ليل أمس الذي يحرس شخصيات الربيعي الشعرية
تاريخ النشر: 21st, August 2023 GMT
لعلَّ مفردة الليل من المفردات التي يُكثر الشعراء من استخدامها وتوظيفها كلٌّ بطريقته وأسلوبه وحاجته التعبيرية، ولقد ارتبط الشعراء بالليل في بثّ همومهم وشكواهم، وربطه بالشوق والوله وطول المسافات والبُعد عن المحبوب. وإذا أردنا أن نُحصي النصوص الشعرية التي اشتغلت على مفردة الليل فإنها كثيرة لا حصر لها في الشعر العربي قديمه وحديثه، لكن في هذه المقالة سأتناول هذه المفردة في ديوان (ننام ويحرسنا ليلُ أمس) للشاعر عبدالرزاق الربيعي الصادر عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ودار الرافدين عام 2023م.
لقد وردت مفردة الليل في الديوان بصورة لافتة معبّرة عن الاقتران الزمني للدلالة، راسمة صورة شعرية يمكن الانطلاق منها في التعبير الشعري. ويصدم الربيعي القارئَ بعنوان محمّل بدلالات مزدوجة، دلالاتٍ لغوية وموضوعية؛ إذ تقوم عتبة الديوان على تركيبٍ مكوّن من أربع كلماتٍ (اسمين وفعلين) يتخلّلهما واو الحال. يستخدم الشاعر الأفعال في عتبة الديوان بتكوين صورة جَمعية للفعلين: (ننام ويحرسنا)، إذ إنّ الليل في تشكّلاته يضم الجميع ويحرسهم. إنّ هذه الدلالة أشمل وأعم من التعبير الفردي، وهو بلا شك يُضفي على العمومية دلالة أعمق في الاستخدام، فالليل للجميع خاصة للشعراء الذين يعيشون لحظاته طولا وقصرا، ثقلاً وخفةً كما عبّر امرؤ القيس.
يُجزّئ الربيعي عنوان ديوانه بربط الفعلين بواو الحال؛ إذ يُظهر فعلين متضادين في المعنى: فعل النوم الذي يقتضيه الزمن الليلي كما سيأتي، وفعل الحراسة الذي هو نقيض النوم، فيحاول خلق دلالة تضادٍ من التشكيل أمامنا، فهناك أرواح تنام، يضمّها الليل بهدوئه، ثم يقوم بحراستها من التشتّت والانطفاء. إنّ جملة الحال هنا تعبير عن الدلالة المستمرة للفعل (يحرس في المضارع)، إذ إنّ الحراسة فعل مستمر يتقاطع مع النوم (استمرار الفعل أيضا)، وهما ما تبنى عليه المتضادات: النوم واليقظة، الغفلة والحراسة، السهو والانتباه.
إلا أنّ ليل الربيعي الذي (يحرسنا) هو ليل ممتد من الأمس إلى اليوم، وقد يمتد إلى المستقبل قائماً بكل وظائفه الدلالية في التعبير الشعري وهو تركيب إضافةٍ يخصص به فعل الليل، وهيئته، وأدواره.
تقوم العتبات بدور رئيس في نصوص عبدالرزاق الربيعي، بل إنه يختارها بدقة، نجد ذلك في مجموعاته: (نقوش سومرية على باب اليمن)، و(أرواح ثكلى في كوكب مريض)، و(شياطين طفل الستين)، و(على سطحنا طائر غريب)، و(إلحاقاً بالموت السابق)، و(غداً تخرج الحرب للنزهة)، و(صعوداً إلى صبر أيوب) وغيرها. وتقودنا العتبات في هذا الديوان إلى شخصيات الربيعي بداية من الإهداء وهو أحد عتبات المجموعة الذي طرّزه بـ:
إلى جمانة الطروانة..
لي ميدان القصيدة،
وحصانها الجامح
ولكِ ما تبقّى
من نبضِ حروفي.
