بين معالي الأمور وبين منظومات التفاهة
تاريخ النشر: 21st, August 2023 GMT
بقلم/ أ. د. محسن محمد صالح
قدَّمت غزة منذ أيام نموذجاً متميزاً في تخريج 1,471 حافظاً للقرآن في يوم واحد، تتراوح أعمارهم بين 8 أعوام و72 عاماً؛ وكان بينهم عدد كبير من الأطباء والمهندسين والمعلمين ورجال الأمن.
غزة التي ترزح تحت حصار خانق منذ أكثر من 16 عاماً، أصرّت على مراكمة عناصر القوة والصمود ومقاومة العدوان، واهتمت بصناعة "الإنسان" المؤمن المقاوم المحتسب، وطورت قدرات عسكرية بأبسط الإمكانات، وأصبح لديها صواريخ يزيد مداها عن 200 كلم، وطائرات مسيرة… وغيرها مما لا يتوفر لدول غنية مستقلة.
ولا يبعد ذلك عن حال أهلنا القابضين على الجمر في القدس وباقي الضفة الغربية وفلسطين المحتلة 1948 ومخيمات اللجوء في الشتات، وثباتهم على الأرض ومقاومتهم للاحتلال بأشكال مختلفة.
في المقابل، تصيبنا حالة من الذهول والإحباط والغضب، ونحن نرى حال أمتنا ودولها التي تعاني من التخلف والضعف والتشرذم والانحطاط الحضاري، واتساع الفجوات العلمية والتكنولوجية والعسكرية مع دول العالم المتقدمة بما يزيد عن خمسين أو مئة عام، في الوقت الذي تنشغل دول عالمنا الإسلامي بتبديد الكثير من ثرواتها على منظوماتها الفاسدة، وعلى وسائل اللهو والترف، والاحتفاء بالثانويات والتفاهات.
ثمة "طوفان" هائل من التفاهات الذي يغرق وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ويشغل الشعوب عن القضايا الكبرى وعن أولوياتها، بل يوفر منصات لنقل عادات التفسخ الاجتماعي والأخلاقي وتدمير الفرد والأسرة والمجتمع، وإشاعة الشذوذ، وتقديم المنكرات كأدوات لهو أو حريات شخصية، بينما لا تجد قضية القدس وفلسطين، ومعاناة المسلمين في كل مكان، ومشاريع النهضة والصعود الحضاري والمصالح العليا للأمة… عشر معشار ما تلقاه التفاهة.
في ستينيات القرن العشرين سأل صحفي الكاتب المصري الشهير ﻋﺒﺎﺱ محمود ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ، أحد عمالقة الأدب العربي: من منكما أكثر شهرة، أنت أم محمود شكوكو؟! (شكوكو هو مغني مصري هزلي معروف، كان يرتدي ثياب المهرجين لإضحاك الناس).
فردّ عليه العقاد باﺳﺘﻐﺮﺍﺏ: ومن هو شكوكو؟!
وعندما نقل الصحفي خبر تساؤل العقاد إلى شكوكو، قال شكوكو للصحفي: قل لصاحبك العقاد ﻳﻨﺰﻝ ميدان ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ (أشهر ميدان وسط القاهرة)، ويقف على أحد الأرصفة وسأقف أنا على الرﺻﻴﻒ المقابل، وسيرى الناس على من منا ستتجمع أكثر.
فردّ العقاد: قولوا لشكوكو أن ﻳﻨﺰﻝ إلى ميدان ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ، ﻭﻳﻘﻒ على ﺭﺻﻴفٍ؛ ويجعل "رﻗّﺎﺻﺔ"، ﺗﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺻﻴﻒ الثاﻧﻲ، ويرى بنفسه ﺍﻟﻨﺎﺱ على من ستتجمع أﻛثر..!
ولعل العقاد أفحم شكوكو لأن فرص الشهرة تزداد في أحيان كثيرة مع ازدياد درجات الابتذال والتفاهة، وسعي الناس نحو شهواتهم. ولذلك لا نستغرب عندما نرى مغنّين هابطين، وممثلات مبتذلات، وعارضات أزياء يحصدون ملايين إشارات الإعجاب حتى على تعليقاتهم التافهة؛ بينما لا يكاد يجد مفكرون كبار وعلماء ومخترعون من يلتفت إليه.
