عربي21:
2025-02-04@20:04:06 GMT

مداخل تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة

تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT

أصبح مطروحا بقوة موضوع "العدالة الانتقالية" في سيرورة إعادة بناء سوريا الجديدة، ولئن كان النقاش حول هذا الموضوع في أولى مراحله، ويحتاج إلى وقت وجهود من أجل إنضاج فكرة العدالة الانتقالية، وتوفير متطلبات إنجاحها، فإن الإرث السياسي والاجتماعي والمناخ النفسي العام الثقيل والمعقد في مؤسسات الدولة ونسيج المجتمع، والثقافة السياسية التي حكمت النظام السياسي السوري، وجعلته متكورا حول نفسه، بل حولته إلى سياج سميك في علاقته بالسوريين أفرادا وجماعات، وكلها اعتبارات موضوعية تجعل من العدالة الانتقالية ليس مطلبا فحسب، بل ضرورة لا مندوحة عنها، لإعادة الثقة في السياسة وممارسيها، وفي مكونات المجتمع وروافده اللغوية، والإثنية، والثقافية.



تُنبه التجارب المقارنة إلى أن ليس ثمة مقاربة واحدة لفهم العدالة الانتقالية، ومسالك تحقيقها، بل هناك تنوع في الفهم، وتعدد في طرق الإنجاز. والحال أن السياقات العامة السياسية والمجتمعية والثقافية هي المتحكمة بدرّة أساسية في صياغة رؤية فكرية لروح العدالة الانتقالية، ورسم طرق وآليات الوصول إليها. فبعض تجارب العدالة الانتقالية تحققت في ظل استمرار نفس النظام السياسي، بل إن النظام نفسه كان طرفا مشاركا في بناء خطوات إنجاز العدالة الانتقالية.

تمثل التجربة المغربية مثالا بارزا عن تحقيق العدالة الانتقالية في ظل استمرار النظام السياسي وبمشاركته، إلى جانب مكونات المجتمع السياسي والحقوقي والمدني. فهكذا، استطاع المغاربة، نظاما سياسيا ومجتمعا مدنيا، من القبض على العصى من الوسط
وتمثل التجربة المغربية مثالا بارزا عن تحقيق العدالة الانتقالية في ظل استمرار النظام السياسي وبمشاركته، إلى جانب مكونات المجتمع السياسي والحقوقي والمدني. فهكذا، استطاع المغاربة، نظاما سياسيا ومجتمعا مدنيا، من القبض على العصى من الوسط. فمن جهة، تمت المحافظة على ثوابت النظام السياسي، على الرغم من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الفترة الزمنية الفاصلة بين 1956 و1999، وفي الآن معا تضميد الجراحات الناجمة عن هذه الانتهاكات من خلال آليات التعويض المادي، وجبر الأضرار المعنوية، والالتزام بعدم تكرار التجربة موضوع المساءلة، عبر تقديم مجموعة من الإصلاحات الدستورية والسياسية والمؤسساتية، وتضمينها في الوثيقة الدستورية لعام 2011.

فإلى جانب التجربة المغربية، وهي الوحيدة والنادرة في البلاد العربية، هناك تجارب تحققت في مناطق كثيرة من العالم، نشير، على سبيل المثال، إلى حالة جنوب أفريقيا، حيث عاش هذا البلد لعقود انتهاكات جسيمة من قبل أقلية البيض، استحوذت على السلطة والثروة، وقامت بأشكال متنوعة من التنكيل من السكان الأصليين، وكادت أن تقضي عليهم واجتثاث جذورهم عنوة وبالقوة. فالمقاربة المعتمدة في جنوب أفريقيا، اعتمدت هي الأخرى حلا توافقيا وسطا بين "الحاجة الملحة على تحقيق استقرار سياسي بناء سلم مدني، وواجب الكشف عن "حقيقة" تضمن هدوء الذاكرة"، متلمسة بذلك طريقا وسطا بين "العدالة العقابية والعفو الشامل".