تُظهرُ العتبات ارتباطاً مهماً في تشكيل الشخصيات وبناء النصوص المرتبطة بها في علاقاتها الشعرية والإنسانية، ودفء المشاعر كما في المقطع السابق. كما يظهر هذا الارتباط بين العتبة والشخصية مع شخصيات واقعية ارتبط بها الشاعر في حياته فجعل من حروفه مدخلاً إلى التعبير الشعري عنها، ومن هذه الشخصيات جمانة الطروانة في الإهداء السابق، والشاعر وسام العاني في نص (فقدان) الذي يقوم على إظهار دلالات التيه والغربة الإنسانية بحثاً عن طريق الخلاص، ربما هذه فكرة يحاول النص البوح بها، لكن النص جاء محملاً بخيالات الشاعر، مقتنصاً من ذات الشخصية دلالات أكمل بها البوح الشعري فجاء الحزن متداخلا مع الحب والخوف والسؤال:
أفلتَ
حين اشتجر الدخانُ
من رصاصة الحرب
أفلتَ من مخالبِ الظلامِ
في متاهة الجبّ
لكنّ سهم الحزن
لم يمهله
حينما الوجود
صوّب التسديدة الأخيرة
لروحه الأسيرة
في جسد أنهكه الطواف
والتجوال
في الدروب
والهروب
من مواسم القطاف
فنام في القلبِ
حينئذٍ
مدّ على التراب
طوله الفارع
واستراح
من عمر مضى
ما بين خوف
وارتجاف
واحتضار
وفؤاد عاصف
بالحزنِ والكربِ...
كما يظهر الارتباط مع شخصية الشاعر جواد الحطّاب في نص (حطّاب الأيام النيئة) وهو ارتباط واضح في العتبة باستخدام الجناس تعبيرا. يولد هذا النص محمّلاً بالوجع الإنساني، وهموم الإنسان وقضايا المكان العراقي، وهي دلالات أكثر عبدالرزاق الربيعي من استحضارها في شعره، فالعراق حاضر في وجدانه ونصوصه:
واليوم
تعدّدت الأسباب
ببابل
فيما ظلّ الموتُ وحيداً
يمشي في الطرقات
والناس سكارى..
والعربات
تمضي
بالبلدانِ
إلى مثوى النسيان
الشرطيّ
تخفّى
خلف الأصفاد
وتساقطتِ الأسنانُ الذهبيةُ
من أفواه «بنات الريف»
فضاقتْ (بغداد) عليه
بما رحبتْ
لكنّ (جواداً) ظلّ يغنّي
في أذني:
«الوقت حصى
وأنا طبّاخ الأيام النيئة»
فماذا أعددتَ لنا
يا حطّاب؟
ويظهر الارتباط مجدداً في شخصية الشاعر صباح أحمد حمادي في نص (قبل حضوره بخمس دقائق) مفتتحاً نصه بعتبتين: الإهداء، ومقطع من ملحمة جلجامش. إنه نص مليء باستنزاف الذاكرة والوجع والآه. يربط فيه الشاعر بين تلك الصور وبين شخصيته في بوح سردي، ووصف بسيط، وذاكرة مستعادة محملة بروح الشاعر الذي يستحضر تفاصيل حياته وملامحه:
حين مرّ القطار الأخير
اشتكى
قال لي
وبكى
-لو تجف القطارات
والصافرات
ويبقى
لي الشعر
والمرأة المتكا
قال لي
وبكى.
مرةً مازحَتْهُ الشظايا
فأطلق سهم الندى
وانبرى للذرى
لو درى
طائر الشمع
قد ذاب
من حبه
وعلى موته أوشكا.
إنها الذاكرة التي أعادت الشخصية إلى بوح الشعر وجعلت الشاعر يبني نصه وفق مراجعاتها. إنّ هذا الارتباط بين العتبات والشخصيات في الشعر هو ما دفع الربيعي لبناء عتبته الرئيسة بصيغة الجمع، إذ بتعدد الشخصيات تتشكّل الصورة الجمعية وتنبني.
أعود لـ(ننام ويحرسنا ليلُ أمس) كونه نصا رئيسا في المجموعة، فهو واحد من نصوص المجموعة الذي يفيض عذوبة في التعبير، ويقوم على ثلاثة وعشرين مقطعاً شعرياً قصيراً، يُعدُّ الليل الثيمة الأبرز في بنائه الشعري، وقد استطاع الربيعي أن يملأ النص رومانسية فريدة، ولغة حالمة، وصوراً مبتكرة:
على السريرِ
بقايا أرقٍ كثيفٍ
يفيضُ
على السريرِ المجاورِ
للغيمِ
***
الليل معاركُ مع الأشباح
النهارُ نزالات
مع ظلالها في الأرض
***
في قبضةِ الذبول
أضلاعُ الزهرةِ التي
كانت تفتحُ أزرارَ صدرها
للنسيمِ أمس
***
الليلُ جرحٌ،
النهارُ ضماد.
لكنّ الربيعي عاد مؤكداً في الختام أن الليل الطويل له حارسٌ يحرس أرواحاً ثكلى تمزّقَ وجعُها على هذه الحياة فيرسمه قائلاً:
في قلبِ هذا الليلِ الطويلِ
ومهجته
ننامُ
ويحرسنا
ليلُ أمس.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: