ثمة متعة دائمة، على الأقل بالنسبة إليّ، في قراءة الكاتب الأمريكي بول أوستر (الذي غاب عن عالمنا في 30 أبريل الماضي). صحيح أنك لا تتوقف في رواياته عن الالتقاء بهذا الجانب المظلم فيها، إلا أنك لا تستطيع إلا أن تنتبه إلى هذه النضارة الداخلية التي تلفها، من البداية إلى النهاية، الانتباه إلى ما يمكن تسميته بـ«وقاحة الطفولة» التي تنساب مع هذه الجرعة الصغيرة من السحر التي تأخذك إلى الحلم وتدفعك إلى داخله، في رحلة كبيرة، غير مسبوقة في كلّ مرة.
ربما أيضا ما يشدني، هذا الجانب من السقوط الهائل في رواياته، حيث يتوجب على الشخصية إعادة بناء كلّ شيء من الصفر، والعودة إلى الوقوف وإكمال مسيرتها في الحياة، على الرغم من أنه لا يتبقى أمامها أي شيء، إذ أنها فقدت الأشياء كلها. هذا ما يحدث مع الشاب وولت، اليتيم المشاكس - (بطل روايته «مستر فيرتيغو»، الصادرة حديثا بترجمة عربية عن «دار الساقي» في بيروت، ونقلها إلى العربية مالك سلمان) - الأشبه بـ«أوليفر تويست» معاصر والذي يلتقي في طريقه بمعلمه يهودي (هذا هو اسمه) الذي يعده بتعليمه الطيران، الطيران مثل الطيور.
«كنت في الثانية عشرة من عمري عندما مشيتُ على الماء لأوّل مرّة». هكذا تبدأ الرواية، لتدخلنا إلى عالم هذا الطفل الذي نشأ في الغرب الأمريكي، والذي قضى أيامه وهو يتسول المال والطعام كل ليلة من شارع إلى آخر. في إحدى المرات، يقترب منه رجل ببدلة سوداء وقبّعة حريرية ويقرّر نقلَه إلى منزله الغامض في السهول حيث سيعلّمه الطّيران ويحضّره للنّجومية.
بدءًا من هذه الحبكة التي قد تبدو عادية، أو لنقل إنها تستعيد جانبا كبيرا ممّا يُعرف باسم «الحلم الأمريكي»، تأخذنا الرواية من مفاجأة إلى مفاجأة، حيث لا تتوقف الحبكة من القفز فوق كلّ المقاييس التي نكون قد أعددناها سلفا خلال القراءة. كل ذلك يأتي وفق كتابة تعتمد أسلوب سرد السيرة الذاتية، لنكتشف حياة هذا الطفل المنتمي إلى العالم السفلي. وإذ كانت هذه الشخصية تذكرنا بـ«أوليفر تويست»، فهي أيضا تذكرنا بشخصية أخرى: ديفيد كوبرفيلد، فهذا الالتقاء مع بطلي روايتيّ تشارلز ديكنز يكمن في هذا الضياع في «أعماق أرض الأوغاد»، في قبضة عمّ عنيف، لتتقاطع حياة وولت مع معلمه الجديد الذي يأخذه في رحلة تعده بتغيير حياته البائسة كي يصبح تلك المعجزة. فأمام هذا الانبهار الذي يصيب الطفل ومع عدم وجود ما يخسره، كما مع الجوع الدائم الذي يعاني منه، يتبع وولت المعلم فيلتقي بأقاربه، وشخصيات رائعة وغريبة مثل: الأم السيوكس (إحدى قبائل «الهنود الحمر»)، إيسوب (تلك الشخصية الإغريقية التي تحدث عنها هيرودوت)، وويذرسبون.
