الشاعر السوري فواز قادري، الذي حمل معاناته وهويته بين دير الزور وميونيخ، يكتب قصيدته بلغة لا تعرف القيود، ومن خلال تجربته في المهجر، يسعى إلى كشف الحقيقة التي تخفيها الحروب والمآسي، مُحولا الألم إلى كلمات مقاومة حية، في هذا الحوار، نغوص في رؤيته للشعر كأداة للتحرر، وكيف تصبح القصيدة لديه فعلا يكشف عن التحديات والآمال في آنٍ، وتلمس قلوبنا بعنفوانها الصادق.

- بين دير الزور وميونخ، كيف تنظر إلى تأثير المنفى على هويتك الشعرية؟.. أترى في الاغتراب حافزا للإبداع أم جرحا يتسع مع الزمن؟

للأمكنة تأثير كبير على الشعر والإبداع بشكل عام، وكذلك على المبدع نفسه، وعلى صعيدي الشخصي، تعمق مفهومي وتجربتي في كتابة «قصيدة العيش»، حيث أرى أن العيش هو أن تملأ حيزك الزماني والمكاني بمعناك.

مع «قصيدة العيش»، تكتسب الأشياء ماهية مختلفة، وتتحول الحياة إلى نبع رقراق يصير نهرا صغيرا يرافقك في أغلب الأوقات، يأكل ويشرب معك، ويستثير حساسيتك، حتى تصبح أنت نفسك أقرب إلى قصيدة تسكنك وتدعوك إلى كتابتها.

أما المنفى، أي المكان الآخر «وأنا هنا أعني ميونيخ»، فيدفعك إلى إعادة النظر في جميع مكونات حياتك، ويضيف إليها بعض العناصر الجديدة، تماما كما يجعلك أكثر يقينا بما تعتقد، إنه يبرز كل ما هو إنساني ومشترك مع الآخرين، مما يعمّق فهمك لذاتك وللعالم من حولك.

- في ديوانك «قيامة الدم السوري» رصدتَ مأساة الإنسان السوري بأسلوب شعري مكثف.. كيف تمكنت من الموازنة بين الشعر كفن والواقع القاسي دون الوقوع في فخ التوثيق المباشر؟

الواقع مثلما هو مرجعيتي الأساسية، أنظر إليه كفخ للمبدع والقصيدة، وأحذره، تجلى هذا بشكل خاص في الكتابة عن ثورة الشعب السوري على الطاغية وإرثه، هناك الكثير من الألم في ما حدث، ألمٌ يشبه القيامة، يجعلك لا تتوقف عن الصراخ.

كنتُ أعي تماما أن في كل نص تكتبه، قد تخرج عن أسلوبك المعتاد إلى نوع من المباشرة التي تدعوك إلى كتابة مختلفة عن مفهومك الجمالي، خاصة وأنت تؤثث بالشعر قيامة هذا الشعب الذي وصل إلى حافة الموات، في مثل هذه اللحظات، تصبح القصيدة ملحمية، قادرة على تناول التجربة، بل وأكثر مما تمنحها الصرخات.

- ديوان «أناشيد ميونخ المؤجلة» يحمل بين طياته حنينا ممزوجا بالغربة.. أفقدت القدرة على الانتماء؟ أم أن الشعر ذاته يصبح وطنا بديلا؟

ديوان أناشيد ميونيخ، صحوة شعرية حاولت أن أرد فيه دَين الحب إلى مدينة احتضنتني وشكلت وأعادت التوازن إلى روح الغريب، أثثت بالأصدقاء من أهل البلد، والغرباء الذين شاركوني دفء المدينة.

إلى درجة التماهي بين مدينتين «دير الزور» الذاكرة، مسقط الرأس والقلب، الطفولة التي لم تبارحني، المراهقة وأحلامها الكثيرة، الكدح المبكر الذي جعلني أنحاز إلى عرق الناس ومعاناتهم التي لا تنتهي، القصيدة المبكرة الخارجة من رحم الحارات، بعيدا عن المدرسة.

معاناة التقاط الأحرف من لافتات الشارع، ومن مهنة إصلاح الأجهزة الإلكترونية في محل صاحبه فنان ورسام، المسرح، الألوان، خيالات الصغير وشغفه بالأحلام، كل ذلك قاده لاحقا إلى العمل بالسياسة، واكتشاف الشعر الذي أصبح كل حياته.

«ميونيخ» الكدح اليومي من جديد، قصائد التجربة في مكان جديد، ثورة الأهل في سوريا، الحلم العتيق بالتغيير الذي لم يفارقني رغم البعد الجسدي، أوجاع الناس وأنا بعيد عنهم بجسدي، طوفان شعري لم يتوقف، الكتابة اليومية المشغولة بهدوء الفن، الصرخات المكتومة أعادت النظر في «قصيدة العيش»، بأدواتها، بلغتها المرافقة للوجع اليومي ومعاناة الناس هناك.