وفي تاريخنا، لعل ذلك يعود إلى أيام الفاطميين، غير أن وتيرته تصاعدت وأصبحت أكثر احترافاً هذه الأيام.
وفي واقعنا المعاصر يتم تكريم قدم اللاعب على عقل الكاتب. ولعل من الأمثلة الصارخة القريبة على ذلك ما تداولته وسائل الإعلام من تعاقد أندية رياضية خليجية مع لاعبين عالميين مقابل صفقات مالية "فلكية". فمثلاً حصل كريستيانو رونالدو على عقد بنحو 220 مليون دولار، وحصل نيمار على عقد لا يقل عن 150 مليون دولار، ونغولو كانتي على عقد بنحو 110 ملايين دولار، وغيرها.. وهي عقود يكفي أحدها لتغطية تكاليف المحافظة على هوية القدس وصمود أهلها، أو لتغطية تكاليف الوقود لقطاع غزة عن ستة أشهر، أو لميزانية جامعة محترمة..!! مع العلم أن ميزانية لجنة القدس التي ترعاها منظمة المؤتمر الإسلامي المكونة من 56 دولة لا تتجاوز 12 مليون دولار سنوياً.
وحتى في بيئتنا الفلسطينية، فعوضاً عن أن تقوم السلطة بإقامة اقتصاد صمود مقاوم يهيئ فعلاً للتحرر من العدو، وإنشاء دولة مستقلة بحسب ما وعدت شعبها، قامت بإنشاء اقتصاد استهلاكي، تابع للاحتلال، وألهت الناس بالديون والقروض وبدورة حياة اقتصادية مصطنعة، وتوّجت ذلك بإنشاء "كازينو أريحا" ليكون علامة صارخة على ضياع البوصلة والأولويات.
لقد سبق أن حذّر الأستاذ الشاعر يوسف العظم من الدور السلبي للإعلام وإشغال الناس باللهو والطرب عن قضاياهم الكبرى، عندما رأى انشداداً شعبياً كبيراً لأغاني أم كلثوم التي راجت قبيل هزيمة 1967؛ مثل "هل رأى الحب سكارى"… وكتب قصيدته "خدريهم يا كوكب الشرق" ومما جاء فيها:
كوكب الشرق لا تذوبي غراماً ودلالاً وحُرقة وهُياماً
لا ولا تنفثي الضياع قصيدا عبقرياً أو ترسلي الأنغاما
فدماء الأحباء في كل بيت تتنزَى وتبعث الألاما
وجراح "الأقصى" جراح الثكالى، ودموع الأقصى دموع اليتامى
أيها الشعب خدَرته "الليالي" مثقلات تفجَرت أثاما
فعن الحق تارة يتلهى وعن النور تارة يتعامى
خدرِيهم باللحن يا كوكب الشرق، وصوغي من لحنك استسلاما
أيها السادة الكبار سلاما قد قتلتم في كل نفس سلاما
هذه القصيدة كتبها العظم عن أم كلثوم، فكيف لو قام من قبره هذه الأيام، ورأى بعينيه مغنين لا يقدّمون غير الهبوط والتفاهة والابتذال، وتترفع أم كلثوم نفسها عن كلمات أغانيهم ومستويات أدائهم وإسفافهم؛ بينما تقدمهم وسائل الإعلام كأبطال "ونجوم"…؟!!
لقد أشار الفيلسوف الكندي آلان دونو (Alain Deneault) في كتابه "نظام التفاهة"، الذي صدر سنة 2015، ونشر بالعربية 2019، إلى سيطرة منظومات التفاهة والتافهين على مناحي الحياة، ومكافأة الرداءة والتفاهة عوضاً عن العمل الجاد الملتزم، فأصبحنا نجد سيادة منطق اللذة والمتعة والأعمال الفنية الهابطة، و"تسليع" القيم و"تسليع" الإنسان (تحويله إلى سلعة) وتغوُّل الطابع التبسيطي والتسطيحي على التفكير والأداء والتقييم، بل إن التفاهة انتقلت إلى الأوساط الأكاديمية وعالم المال والأعمال والاقتصاد والفنون.