تتمفصل رواية بول أوستر هذه، حول رحلة تعليمية بالدرجة الأولى، أي يشكل التعلّم الجزء الأكبر من القصة. رحلة طويلة ورهيبة ومؤلمة، إذ لا تتوقف الرواية عن جعلنا نفكر بهذه الطريقة في التعليم العائدة إلى نظام استبدادي مخصص للأطفال. بهذا المعنى، تبدو رواية أوستر وكأنها مليئة بالمراجع، لذلك لن نستطيع منع أنفسنا عن التفكير بذاك المشهد الموازي لحياة عازف الكمان «المعجزة» يهودي مينوهين. ثمة إشارات كثيرة، يبثها أوستر في كتابه، تأخذنا إلى ذاك الموسيقي الساحر. إذ أن الطفل وولت يملك أيضا هذه الموهبة في داخله وهو يحترق لمعرفة متى سيكون مستعدًا لتحقيق أحلامه بأسرها. التشابه الآخر مع يهودي مينوهين نجده عندما قال الأخير عن تدريبه: «يتعين عليك القيام بذلك كل يوم، ويجب أن يكون الأمر سهلًا وطبيعيًا بالنسبة إلى الفنان كما هو الحال بالنسبة إلى الطيران بالنسبة للطائر، ولا يمكنك أن تتخيل عدم وجود طائر يقول: حسنًا، أنا متعب اليوم، ولن أطير»...
إنها إذن قصة تعليمية (إن جاز القول) يدعونا المؤلف إليها، مشبعة بلمسة من السحر، لكن الكتابة تدعونا إلى الإيمان بها. أليس من الطبيعي أن تطير إذا دربت نفسك على القيام بذلك بشكل صحيح؟ أليس هذا أكثر إنسانية من الحياكة مثلا أو لعبة البيسبول؟ ومع ذلك، لا بدّ للقارئ أن يشعر في لحظات بأن الأمر ينتهي ببول أوستر بأن يضيع في تفاصيل «متاهات» قصته، بأن يضيع في تناقضاته، على الرغم من أن إيقاع الكتابة ممسوك بشكل كبير، مثلما يبدو نطاق المغامرة نطاقًا مؤثرًا للغاية، إلا أنه يبدو مغمورًا برغبة في الوصول إلى المذهل، وبميل إلى الإمساك بالأوضاع غير المحتملة. ثمة رغبة دائمة في "هذا الرائع. في هذا الإغراء العجيب؟ في الوصول إلى نوع من القدرية، أخيرا، حتى ولو كان قليلا؟ إنها لمسة من القدر، من الكون الانتقامي... تماما مثلما ينزلق الخيط من بين الأصابع، لكن الكتاب لا يسقط من بين اليدين أبدًا. لذا، حين تصل إلى نهاية الكتاب وتجد نفسك أمام النهاية، تشعر أنك تريد مزيدا من هذا السحر، على الرغم من أن الصفحات الأخيرة غريبة بعض الشيء، ولا تتوقع معها أي نتيجة. ربما لأن إحساسا ينتابك في أنها لا ترقى إلى مستوى بقية القصة أو إلى ذلك الدوران الفلسفي الذي كان حاضرا على مر الرواية، وكأن كل ما يكتبه (في النهاية) يصبح مجرد ترفيه لا معنى له. ربما كان الأمر فظًا بعض الشيء، وغير محترم تقريبًا للرحلة التي تمكنت شخصياتها من القيام بها. هل معنى ذلك أن الكتابة تصبح استفزازية؟ على الرغم من ذلك كله، لا بد أن تشعر أن كتاب أوستر هذا، هو في النهاية كتاب فريد من نوعه حقًا، فريد في سيرته الذاتية التي يعبر من خلالها وتلميذه البلاد بحثًا عن المجد.
تأخذنا "«فيرتيغو» إلى أمريكا العشرينيات ثم إلى أمريكا في عهد الكوكلوكس كلان وليندبيرج والكساد الأعظم، ليقدّم فيها أوستر قصّةً مفعمة بالتّشويق والرّعب، تضجّ بالحياة في عالم محكوم بالموت.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على الرغم من
إقرأ أيضاً:
الطفولة والأمومة ينظم ندوة بعنوان "دور القدوة في بناء الطفل"
نظم المجلس القومي للطفولة والأمومة، ندوة بعنوان (دور القدوة في بناء الطفل) وذلك ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ56.