«ميونيخ.. النأي بلا عزلة»، طوفان لهاث وكتابة، دموع تتحول إلى كلمات، ورموز، وأساطير حية، قصائد تعيش معي، تتجدد، وتصبح أكثر رهافة وإنسانية، رغم الألم اللحظي الجارح.

- تلعب الذاكرة دورا محوريا في نصوصك.. أترى أن العودة إلى المكان في القصيدة محاولة للشفاء أم استعادة غير مكتملة؟

دير الزور.. المدينة، الذاكرة، النهر الذي لا يبرح يرافقني، دون أن يتدخل في تشكيل حياتي، فيها من العذوبة ما يجعلني أتيقن أنني أعيش زمني الحاضر، ولا أسترجع الماضي كي أعيش فيه، فأنا لست مريضا لأحتاج إلى الشفاء منه. ومن هذا النهر أنا فقط أحاول أن أطيل إقامتي في الأشياء التي أحبها، أطيل النظر فيها، أتدارك نقصانها بالمزيد من الحب.

- في ديوانك «صهيل في غرفة ضيقة» استخدمت رمزية الصهيل والغرفة الضيقة.. ما الدلالات التي أردت إيصالها من خلال هذه الرموز؟

ديوان الصهيل في غرفة ضيقة، باختصار، هو فعل الحرية وممارستها في أصعب الأوقات، «الصهيل» ذلك المدى الممتد في أعتى وأضيق الأمكنة، في الزنازين وكل أشكال الأسر، وكيفية تحول حالات الاختناق إلى غناء طليق.

- في ديوانك «نهر بضفة واحدة» كيف استخدمت النهر كرمز؟ وما الرسائل التي أردت إيصالها من خلال هذا العنوان؟

«نهر بضفة واحدة» لا إجابة محددة أو شارحة عندي، على القارئ أن يتخيل الحالة مع الشاعر والقصيدة، فالشرح التعليمي يخرج القصيدة من ماهيتها وطبيعتها.

- كيف ترى العلاقة بين الشعر والسياسة في أعمالك؟ وهل تعتقد أن الشاعر يجب أن يكون له دور في القضايا السياسية والاجتماعية؟

هناك دائما علاقة ما بين الشعر والسياسة، لكنها علاقة غير بوقية، فالشعر الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا صدى نفسه، دور الشعر والشاعر هو الكشف، وليس ترديد ما يُطلب منه، فالمعاني، كما قال المعلم، ملقاة على قارعة الطريق، لكن الشعر والفن يكمنان في كيفية القول، وليس في المعنى الذي يُقال.

- ما دور الموسيقى والإيقاع في قصائدك خاصة بعد انتقالك إلى قصيدة النثر؟.. وكيف تحافظ على الجمالية الصوتية في نصوصك؟

هجرت موسيقى القصيدة الخارجية، تركت الوزن وتخليت عنه، لأنه يعيق الشاعر في الكتابة، ولأن الأوزان هي تعبير عن زمنها، وهي -بمعنى ما- قيد على حرية الشاعر.لقد قيل الكثير عن هذا الموضوع، ولستُ أول من تخلى عن الوزن، ولن أكون الأخير الذي يفعل ذلك، ببساطة، لكل وقت إيقاعه وموسيقاه. ولكل قصيدة رمزيتها ووضوحها، فالشعر برق، أحيانا يضيء في النفس ثم ينسحب، لكنه يترك أثرا لا يمحى بسهولة.

- كيف ترى موقعك في مشهد الشعر العربي المعاصر، خاصة في ظل التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى التي تمر بها المنطقة؟

لم أفكر في هذا الأمر ولا أبحث عنه، أنا فقط أكتب قصائد العيش، ولا أهتم بموقعي أو موقع غيري، بالمحصلة سيأتي هذا الوقت، للتذكير صدر لي من أيام كتاب «هذا الوقت ليس وقتي» فيه إجابة على هذا السؤال.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: سوريا ميونخ دیر الزور

إقرأ أيضاً:

 حبٌه العذري ل "كوكب الشرق" أبدع 137 قصيدة

يصادف اليوم 3 فبراير (شباط) ذكرى رحيل كوكب الشرق، السيدة أم كلثوم، صاحبة الحنجرة الذهبية، والصوت العابر للأجيال، وبهذه المناسبة يضيء موقع 24 على أسطورة حب عذري من شاعر عاشق أبدع 137 قصيدة غزل، بث فيها لواعج الحب والعشق والهيام في محبوبته أم كلثوم، في رحلة امتدت 50 عاما، إنه الشاعر المصري القدير أحمد رامي، الذي رفضت "الست" الزواج منه لتبقى نيران الشعر والعشق متأججه ولا تنطفئ.

