخر حياته، ومن فكره ولد الإسلام السياسي أو الحركي من خلال حسن البنا (ت 1949م)، والأمر الثالث تشبيههم بتيار مارتن لوثر -أي البروتستانت- فصحيح في الجملة، إلا أن تيارا إصلاحيا نقديا قرآنيا ظهر في الهند من خلال دعوة السيد أحمد خان (ت 1898م) ثم انتقلت وتبلورت في مصر، وهذه أقرب إلى البروتستانتية الكالفينية منها اللوثرية؛ لأنها تعاملت مع النص القرآني تعاملا تدبريا فردانيا أكثر من التقييدات التفسيرية التي بقت بشكل عام مع المدرسة الإصلاحية، وهذا يمثل بعض الاختلاف بين ضيق مارتن لوثر (ت 1546م) وسعة جان كالفن (ت 1564م) في الكتاب المقدس المسيحي.

وأما التيار الديني الإسلامي - القومي فيدعو إلى «تعزيز مكانة العرب ضمن الرابطة الدينية الإسلامية»، وإلى الجمع بين الإسلام والعروبة، ويرى العلاف من أهم رموز هذا التيار عبدالرحمن الكواكبي (ت 1902م)، والذي تمثلت رؤيته في أن النهضة العربية تتمثل في تحرير الإنسان العربي من الاستبداد والاستعباد، وأن أكبر مشاكلنا فيهما.

ويقابل هذا التيار القومي التاريخي، فهو تاريخي بمعنى تذكير العرب «بتاريخهم ومنجزاتهم الحضارية عبر العصور»، إلا أن تحقق هذا من خلال العلمنة مع مصاديق التأريخ، والاستفادة من جوهره، ومن أهم رموز هذا التيار ناصيف اليازجي (ت 1871م) ويرى أن النهضة تبدأ من إصلاح التعليم، وهي ذات الرؤية التي تمثلت مع محمد عبده في الجانب الإصلاحي لاحقا، بيد أن اليازجي بين أن الغاية هي «تعميق وعي العرب بهويتهم القومية»، ومن أهم رمزيات هذا التيار أيضا بطرس البستاني (ت 1883م) ويرى أن الصحافة من أهم وسائل النهضة والاستنارة والقضاء على التعصب، والدعوة إلى التسامح، وهذا التيار نادى أيضا منذ فترة مبكرة «بتحرير المرأة، وتقوية الشعور الوطني».

هذان التياران ارتبطت القومية لديهم بمشروع النهضة، سواء من يرى أن القومية لا تتعارض مع التراث إن أحسن توظيفه، أو من يرى القطيعة بينهما، بيد أنه فريق آخر يرى القومية من باب «أن العرب أمة واحدة تضم المسلمين والمسيحيين على السواء، وأن الرابطة القومية أوسع من الرابطة الدينية في مجتمع متعدد الأديان، كما أن رابطة الوطن أقوى من رابطة الدين»، هذا الفريق يتمثل مع التيار القومي الصرف، والذي ظهر في بلاد الشام عموما، ولبنان خصوصا، «ردا على محاولة المستعمرين لخلق الفتنة بين المسلمين والمسيحيين»، ومن رموز هذا التيار نجيب عازوزي (ت 1961م) صاحب كتاب «يقظة الأمة العربية»، ورفيق العظم (ت 1925م) صاحب كتاب «الجامعة الإسلامية وأوروبا»، وغيرهم.

وأما التيار الأخير فهو التيار الاجتماعي - التقدمي، والذي يدعو «إلى حكم ديمقراطي يتساوى فيه الجميع، ويعطى الكل حسب كفاءته، وليس حسب دينه أو مذهبه أو عنصره، ويدعو إلى فصل الدين عن السياسة، ويؤكد على فكرتي الإيمان بالعلم، والدعوة إلى الوطنية،... وأولى هذا الاتجاه عناية كبيرة بالمسألة الاجتماعية»، ومن أهم رموز هذا التيار شبلي شميل (ت 1917م)، وقاسم أمين (ت 1908م)، وأديب إسحاق (ت 1884م).

وشبلي شميل ناصرَ مبكرا نظرية النشوء والارتقاء الداروينية، كما تأثر بالفيلسوف الألماني إدوارد بوخنر (ت 1917م)، «والذي حاول التوفيق بين النزعتين المادية والداروينية»، ومن الداروينية آمن شميل بالاشتراكية، وأسقط ذلك على قضاياه الاجتماعية والفكرية، ومنها مقولته: «أن الحرب ضرورية، وتنازع البقاء في الطبيعة هو ناموس قاعدة النشوء في الحياة»، ومن مدرسة شميل كان سلامة موسى (ت 1958م)، وأحمد لطفي السيد (1963م).