القومي للطفولة: الفطام غير التدريجي يسبب صدمة للطفل "القومي للطفولة " و"القومي للأشخاص ذوي الإعاقة" يوقعان بروتوكول تعاونواستهلت الدكتورة سحر السنباطي رئيسة المجلس القومي للطفولة والأمومة، بالاشادة بالتنظيم والاقبال الغير مسبوق لرواد معرض الكتاب فى دورته الحالية، وبدأت حديثها بالتأكيد على أن القدوة تبدأ من المحيط الأسري، حيث يقتدي الطفل بوالديه منذ اللحظات الأولى لحياته، موضحة أن الطفل يعتمد على حواسه، مثل السمع والبصر واللمس، لبناء علاقته الأولى مع الأم، مما يعزز إحساسه بالأمان والثقة، مشيرة إلى أن هذه العلاقة تستمر بالتطور خلال مراحل نموه المختلفة، بدءًا من المنزل، مرورًا بالمدرسة، وحتى تفاعله مع المجتمع الأوسع.
وأكدت "السنباطي"، أن القدوة موجودة دائماً في حياة كل إنسان منذ صغره، وأن لكل إنسان منا قدوته الخاصة التي كان لها أثر كبير في حياته، فالقدوة سلسلة مستمرة ومراحل في الحياة لكل شخص منا، وأننا ونحن نقوم أبنائنا نقوم أنفسنا معهم، مؤكدة على دور الأسرة في بناء الطفل فهي القدوة والمؤسسة الأولى التي تؤثر في شخصية الطفل وتسهم في تنشئة صحية وسليمة وتعده للمستقبل ليكون عضوا فاعلا.
ومن جانبها أشارت الدكتورة هيام نظيف نائب رئيس المجلس القومي للطفولة والأمومة، إلى أن القدوة لها أهمية كبيرة في بناء شخصية كل إنسان وأن المؤسسات الدينية لها دور هام وكبير في إبراز القدوة الحسنة وتشكيل العقل والفكر المستنير بما يساهم في إعداد الأجيال وتنشئة الأجيال القادمة.
كما أشار الدكتوركرم ملاك، عضو مجلس ادارة المجلس القومي للطفولة والأمومة وعميد كلية التربية الموسيقية السابق، إلى أن القدوة الحقيقي، يكون قدوة متميزة وإيجابية، حيث أن كل طفل يمكن أن يكون قدوة للأخرين من خلال أسلوبه بالحديث والتعامل الإيجابي ، فهناك العديد من الشخصيات البارزة التي يمكن أن يتم تصنيفهم كقدوة بالوقت الحالي ولكن الأهم أن يتم إبراز القدوة الإيجابية منهم وتسليط الضوء على ما يقومون به، مع التصدي للقدوة السلبية لما يمثلوه من خطورة وتهديد للمجتمع والذوق العام، موضحاً أن الفن سواء كان رسمًا أو موسيقى، يلعب دورًا محوريًا في هذا السياق.
ومن جانبه أكد عمر حجازي، عضو مجلس ادارة المجلس القومي للطفولة والأمومة، على أن القدوة الحسنة هي النموذج الذي يحتذى به الطفل في مرحلة نموه حيث أنه منذ نعومة أظافره يلاحظ ويتعلم ويرسم، وبالتالي فأن الإعداد له بشكل صحيح يشكل حاضره، مشيراً بصفته رياضي بارز إلى الرموز الرياضية والتى لها دور كبير في صناعة القدوة الإيجابية للأطفال، فالرياضي القدوة هو محفز للمجتمع وللنشء.
ومن جانبها، أشارت الأستاذة دكتورة إلهام شاهين مساعد الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بمشيخة الأزهر الشريف، الى أن الأسرة لها دور كبير في تنشئة الأبناء كونها القدوة لهم وعليهم مسئولية كبيرة، لافتة إلى الدور الهام الذي تقوم به مؤسسة الأزهر الشريف، والتي تولي اهتمامًا كبيرًا بإبراز القدوة الحسنة سواء من خلال القصص والدروس التوعوية، سواء عبر الرسم أو الشعر، ومن أبرز الأمثلة التي عرضتها: قصة "أصحاب الكهف"، وقصة سيدنا يوسف، بالإضافة إلى كتاب "الأطفال يسألون الإمام"، الذي يعالج القضايا العقائدية، كما سيتم إعداد حلقات بودكاست تتناول تلك الأسئلة والرد عليها، إضافة لعدد من الكتيبات التي تتناول النماذج المشرفة من الجيش والشرطة الذين كانوا قدوة وبذلوا الكثير من أجل حماية هذا الوطن، مشيرة إلى دور واعظين وواعظات الأزهر في هذا الشأن.