لذلك، يُنتظر من القادة السوريين الجديد ومن يدعمهم بصدق أن يُعملوا العقل، ويرجحوا الاجتهاد الخلاق في صياغة رؤيتهم الخاصة لمقاربة ممكنات تحقيق العدالة الانتقالية في بلدهم. فطريق الانتقام، والعقاب القاسي، وربما القصاص، كما يروج له البعض، ليس خيارا سالكا، بل هو، بكل المقاييس، سيفتح البلاد على آفاق غير واضحة المعالم، وربما سيدفع سوريا دفعا نحو الخراب المدني والانتكاس السياسي. ثم إن التفكير في الحلول الجاهزة من قبيل التنكيل بفلول النظام، وتقتيلهم دون محاكمات عادلة، سيعقّد إمكانيات بناء سوريا الجديدة. فالمدخل الكفيل بإنجاح سيرورة العدالة الانتقالية، لا يمكن أن يكون إلا مدخلا مبنيا على عدالة القانون، ووسطية العقل، وروح إعادة بناء الثقة، والبحث عن المشترك داخل سوريا الجديدة التي لا يمكن أن تكون إلا متعددة، متنوعة، ومتصالحة مع ذاتها، ومتسامحة مع كل مكوناتها.

الانتقال في هذه الخطوات ليس عملية سهلة، ولن تكون بالضرورة سلسة، بل هي مسار معقد بطبيعته، ينطوي على الصعود والنزول، ويحتمل النجاح كما الكبوة والإخفاق.. لكن الأساسي في هذه العملية برمتها يكمن في وعي كل مكونات الشعب السوري دقة اللحظة التاريخية التي توجد في قلبها بلادهم، والاستعداد غير المشروط من لدن الجميع على التكاتف من أجل إنجاح العدالة الانتقالية بكل مراحلها
لذلك، كما أشرنا في مقال الشهر الماضي، تحتاج سوريا الجديدة أولا وقبل كل شيء إلى الإفصاح الصريح عن هويتها، من حيث طبيعة نخبتها القائدة، ونمط تفكيرهم ونوع تصوراتهم، لإقناع السوريين في الداخل والعالم من حولهم بأنهم على الطريق السالك لإعادة بناء الثقة في السياسة والمؤسسات والمجتمع، وأن أولوية أولوياتهم استرجاع مناخ الاستقرار والسلم إلى بلدهم، وفتح المجال واسعا أمام كل السوريين للمساهمة في إنجاح عودة الحياة المدنية إلى وطنهم.

وفي هذا الاتجاه يبدو مهما وضروريا ترتيب شروط حوار وطني مفتوح في سوريا حول سبل إعادة بناء سوريا الجديدة، يكون مؤسسا على رؤية واقعية، وواضحة، وقابلة للتطبيق، يستطيع الجميع الاهتداء بها، والسير على نهجها. والحال أن لسوريا الكفاءات والطاقات الجديرة والكفيلة بصياغة مثل هذه الرؤية، التي سنضيء الطريق للبناء الجديد.

ثم إن مخرجات المؤتمر الوطني، إن توفرت شروط انعقاده ونجاحه، سترسم صورة إعادة بناء سوريا الجديدة، من حيث القوانين اللازمة، وفي مقدمتها إعداد دستور ديمقراطي، يضمن بناء دولة مدنية تحتضن الجميع على قاعدة المواطنة، وتكرس توزيعا متوازنا للسلطات، وتكفل الحقوق والحريات بكافة أجيالها، وتاليا تقود البلاد إلى تكريس قواعد ومبادئ المشاركة المواطنة الواسعة والمفتوحة، المبنية فقط على مبدأ التكافؤ في الحقوق والفرص.

غير أن ما يجب التنبيه إليه أن الانتقال في هذه الخطوات ليس عملية سهلة، ولن تكون بالضرورة سلسة، بل هي مسار معقد بطبيعته، ينطوي على الصعود والنزول، ويحتمل النجاح كما الكبوة والإخفاق.. لكن الأساسي في هذه العملية برمتها يكمن في وعي كل مكونات الشعب السوري دقة اللحظة التاريخية التي توجد في قلبها بلادهم، والاستعداد غير المشروط من لدن الجميع على التكاتف من أجل إنجاح العدالة الانتقالية بكل مراحلها، لبناء سوريا جديدة تجب الماضي وحقبة طغيانه الذي ضغط بكلكله على صدور السوريين من انقلاب عام 1963 وحتى هروب بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العدالة الانتقالية سوريا المجتمع التجارب آليات سوريا مجتمع العدالة الانتقالية تجارب آليات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة أفكار صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بناء سوریا الجدیدة النظام السیاسی إعادة بناء فی هذه

إقرأ أيضاً:

شبكة حقوقية تدعو لتحقيق العدالة لضحايا مجزرة حماة 1982

دعت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في بيان تحت عنوان "العدالة المؤجلة" إلى كشف الحقيقة وتحقيق العدالة لضحايا مجزرة حماة 1982.

