استراتيجيات غسل العقول بالمتناقضات
تاريخ النشر: 5th, February 2025 GMT
استراتيجيات غسل العقول بالمتناقضات
وجدي كامل
الذاكرة وسردياتها:يعتقد كثيرون أن الذاكرة مجرد خزان أمين وآمن للمعلومات، تسجل الواقع بشكل موضوعي. لكن الفلاسفة والمفكرين ينظرون إليها بشكل مختلف، حيث يرونها عملية ديناميكية يُعيد فيها العقل بناء أحداث الماضي وفقًا لعوامل نفسية واجتماعية، مما يجعل الحقيقة المسترجعة قد تختلف عن الحقيقة الفعلية.
يرى الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه أن الذاكرة البشرية عرضة للتحريف والنسيان، مما يجعل الحقيقة أمرًا نسبيًا ومتغيرًا. أما سيغموند فرويد فيعتقد أن الذاكرة، عند تعرضها للكبت، قد تعمل على تشويه الحقائق لحماية النفس من الصدمات. ويقدم جورج أورويل رؤية عميقة حول دور الذاكرة الجماعية في تشكيل الحقائق السياسية والتاريخية، حيث كتب في روايته 1984:
“من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي”.
ويتماشى هذا المفهوم مع رؤية موريس هالبفاكس، الذي يرى أن الذاكرة تتشكل اجتماعيًا، حيث تتأثر الحقائق التي يتذكرها الفرد بالسرد الجماعي أكثر من كونها انعكاسًا موضوعيًا للواقع.
على ضوء هذه النقاشات، يتضح أن كتابة التاريخ دائمًا ما تكون منحازة بفعل العوامل السياسية والاجتماعية والنفسية. فالإنسان لا يتذكر الأحداث بطريقة مطلقة ومتسقة، بل ينتقي- بوعي أو دون وعي- ما يحتفظ به من وقائع، مما يؤثر على تشكيل الحقيقة ذاتها، ويجعلها مجموعة من “الحقائق النسبية”.
لكن التفكير النقدي يقودنا إلى ضرورة مراعاة البعد الزمني عند مناقشة الحقيقة، فكلما كانت الأحداث أقرب زمنًا، زادت إمكانية التحقق منها عبر الوثائق الشفوية والمكتوبة والسمعية والبصرية، مما يتيح فرصة أكبر لفهم تفاصيلها بموضوعية.
التاريخ السياسي السوداني والذاكرة الجمعية:بتطبيق هذه الأفكار على الواقع السياسي السوداني في العقود الخمسة الماضية، نجد أن إمكانية تكوين الحقيقة تزداد كلما بُذلت جهود لتوثيقها. إن تجاهل التوثيق أو تأجيله يعقد مهمة الأجيال القادمة في فهم تاريخها. وهنا تتجلى أهمية الثورة التكنولوجية، التي وفّرتها الشبكة العنكبوتية، بما تحويه من ملايين الوثائق والمعلومات المتجددة.
لكن السؤال الأهم هو: بأي شكل ستتشكل هذه الحقائق؟ إن طبيعة المعلومات الموثقة ستعتمد على مدى انخراط الباحثين والمهتمين في دراستها، مما يستدعي البحث العلمي والتفكير النقدي لفهم الأحداث من زوايا متعددة. فكلما تراجع دور البحث والتقصي، تقلصت دوائر الوعي والتنوير، مما يجعل “الحقيقة” أكثر عرضة للتلاعب والتوجيه.
التطبيق السياسي للذاكرة الجماعية:في المجال السياسي، تبدو بعض الحقائق راسخة في الذاكرة الجمعية، بحيث يصعب محوها أو إنكارها. على سبيل المثال، لا يمكن طمس المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي عاشها السودانيون خلال حكم “الإنقاذ”، حيث ساد الفقر والجوع بينما تنعّمت قلة بالسلطة والثروة.
كذلك، لا يمكن تجاهل تصاعد القمع السياسي، وازدياد أعداد المعتقلين، وانتشار بيوت الأشباح، حيث قُتل العديد تحت التعذيب أو بوسائل التصفية خارج إطار القانون. كما شهدت البلاد انهيار القيم الأخلاقية تحت حكم استبدادي استباح موارد الدولة، مما أدى إلى تفشي الفساد في أوساط السلطة.
لكن الشعب السوداني لم يكن متفرجًا، بل فجّر موجات من الغضب والثورة، بلغت ذروتها في اعتصام القيادة العامة. خلال تلك اللحظات، برزت شخصيات عسكرية حاولت تقديم نفسها كحامية للثورة، لكنها سرعان ما كشفت عن أجنداتها الحقيقية، عندما أشعلت الحرب لاحقًا وقوّضت عملية الانتقال الديمقراطي.
استراتيجيات غسل العقول بالمتناقضات:تسعى الآلة الإعلامية الحربية لكلا الطرفين إلى استهداف ذاكرة المواطنين بإغراقها في المتناقضات، بهدف تفريغها وإعادة تشكيلها بما يخدم أجندات محددة. وتعتمد هذه الاستراتيجية على عدة أساليب:
1- التضليل المعلوماتي: الترويج لروايات متعددة حول الحدث نفسه، بحيث يصبح من الصعب على الأفراد التمييز بين الحقيقة والتضليل.