وأما قاسم أمين فتأثر بالفكر الفرنسي عموما، وبالثورة الفرنسية خصوصا، وكان من أنصار النزعة الفردية، وركز على المال والتربية والإدارة، ليشتغل على قضايا المرأة في كتابيه تحرير المرأة، والمرأة الجديدة.

وأما أديب إسحاق فتأثر أيضا كقاسم أمين بالفكر والثورة الفرنسية، مثل جاك روسو (ت 1788م) وفيكتور هيجو (ت 1885م)، ويرى أن إصلاح المجتمع يتحقق من خلال إصلاح السياسة والمدنية والاقتصاد الاجتماعي، لهذا دعا إلى الحرية، ومشاركة الأمة، والتحرر من الأجنبي، كما انتقد الاستبداد.

ومن هذه التيارات ولدت العديد من الاتجاهات المرتبطة مع أكثر من تيار، أو ذات نزعة استقلالية، كالرحمانية عند زكي الأرسوزي (ت 1968م)، والوجدانية عند العقاد (ت 1964م)، والجوانية عند عثمان أمين (ت 1978م)، والمثالية عند توفيق الطويل (ت 1991م)، والوضعية عند زكي نجيب محمود (ت 1993م)، والوجودية عند عبدالرحمن بدوي (ت 2002م)، والشخصانية عند رينيه حبشي (ت 2003م)، والعلموية عند فؤاد صروف (ت 1985م)، والبنيوية عند الجابري (ت 2010م)، والماركسية عند العروي، وغيرها كثير.

ما قدمه إبراهيم خليل العلاف في هذا الكتاب -وإن كان صغير الحجم- إلا أنه مقدمة مهمة في نظري لعمل موسوعي يمكن التفكير فيه لإعادة قراءة النتاج الفكري والفلسفي، وعلاقته بالدين والسياسة والاجتماع والعلم، في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وفي بداية الألفية الجديدة، من خلال تقديم قراءة لا تقتصر عند الوصف، بل تحفر في هذا النتاج المعرفي لتخلص إلى أهم معالمها وخصوصياتها، متزامنة بداية مع الابتعاث إلى الغرب، وحتى جدلية الشرق والغرب، والتراث والواقع، والأصالة والمعاصرة، والعلم والدين، ثم حتى جدليات الهوية والأنسنة والتأريخية والحداثة وما بعدها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال یرى أن من أهم إلا أن

إقرأ أيضاً:

شركة كهرباء غزة: انقطاع التيار لأكثر من 519 يومًا يشكل كارثة إنسانية غير مسبوقة

سرايا - أكدت شركة كهرباء غزة أن استمرار انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 519 يومًا أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية والمعيشية في القطاع، مشيرة إلى أن هذا الانقطاع يشكل كارثة إنسانية غير مسبوقة ، ويضيف تحديات كبيرة تواجه السكان في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها.

وأوضحت الشركة أن غياب التيار الكهربائي أثر بشكل مباشر على مختلف القطاعات الحيوية، بما في ذلك المستشفيات، والمرافق الصحية، ومحطات المياه والصرف الصحي ، مما زاد من معاناة المواطنين وفاقم الأزمات اليومية.

ودعت الشركة الجهات المعنية والمنظمات الدولية إلى التدخل العاجل لإيجاد حلول مستدامة لأزمة الكهرباء في غزة، مؤكدة أن تأمين مصدر مستقر للطاقة بات ضرورة ملحة للحفاظ على حياة السكان وضمان استمرار الخدمات الأساسية في القطاع.