وقالت الشبكة إنه في 8 ديسمبر/كانون الأول طوي فصل دامٍ من تاريخ سوريا المعاصر بسقوط نظام الرئيس بشار الأسد وانتقال السلطة إلى حكومة جديدة، وبدء مرحلة تسعى إلى ترسيخ العدالة وسيادة القانون.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2انتقادات حادة لإخلاء البنتاغون مكاتب مؤسسات صحفية لصالح أخرىlist 2 of 2إجلاء 37 مريضا من غزة لتلقي العلاج في مصرend of list

وأضافت الشبكة أنه مع ذلك، لا يمكن لسوريا بناء مستقبل مستقر من دون مواجهة ماضيها وإنصاف ضحاياه، وفي مقدمتهم عشرات الآلاف من أبناء مدينة حماة الذين "كانوا ضحية واحدة من أبشع المجازر في تاريخ البلاد الحديث، إذ قُتلوا من دون تمييز بين رجل وامرأة، مدني ومسلح، شيخ وطفل".

وأشار البيان إلى أنه طوال 43 عامًا، بقيت مجزرة حماة طي النسيان، من دون أي تحقيق رسمي، أو مساءلة للمتورطين، أو كشف عن مصير آلاف المختفين قسرًا، أو حتى اعتراف بمعاناة الناجين وذوي الضحايا.

ووفق المنظمة، أودت هذه المجزرة بحياة ما بين 30 إلى 40 ألف مدني، مشيرة إلى أنها "جريمة جماعية ممنهجة ارتُكبت بسبق إصرار من قبل نظام (حافظ) الأسد".

وأضاف البيان أنه مع بداية العهد الجديد، فإن فتح هذا الملف المغلق بات ضرورة حتمية كخطوة أساسية في مسار العدالة الانتقالية "التي لا تتحقق إلا عبر المحاسبة، وجبر الضرر، واستعادة الحقوق، والاعتراف الرسمي بالمجزرة".

إعلان

وأعربت الشبكة عن أسفها إزاء تجاهل المجتمع الدولي لهذه الجريمة، معتبرة ذلك "تخاذلًا بحقّ الضحايا وخطأ تاريخيًّا يجب تصحيحه".

وقالت إنه منذ فبراير/شباط 1982 ما زال مصير نحو 17 ألفا من أبناء مدينة حماة مجهولًا، بعد أن اعتقلتهم قوات النظام السوري ونقلتهم إلى مراكز احتجاز سرية وقد رفض النظام السابق تقديم أي معلومات عن أماكن احتجازهم أو مصيرهم.

وبحسب الشبكة، فإن تقارير حقوقية وشهادات الناجين تشير إلى وجود مقابر جماعية لم يُكشف عنها بعد، مما يستدعي تشكيل فرق تحقيق متخصصة لتحديد مواقع الدفن الجماعي.

وطالبت الشبكة بتشكيل لجنة وطنية لاستعادة الممتلكات المصادرة، وإلغاء قرارات المصادرة غير القانونية، وتعويض المتضررين ماديا، ووضع خطة وطنية لإعادة إعمار الأحياء المدمرة، مع إعطاء الأولوية للسكان الأصليين في العودة إلى مناطقهم.

كما حثت على إنشاء صندوق تعويض وطني يعتمد على الأصول المجمدة لمسؤولي النظام السابق، والدعم الدولي، وإيرادات الأصول غير الشرعية المصادرة.

مقالات مشابهة

  • مقلد: مصر على مدار تاريخها تجد اختلاف على النظام السياسي الانتخابي
  • بالتفصيل.. الشرع يتحدث عن رؤيته لمستقبل سوريا الجديدة
  • الشرع يتحدث بالتفصيل عن رؤيته لمستقبل سوريا الجديدة
  • الرئيس الشرع: هناك خيط رفيع يبن العدالة الانتقالية والسلم الأهلي وسنلاحق كل من أجرم بحق الشعب السوري وخاصة الرؤوس الكبيرة
  • أسعد الحريري: آن الأوان لإعادة بناء دولة العدالة والشفافية
  • تقرير امريكي يتحدث عن فرصة مهمة للعراق وكوردستان في بناء سوريا الجديدة
  • وهبي: العدالة الانتقالية تجربة وطنية أفضت إلى تعزيز المصالحة بين المجتمع المغربي وتاريخه
  • شبكة حقوقية تدعو لتحقيق العدالة لضحايا مجزرة حماة 1982
  • وهبي: العدالة الانتقالية بالمغرب إنجاز وطني رائد عزز المصالحة ورسخ سيادة القانون