2- التناقضات الإعلامية: إطلاق تصريحات متضاربة باستمرار، مما يؤدي إلى إرباك الإدراك العام، وصعوبة التحقق من الوقائع.
3- خلق بيئة عدم اليقين: نشر أخبار متضاربة، كما حدث في أزمة مصفاة الجيلي، حيث تم الإعلان عن استعادتها، ثم نُفي ذلك لاحقًا، قبل أن يتضح أنها تعرضت لحريق هائل جعلها غير صالحة للعمل.
4- التلاعب العاطفي: الدمج بين الأمل واليأس، والوعود والتهديدات، في محاولة لإنهاك العقول وجرّها إلى الاستسلام.
تهدف هذه التكتيكات إلى خلق بيئة يصبح فيها الناس غير قادرين على الثقة بأي مصدر، مما يدفعهم إلى تبني الرواية الأكثر انتشارًا، بغض النظر عن صحتها.
الخاتمة:غسل العقول بالمتناقضات هو سلاح نفسي يُستخدم لخلق الالتباس والتضليل، مما يجعل الأفراد غير قادرين على تمييز الحقيقة، وبالتالي يسهل التأثير عليهم ودفعهم لاتخاذ قرارات خاطئة.
إن ما نشهده اليوم من احتفاء بعض الفئات والأقسام الجماهيرية باستعادة الجيش لبعض المدن ليس سوى نتيجة لهذه الاستراتيجية، حيث يتم تصوير الأحداث كإنجازات استثنائية، رغم أن حماية الأرض والمواطنين هو واجب الجيش الأساسي.
وتُستخدم هذه الفوضى الإعلامية لتقديم قائد الجيش كبطل وطني، في تكرار واضح لاستراتيجيات الدعاية التي استخدمتها الآلة الإعلامية النازية، عندما صورت هتلر كرجل سلام، في الوقت الذي كان يشعل فيه الحروب في أنحاء أوروبا. واليوم، تُستخدم التكتيكات نفسها لتلميع صورة عبد الفتاح البرهان، رغم كونه مسؤولًا عن العديد من الكوارث التي لحقت بالسودان بعد ثورته.
في النهاية، يظل الوعي النقدي هو السلاح الأقوى في مواجهة هذه التلاعبات الإعلامية. إذ لا يمكن الدفاع عن الحقيقة دون إدراك أدوات التضليل المستخدمة لتشويهها. وربما يبدأ التزوير غدًا بتصوير أن هناك “نصرًا أسطوريًا” حققه الجيش ضد “كائنات” هبطوا من السماء، في محاولة لكتابة شهادة براءة لرجل كان جزءًا من المأساة التي لحقت بالسودان.
إن قطع الطريق على هذا التزوير يتطلب إعادة بناء الوعي، وتعزيز التفكير النقدي، وتوثيق الحقائق بدقة، لضمان أن ذاكرة الأجيال القادمة لا تكون ضحية لهذه الاستراتيجيات.
wagdik@yahoo.com
الوسوماعتصام القيادة العامة التاريخ السياسي التفكير النقدي الحرب الذاكرة الجمعية السودان عبد الفتاح البرهان وجدي كاملالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: اعتصام القيادة العامة التاريخ السياسي التفكير النقدي الحرب الذاكرة الجمعية السودان عبد الفتاح البرهان أن الذاکرة یسیطر على مما یجعل
إقرأ أيضاً:
الصحافة من دون رقابة.. خطوة جريئة لتبقى الحقيقة حيّة
الصور والقصص القادمة من مناطق النزاع في الشرق الأوسط تتعرض للحذف والتقييد على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تقوم الخوارزميات تلقائياً بحظر المحتوى باعتباره "حساساً" أو "ينتهك السياسات"، مما يمنع الصحفيين من إيصال حقيقة ما يحدث على الأرض. والنتيجة؟ غياب هذه القصص عن العالم، وتبقى الحقائق مخفية قبل أن تصل إلى الجمهور. وحرصاً منها على حرية الإعلام والصحافة، تقوم جريدة الجمهورية بدعم مبادرة الصحافة من دون رقابة والمشاركة بهذه الحملة عبر دعوة المواطنين في التوقيع على عريضة عبر موقعuncensored-press.com للمطالبة بوقف استخدام الخوارزميات كأداة لإخفاء الحقيقة. وكان للفنانة كيرا راثبون الدور الأساسي لإعادة إنتاج صور النزاعات باستخدام الآلة الكاتبة، بحيث تتحول المشاهد المحظورة إلى لوحات مكونة من الأحرف والرموز. هذه الصور تحافظ على تأثيرها العاطفي والرسالة الصحفية التي تحملها، لكنها تتمكن من تجاوز الحواجز الرقمية التي تحجب المحتوى تلقائياً. هذه المبادرة لم تساهم فقط في كشف صور كانت خاضعة للرقابة، بل أثارت أيضاً نقاشات أوسع حول الآثار الأخلاقية لسياسات المنصات الرقمية. فمن خلال تحويل القضية إلى موضوع رأي عام، سلّطت الصحيفة الضوء على ضرورة إعادة النظر في أنظمة المراقبة على وسائل التواصل. الرقابة يمكن تخطيها، والصحافة الحرة ستجد طريقها دائماً. انضموا إلينا في المطالبة بحماية حرية التعبير عبر التوقيع على العريضة، لأن الحقيقة تستحق أن تُروى، وأن تُسمع.