عام 1924 غنت أم كلثوم في بداية مشوراها الفني، قصيدة من كلمات الشاعر أحمد رامي، وألحان الشيخ أبو العلا محمد، وكانت حينها فتاة بسيطة صغيرة في السن، فاستمع رامي لصوتها، لأول مرة، فأصابته سهام الحب والعشق، وأغرم بها حتى آخر يوم من حياته.
ويعتبر رامي من أهم شعراء عصره، ولقب بشاعر الشباب، كما ساهمت أشعاره الغنائية في تطوير الغناء العربي، فكتب العديد من القصائد التي صدحت بها كوكب الشرق، عكست لواعج عشقه وشوقه لأم كلثوم، فقد كان حبه لها من طرف واحد، ورفضت الزواج منه مرارا وتكرارا، وفي إحدى تصريحات أم كلثوم التلفزيونية قالت: "أعلم أن رامي يعشقني، وكتب لي من القصائد ما لم يكتبه أي شاعر في حبيبته، لكني إذا تزوجته فستنطفئ نيران الشعر في أعماقه".
وعبر سنوات طويلة، كتب لها أشعاراً عكست أحاسيسه ومشاعره تجاه كوكب الشرق، وكانت قصائده تفيض بمشاعر الحب والهجر واللوعة، كما وثقت تلك القصائد أسطورة في الحب العذري، الذي قلّ ما يجود الزمن بمثله، وساهم رامي في تطوير شخصية أم كلثوم، وكان له تأثير كبير ليس فقط بما كتبه لها من أغاني، ولكنه أيضا كان معلماً لها، فعلمها اللغات والأدب والشعر والفن، ودفعها للقراءة في مجالات أدبية مختلفة، حتى أصبحت رمزا خالدا من رموز الفن والثقافة والغناء.
واستمرت قصة حب رامي لكوكب الشرق أكثر من 50 عاما، حيث اعتبر عدد من النقاد أن تلك القصة ساهمت بتألق ونجاح كليهما، فكانت الجماهير التي تحضر حفلات الخميس الأول من كل الشهر، تنتظر بشوق كبير لتعرف ماذا كتب رامي، وكيف ستغني أم كلثوم تلك الكلمات، عندما يعلن أن الأغنية من كلماته، وبلغ عدد ما كتبه رامي لأم كلثوم 137 أغنية، ما بين الفصحى والعامية، أي ما يعادل نصف ما غنت، ولم يقبل الشاعر العاشق نهائياً أن يتقاض أجراً عن أي أغنية.
ومن أشهر أغاني ام كلثوم التي كتبها أحمد رامي: سهران لوحدي، أول ما شفتك حبيتك، غنى الربيع، فاكر لما كنت جنبي، يا ليلة العيد، هجرتك، انت الحب، ح أقابله بكره، الغيرة، غلبت اصالح، هلت ليالي القمر، كيف مرت على هواك القلوب، على بلد المحبوب وديني، يا ظالمني، رباعيات الخيام، حيرت قلبي معاك، عودت عيني على رؤياك.
وفي عام 1972 غنت أم كلثوم واختتمت رحلتها الفنية العظيمة، الممتدة على مدى 5 عقود بأغنية (يا مسهرني)، من كلمات العاشق الولهان أحمد رامي.
ويبدو أن أم كلثوم بذكائها المشهود، وحسها الفني العالي، جعلت رامي متلهفاً ومشتاقاً  دوما لها، فعبر عن مشاعره وأحاسيسه تجاهها، في مجموعة من أجمل ما غنت، فقد كانت قصائده مفعمة بالعاطفة ونابعة من صميم القلب، وكانت أم كلثوم ملهمته فالشعر منها وإليها، أبدعت في غنائه وتألقت في أدائه، حتى تركا روائع من الغناء لم يشهد مثلها التاريخ، خاصة تلك القصائد التي لحنها عمالقة الطرب مثل القصبجي ورياض السنباطي.
وعندما رحلت أم كلثوم اعتزل رامي الكتابة وهجرها، وابتعد عن الناس، لمدة عام ليعود بقصيدة رثاء ألقاها في تأبين كوكب الشرق الذي أقامه الرئيس السادات بمناسبة مرور عام على رحيلها وقال فيه رامي:
ما جال في خاطري أني سأرثيها
بعد الذي صغت من أشجى أغانيها
قد كنت أسمعها تشدو فتطربني
واليوم أسمعني أبكي وأبكيها.

مقالات مشابهة

  • معرض الكتاب يناقش الشاعر العراقي علي الشلاه في التراث والهوية وتحديات الإبداع
  • سلطان القاسمي يفتتح "الشارقة للشعر النبطي"
  • سلطان يفتتح الدورة الـ 19 لمهرجان الشارقة للشعر النبطي
  • اعتقال "خفاش" النظام السوري السابق.. متهم بارتكاب جرائم بشعة
  • سلطان القاسمي يفتتح مهرجان الشارقة للشعر النبطي
  •  حبٌه العذري ل "كوكب الشرق" أبدع 137 قصيدة
  • الكاتب محمد قراطاس: الشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية
  • شعر بادية مطروح والإسكندرية في ندوة بمعرض القاهرة للكتاب
  • البريكي: وقلـتُ لـهُ: يا نيلُ، مصرُ صباحُها معي قهوةٌ أخرى بشعري مزعفَرَة