يحضرني عادة بيت شعر من قصيدة «يا صولي» للشاعر الراحل «جمعان ديوان»، والتي غناها الفنان الراحل سالم علي سعيد.. يقول البيت:
«عيني عين الموتر، رِجْلي رِجْل مطيّة»
هذا البيت البسيط في تركيبته، العميق في مدلوله، يثيرني كلما سمعت الأغنية، أو تهادت إليّ كلماتها..
«باعدتَ يا صولي..قرب «حمران» بشوية»
إنه بيت بقدر بساطته، هو في المقابل هو بيت معقد، وعميق، يحمل دلالاته القريبة والبعيدة، فهذا الوصف الدقيق لرحلة الشاعر إلى ديار محبوبته، وهذا الحرص الشديد، والحذر من عيون الآخرين، خوفا من فضح أمره، أو فضح من هو ذاهب لأجله، ولعله يشير بتلك اللمحة الذكية إلى الظلام الذي يحوّط المكان في ذلك الوقت، حيث لا كهرباء، ولا إضاءة سوى القمر، وروح السماء.
فهو هنا يفرش للمشهد العام، ويأتي بوقت رحلته إلى مبتغاه، حيث الليل وهدوؤه، وستره، وغطاؤه، فيستعير «عين» السيارة، وهي المتوافر أمامه في ذلك الوقت، ولكنها سيارة راجلة، لا محرك لها سوى الشوق، والعزيمة، والعناد في لقاء من يحب.
يصور الشاعر «جمعان» في شطر البيت عينه وكأنها مصابيح سيارة، ترى من بعيد، وتنبّه صاحبها إلى أماكن الحذر، ومكامن الخطر، وتراقب أولئك الوشاة الذين يتبعون خطواته، ويريدون الإيقاع به، فعيونه مفتوحة عليهم، يتابعهم في ظلام المكان، ويلاحظ حركاتهم، كي لا يفضحون أمره، فهو يجازف بحياته، ويركب الخطر كي يصل إلى مكان بعيد عن داره، ولا يعلم ما ينتظره.
بينما تشتد رِجله عزما، وقوة، وصلابة، وتساعده في رحلته الشاقة الليلية، فيستعير من الناقة رجلها القوية التي لا تغوص في الرمال، ولا يهمها بعد السفر، ولا ترهقها الرحلات والمسافات، فهي تطيعه كلما احتاج لها، ولا تخذله كلما استعان بها، ولذلك تبقى الناقة «المطيّة» هي الأقرب لتصوير قدرته على الصبر والجلَد، في رحلة محفوفة بالمخاطر، والمشاق، ولكن كل ذلك يهون في سبيل الوصول إلى مبتغاه، يسوقه الشوق، ويعينه العشق.
لقد أبدع «جمعان ديوان» في كامل هذه القصيدة، وهو يصور مشهدا ليليّا، ويستعين بما مكّنته منه البيئة التي حوله من مفردات وأدوات، متكئا على بساطته، وقدرته على التصوير الدقيق لحالة شعورية خاصة، ونشوة انتصار على ذاته، وعلى الوشاة من حوله، وهذه القدرة الفائقة على التصوير تحتاج إلى قريحة فذّة، وشاعرية غير عادية، وهو ما دأب الشاعر جمعان على فعله في معظم قصائده التي تنبع من القلب، وتصل إلى القلب.
رحم الله الشاعر جمعان ديوان ورحم الفنان سالم بن علي سعيد اللذين كانا روحا واحدة في قصيدة مبدعة واحدة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الدورة الـ30 من معرض الكتاب الدولي بالرباط تحتفي بالشاعر المغربي بنطلحة
احتفت الدورة الـ30 من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط بالشاعر المغربي محمد بنطلحة الفائز بجائزة "الأركانة" الشعرية عام 2017.
وقال الشاعر، الذي يعد من رواد الشعر المغربي المعاصر ويشتهر بتجديده في المتون الشعرية واستعمال أساليب فنية جديدة مستلهما إياها من تجارب عربية وغربية رائدة، إنه أحيانا يطرح سؤال "ماذا حققت؟" ويتصور أنه "لم يحقق شيئا".
وأضاف أن ما يهمه هو "ما لم ينجز بعد"، وقال إنه يكتب "من أجل أن يحقق كينونته الشعرية".
والشاعر من مواليد 1950 وسبق أن فاز أيضا في عام 2022 بجائزة "ميهاي إيمينيسكو" العالمية التي تحمل اسم الشاعر الروماني الكبير إيمينيسكو والتي تنظم سنويا بمدينة كرايوفا الرومانية.
ومن إصدارات بنطلحة "نشيد البجع" و"غيمة أو حجر" و"سدوم" و"بعكس الماء" و"قليلا أكثر" و"أخسر السماء وأربح الأرض" و"كذئب منفرد" بالإضافة إلى مقالات ودراسات في البحث الأكاديمي.
واعتبرت الناقدة والشاعرة ثريا ماجدولين، في حفل تكريم بنطلحة الذي أقيم مساء أمس الجمعة بإحدى القاعات على هامش المعرض، أن الاحتفاء به هو في الحقيقة "احتفاء بتجربة شعرية استثنائية".
وأضافت أن شعره "لا يكتفي بتقديم تلك المتعة الجمالية التي نبحث عنها، بل يدفعنا إلى إعادة التفكير في مفهوم الشعر في حد ذاته".
إعلانكما قالت إن الشاعر "حرر القصيدة العربية من أسر النموذج بتفكيكه للبنية التقليدية بين الدال والمدلول".
أما الناقد محمد البكري فقال إن "الشاعر يشتغل بمنظومة من الكلمات والمفردات شاسعة ومتنوعة جدا"، وبالتالي فإن قارئه يجب أن يكون "ماكرا جدا".
ويسدل الستار عن الدورة الحالية لمعرض الكتاب الدولي في الرباط اليوم الأحد.