* * *
إن الأمة تعاني في هذا الزمان من ضياع البوصلة وتشتت الاهتمامات وخلخلة الأولويات، والخطير في الأمر أن تقوم أنظمة سياسية بنشر الابتذال والتفاهة وتبنيها، وتحويلها إلى موضة وثقافة مجتمعية، فتلفت أنظار الناس عن قضاياهم الكبرى، وتدمر قدرة المجتمع على النهوض الحضاري؛ حيث ترى في ذلك إلهاء لهم عن إصلاح أنظمتهم السياسية الفاسدة والمستبدة، وقطعا للطريق على قوى الإصلاح والتغيير في الأمة.
إن المنظومة الإسلامية مبنية على الطبيعة الجادة للإنسان المستخلف في الأرض، والساعي للنهوض الحضاري، وحفظ هوية الأمة وتميّزها وتراثها التاريخي، وتحقيق مصالحها العليا، وبمواجهة العدو ومخططاته وجرائمه ومخاطره، وبحفظ الهوية الإسلامية للأرض والشعب والمقدسات، ومراعاة فقه الأولويات وفقه النوازل. ولقد نبهنا رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل أكثر من 1400 عام، إلى هذه المعاني في الحديث الصحيح "إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، ويَكرَهُ سَفْسافَها".
ولا بد أخيراً من وقفة وجادة وأدوار فعالة من كافة المخلصين، لموجهة طوفان التفاهة، وإعادة الأمة إلى مسارها الصحيح في التقدم والنهوض الحضاري وتحقيق شروط الاستخلاف والتمكين.
المصدر: موقع "عربي 21"
المصدر: سام برس
كلمات دلالية: على من
إقرأ أيضاً:
عيد حزين في غزة...!
طفلة صغيرة متناثرة الشعر تحمل وعاءها الصغير وتزاحم وسط حالة من الفوضى للحصول على بعض الطعام.. تصفعك الصورة حد الصعقة، كيف ولماذا تتخيل أنه لا إخوة لها وإلا لكانوا يزاحمون مكانها، وربما استشهدت عائلتها، وربما بقيت هي وأمها، وربما بعض إخوة أطفال، أو ربما بقيت وحدها تصارع البقاء.. تأخذك الهواجس؛ حيث لا سبيل سوى حزن طويل بات يعشش لسنوات لن تنجو منه غزة التي ضربها زلزال آدمي متوحش لا يتوقف عن القتل ليل نهار، بل يتفاخر بما يرتكبه من جرائم ستبقى شاهدة على مأساة لإنسانية تجردت من إنسانيتها وهي ترى لعام ونصف العام كل هذا البؤس والدمار.
كيف سنشفى من هذا الجرح الذي غرزه السيف الإسرائيلي في روحنا محولاً أطفالنا إلى شظايا؟ وكيف سنشفى من شقاء طفلة وجدت نفسها تصارع الحياة وفقدت عائلتها وتلاحقها الطائرات بكل ما تملك من أسلحة الدمار؟ والسؤال الساذج الذي نكتبه دوماً هو: كيف ستشفى البشرية من فضيحتها الأخلاقية التي ستلاحقها طويلاً بعد هذا العري الذي عاشته وهي تتفرج على لحم غزة وأطفالها لدرجة أن يخجل منها وزير إسرائيلي متطرف سابق مثل موشيه يعالون، ويقول: إن اسرائيل ترسل جيشها لقتل الأطفال في غزة قبل أن تنفتح عليه بوابات جهنم في الدولة التي أجمعت على إرادة إبادة الآخر عائدة لمقولة: إن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت.