ومن جانبه، أكد القمص أنطونيوس صبحى - استشاري تطوير البرامج بأسقفية الخدمات العامة والاجتماعية بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية، أن تشكيل الطفل يبدأ منذ الصغر وأن القدوة هامة للطفل منذ مرحلة طفولته، وأن الكنيسة المصرية تولى اهتمام كبير بالتنشئة الصحيحة للطفل ودور الأب والأم كقدوة بحياته لإعداد الأطفال لحياة أفضل بالمستقبل، ولذا تقوم الكنيسة بإعداد الأطفال من خلال الدروس التي تقدم لهم من خلال مدارس الأحد والتي يقوم بها نخبة متخصصة تم اختيارهم بعناية وإعدادهم ليكونوا قدوة للأطفال، كما تقوم الكنيسة بالعديد من الأنشطة الترفيهية والرياضية والثقافية التي تعد هؤلاء الأطفال على المبادئ الصحيحة وغرس القيم والسلوكيات والأخلاقيات والالتزام والجدية بالعمل.
يذكر أن الدكتورة سحر السنباطي رئيس المجلس القومي للطفولة والأمومة ترأست الندوة وشارك بالندوة الدكتورة هيام نظيف نائب رئيس المجلس القومي للطفولة، والدكتور كرم ملاك عضو مجلس ادارة المجلس القومي للطفولة والأمومة وعميد كلية التربية الموسيقية السابق، وأدار الندوة الأستاذ عمر حجازي عضو مجلس ادارة المجلس القومي للطفولة والأمومة، والأستاذة ميراى نسيم عضو مجلس ادارة المجلس القومي للطفولة والأمومة، ونخبة من الخبراء والمختصين، وبمشاركة الأستاذة الدكتورة إلهام شاهين مساعد الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بمشيخة الأزهر الشريف، القمص أنطونيوس صبحى استشاري تطوير البرامج بأسقفية الخدمات العامة والاجتماعية بالكنيسة القبطية الارثوذكسية، والأستاذة الدكتورة عبير جاويش عميد كلية الدراسات العليا بجامعة سيناء فرع العريش، والأستاذة مرفت السنباطي رئيس نادي روتاري كايرو فيوتشر ليدرز ورئيس نادي روتاري كايرو نيو كابيتال، والدكتور أيمان صادق مدير جمعية كاريتاس مصر، ولفيف من زوار المعرض من الجمهور والأطفال.
وفى سياق أخرحرصت الدكتورة سحر السنباطي رئيسة المجلس القومي للطفولة والأمومة، على تفقد جناج المجلس بمعرض القاهرة الدولي للكتاب لمتابعة ما يتم تنفيذه من أنشطة توعوية وترفيهية وثقافية للأطفال وأسرهم، ورافقها في هذه الجولة الدكتورة هيام نظيف نائب رئيس المجلس القومي للطفولة والأمومة، وأعضاء مجلس إدارة المجلس القومي للطفولة والأمومة "الدكتور كرم ملاك، والدكتور نور أسامة، والأستاذ عمر حجازي، والأستاذة ميراي نسيم".
كما تفقدت "السنباطي" جناح حلايب وشلاتين، مشيدة بما يقدمه من منتجات ومشغولات يدوية، معربة عن سعادتها بالحفظ على التراث المصري والحرف اليدوية التي تميز بها الشعب المصري على مدار عقود، ومشيدة بدور المرأة في استمرار هذه الأعمال الفريدة جيل بعد.
وتفقدت أيضاً "السنباطي" جناح "المجلس الأعلى للشئون الإسلامية "وزارة الأوقاف" واستمعت إلى الدور الذي يقوم به الجناح المجلس خلال مشاركته بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، حيث يضم مجموعة من المطبوعات التي تسهم في تنمية الثقافة الإسلامية، وما يحويه من نوادر، معربة عن فخرها بهذا الدور العظيم الذي يقوم به المجلس الأعلى للشئون الإسلامية من نشر الفكر الوسطي.