إقرأ أيضاً : زيلينسكي: أوكرانيا "ملتزمة تماما" بالحوار البناء مع أميركاإقرأ أيضاً : الدفاع السورية تعلن السيطرة الكاملة على منطقة الساحلإقرأ أيضاً : حماس: مؤشرات إيجابية بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة



تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا
وسوم: #الكهربائي#الدفاع#غزة#العاجل#حلول#أوكرانيا#القطاع



طباعة المشاهدات: 1256  
1 - ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. 08-03-2025 08:30 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
رد على :
الرد على تعليق
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
اضافة
إعلام هندي: اغتصاب سائحة (إسرائيلية) جماعيًا ومقتل مرافقها في الهند مصر .. كلب يبث الرعب في إحدى القرى ويعقر 16 شخصا عاصفة قوية تضرب أستراليا .. انقطاع واسع النطاق للكهرباء مصر .. قرار للنيابة بحق "سوزي الأردنية" بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية توقيف قاصرين تسببا بحرق طالب في مدرسة بالرصيفة في... بالفيديو .. أول كلمة للشرع حول الأحداث الأخيرة في... ماهر الأسد ورئيف قوتلي غادرا العراق الأربعاء متجهين... زلزال هز "إسرائيل" .. أمريكا تفتح... لحظة مؤثرة .. صديق الطفل المحروق في مدرسة الرصيفة... وسط أجواء مشحونة .. حكومة نتنياهو طالبت واشنطن... "كل دقيقة هي جحيم لهم" .. أسرى سابقون...ترامب إلى السعودية بعد أن وافقت على استثمار تريليون...تقرير: اشتباك بين روبيو وماسك في البيت الأبيض ....."السطر الأول هو الأهم" .. زاخاروفا تعلق...صدور أوامر لجيش الاحتلال بالاستعداد الفوري لعودة...سويسرا تفرض تجميدًا إضافيًا على أموال بشار الأسدترامب يوقع أمرًا بشأن "كأس العالم" 2026...مليون نازح داخلي في شمال غرب سوريا يخططون للعودة...روبيو لنظيره الأوكراني: "ترامب مصمم على إنهاء... حسن البلام يعتذر من جورج وسوف بعد السخرية من مرضه لميس الحديدي تشن هجوماً شرساً على مسلسلات رمضان حسين فهمي يكشف سبب عدم عمله مع ميرفت أمين بعد الطلاق سبب وفاة الممثل الأميركي جين هاكمان وزوجته بفيروسات... مسلسل كويتي يثير الجدل بعد مشهد ساخر من النجم... مسؤول إسباني ينصح يامال بالابتعاد عن والده شباب الأردن ينهي عقد محترفه بالتراضي إعلان قائمة النشامى لمواجهتي فلسطين وكوريا الجنوبية بتصفيات كأس العالم المنتخب الوطني يقترب من تحقيق حلم بلوغ المونديال بيان صادر عن الاتحاد الأردني لكرة القدم بخصوص بطولة الدرجة الأولى إعلام هندي: اغتصاب سائحة (إسرائيلية) جماعيًا ومقتل مرافقها في الهند مصر .. كلب يبث الرعب في إحدى القرى ويعقر 16 شخصا عاصفة قوية تضرب أستراليا .. انقطاع واسع النطاق للكهرباء مصر .. قرار للنيابة بحق "سوزي الأردنية" بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية دراسة تحذر من غرق مدينة الإسكندرية في مصر بسبب الزواج .. المرأة تخسر خمس دخلها فنانة تركية ترسم لوحات مدهشة من رماد جثة .. ما القصة مقتل رجل في باكستان بعد حذفه عضوا من مجموعة واتساب 10 قتلى جراء أمطار غزيرة تضرب مدينة "باهيا بلانكا" في الأرجنتين "الحجاج" لفيكتور فاسنيتسوف تعرض في مزاد علني في موسكو مقابل 1.5 مليون دولار

الصفحة الرئيسية الأردن اليوم أخبار سياسية أخبار رياضية أخبار فنية شكاوى وفيات الاردن مناسبات أريد حلا لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر(وكالة سرايا الإخبارية) saraynews.com
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2025
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...

مقالات مشابهة

  • التيار سيطعن في الموازنة
  • شركة كهرباء غزة: انقطاع التيار لأكثر من 519 يومًا يشكل كارثة إنسانية غير مسبوقة
  • التيار يعيد ترتيب اولوياته.. الانتخابات اولا
  • بالارقام: خسائر التيار الانتخابية في 6 دوائر
  • د. عبدالله الغذامي يكتب: الفكر تحت سلطة الحرف
  • كمال الجزولي بين التحليل الفلسفي والتشريح السياسي: الرزنامة بوصفها وثيقة نقدية
  • العلمانية – غربال الدجل الديني والشعوذة السياسية
  • تغيير في إعلام التيار
  • تعزيزًا للتبادل الثقافي.. وزارة الثقافة تطلق العام الثقافي السعودي الصيني
  • 16 رمضان.. قصور الثقافة تطلق مهرجان الطور للإنشاد الديني