لا عيد في غزة لدى هذا الشعب الحزين الذي تخلى عنه القريب والبعيد، فقد ظهرت الأمة العربية على حجمها الحقيقي بعد أن حاولت أن تعطي لنفسها بالشعر والخطابة وزناً في عالم اتضح أنه لا يقيم وزناً لها، وانكشفت الأمة الإسلامية وكأنها لا تدرك أن صورة أشلاء تفطر ألف صائم، لكنها كالعادة هي الأمة التي تهرب من واقعها نحو تخيلاتها، فقد أقنع كيسنجر ذات مرة الدول العربية بالمساهمة بالمال والرجال في حرب أفغانستان؛ بأن حربهم الدينية ضد الاتحاد السوفياتي الكافر ستعفيهم من سؤال عدم تحرير القدس، قائلاً: فمن سيجرؤ عن سؤالكم عن القدس وأنتم تدافعون عن الدين؟ تلك هي قصة الأمة المتكررة.
وحيداً وجد الغزي نفسه يتيماً من كل الآباء، انهارت أمامه كل ما أنتجته الثقافة العربية من قيم متخيلة حاول أن ينسبها لنفسه كالعزة والكرامة والنخوة والشرف، وكل ما قيل من مصطلحات يتم تداولها لدى أمم تكررها، خشية من أن تكتشف الحقيقة وتغلف نفسها بالوهم حتى لا تجد نفسها أمام أم الحقائق أنها مجرد أمة مهانة مضروبة تتصارع فيما بينها على الثروة والجاه.
لا شيء يقال لأهل غزة في هذه المحرقة المستمرة بلا توقف والنار التي تحاصرهم من كل الاتجاهات من البر والبحر والجو، ولا باب للنجاة أو الهروب.. إنه حكم جماعي بالإعدام بكل الوسائل وأحدث ما أنتجته المصانع الأميركية من أسلحة، فقد تحولت غزة إلى مقبرة جماعية لا تجد فيها سوى الدم والدموع التي تسيل بلا توقف؛ لأن لا أحد في العالم قادر على ردع اسرائيل.
عيد كئيب على غزة التي أدمنت الحزن كما الأعياد التي مرت في هذه الحرب.. عيد للبكاء على الأحبة الذين كانوا وقود حطبها. يتذكر الغزيون الأحبة الذين كانوا يقيمون شعائر الفرح منذ الفجر يقبلون على الحياة بِنَهَم لا مثيل له ويصنعون الحب في منطقة لم تخلق سوى لتكتب المأساة وتعيد قراءتها على الأجيال لتحفظها على جلدها الذي تشرعه للرماح الغادرة.
في العيد حزن يلف غزة وشوارعها وبقايا أطلالها وذكرياتها التي كانت يوماً، وما تبقى من رجالها ونسائها وأطفالها وعجائزها التي كان البؤس رفيق عقود رحلتها الطويلة من نكبة إلى نكبة دون أن تلتقط أنفاسها. فقد كانت الحياة مجرد استراحات متقطعة بين الرصاص.
أما آن لغزة أن تستريح أم كتب عليها أن تصادق الموت للأبد؟ تلك مسؤولية أبنائها الذين لا يدخرون ما لديهم من فائض اندفاعة ومغامرة وهم يشاهدون العالم، خاصة القريب، يشاهد لحمهم الموزع على الأسطح والبنايات، ربما هذا درس التاريخ الأبرز.
لا كلام يقال وسط المقتلة، ولا كلام يكتب يمكن أن يغطي جبال الحزن. ففي كل شارع مقبرة وفي كل بيت مأساة، وفي كل زقاق ذكريات تعرضت للاغتيال وذاكرة تم اغتيالها، يأتي العيد لأناس يقيمون على ركام البيوت بعد أن كانوا يزينونها بالأبناء وبالحب، ليتحول إلى طقس للبكاء على حلم مضى كانت فيه غزة تشبه المدن وكانت الناس تشبه العائلات، وكان العيد يشبه الفرح، وكان الأطفال يشبهون الأطفال، والنساء كنّ يشبهن النساء، وكان للشوارع لون وطعم ورائحة قبل أن تستولي عليها روائح الموت. ما حدث لهذه المنطقة سيكتبه التاريخ مكللاً بعاره للأبد.. طوبى للغزيين لأنهم يرثون الحزن ويسيرون صباح العيد بالدموع حجيجاً نحو دروب المقابر.
(الأيام الفلسطينية)