رمز النضال الخالد
تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT
زكريا الحسني
الأجواء مفعمة برياح الصمود الذي انقلب إلى نصر، صمود المقاومين والمناضلين في غزة ولبنان واليمن والعراق، رغم كل الدماء وكل الجراح وكل التضحيات من حصار وجوع وبرد وفقدان الناصر. والتاريخ يحتفي بكثير من تلك القصص والملاحم التي ما زالت أحداثها شاهدة على تلك الحقبة الزمنية التي أبدلها النضال في سبيل الحق إلى صفحات تحكي عبرا ودروسًا وقِيمًا تعكس عظمة روح النضال والصمود.
هذه القصص والملاحم ليست مجرد أحداث ماضية؛ بل هي مشاعل تنير دروب الأجيال القادمة وتحفزهم على التعلم من تجارب الأبطال. ليس التاريخ مجرد سارد فحسب لأحداث مضت، بل هو مرآة تعكس البطولات لتظل نابضة بالحياة، تستلهم منها قلوب الباحثين عن الحق والعدل أرقى الأمثلة.
أحد القصص البطولية في ظل خذلان الناصر، والإباء الفريد لأجل البقاء على موقف رفض الذل هي تلك التي سطرتها "كربلاء" لأبي الشهداء الحسين بن علي سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي خاض معركة تمثلت شكلًا من صراع الحق مع الباطل، وليس بغريب على سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذي تربّى في بيت الوحي والرسالة أن يضرب تلك الأمثلة الراقية في الثبات على الموقف، فها هو نداؤه يمزق صمت التواريخ: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد"، ونداء آخر تردد صداه طيلة السنين: "ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين السلة أو الذلة وهيهات منا الذلة"، هذه النداءات تتناغم مع نداء جده عليه الصلاة والسلام عندما هتف يقول: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
في نيف وسبعين رجلًا من أهل بيته وأنصاره وقف في مواجهة جيش يتألف من حوالي 30 ألف مقاتل، ليقاتل ببسالة قلَّ لها نظير، وضحَّى لأجل المبدأ حتى برضيعه، لذا أضحى إلهامًا ونبراسًا ورمزًا للشرفاء والأحرار في كل أرجاء المعمورة.
في الثالث من شعبان أنجبته سيدة النساء فاطمة الزهراء بنت محمد عليه الصلاة والسلام، الذي تلقاه بيديه وضمه إلى صدره بسرور ممزوج بدموع عينيه، ولكن ولادته التي تلقتها الخلود بين يديها كانت في العاشر من محرم، حيث سطر ملحمة من الدماء الزكية، فكانت تلك بمثابة ولادة ثانية له، ولكن هذه المرة في مهد الخلود.
ما أجمل ما نضده الشاعر الكبير بولس سلامة في هذه الملحمة الخالدة، إنه يقول:
كربلاء!! ستصبحين محجًّا // وتصيرين كالهواءِ انتشارا
ذكركِ المفجع الأليم سيغدو // في البرايا مثلَ الضّياءِ اشتهارا
فيكون الهدى لمن رام هديًا // وفخارًا لمن يرومُ الفخارا
كُلّما يُذكر الحسينُ شهيدًا // موكبُ الدّهر يُنبت الأحرارا
فيجيءُ الأحرار في الكون بعدي // حيثما سرْتُ يلثمون الغبارا
وينادون دولةَ الظّلم حيدي // قد نقلنا عن الحسين الشِّعارا
و"غزة" أعادت إحياء ذكرى كربلاء في الساحة من جديد بصمودها أمام قوى الطغيان لمواصلة نهج الإباء الذي سطره رمز الفداء الحسين، فما أشبه الأمس باليوم، فالتاريخ قد لا يعيد نفسه ولكن السيناريوات لمواجهات الحق بالباطل تُعاد بصور مختلفة لذا قال يحيى السنوار: "فلتكن غزة كربلاء العصر"، وقبل أيام هتف البطل الفلسطيني المُحرر من سجون الصهاينة حمدي محمد شحادة يقول:
"لن تتحكم بزماني لن تخضعني // ثوريٌ نهجي والخط حُسيني"
حقًا صدق من قال: "كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء".
إنها قصص سيظل التاريخ يرويها، لأنها ليست مجرد أحداث قديمة، بل هي إشارات ترشدنا نحو الطريق الصحيح وتجعلنا نواصل نضالنا من أجل الحق والعدل مهما كانت التحديات.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
في نَصرِ اللهِ وسُننه
١- في معنى النصرالتعريف التقليدي لـ"النصر" لا يخرج عن معنى "الغلبة" في دلالاتها المادية، وغلبة الخصم أي التفوق عليه في معركة أو منافسة أو خصومة، سواء في ساحات القتال أو في عوالم السياسة والتجارة والرياضة.
وهذا المعنى لـ"النصر" لا يُنظَر إليه إلا باعتباره حدَثا عابرا يُمكن أن تُلغيه هزيمة قادمة فينقلب المنتصر مهزوما والمهزوم منتصرا، وليس لهذا النصر ولهذه الهزيمة تداعيات خطرة تمس من جوهر الإنسان ومن منظومة القيم لكون الصراع يدور في عالم المادة وبمعايير مادية تستند إلى مفهوم كميٍّ للربح وللخسارة، من ذلك مثلا عدد القتلى في الحروب أو مقادير المال في التجارة أو عدد الأهداف في الملاعب أو عدد النقاط في المصارعة، وتلك معايير تشتغل كلها على الظاهر وتنظر في السطح فلا يكون الحُكم بعدها بـ"نصر" أو بـ"هزيمة" إلا حُكما من طبيعة تلك المفاهيم الكميّة.
2- النصر مقاومة
الذين يخوضون معاركهم تحت عنوان "معركة الحق والباطل" و"معركة العدل والظلم"؛ لا يستعجلون نتيجة بقدر ما يحرصون على توفير الأسباب وبقدر ما يبذلون من جهد عقلي ومعنوي في توضيح طبيعة المعركة وفي حث الأفراد على الصمود وعلى التضحية وعلى الصبر والثبات.
معارك الانتصار للحق وللعدل هي معارك الإنسان في طريقه نحول "الكمال"، أي نحو الحرية ونحو العدالة ونحو عوالم الجمال والحب والأمان، حيث يكون أقرب إلى الله المقتدر الغالب القوي العادل العالم الباطش الرحيم. وتلك مرتبة يُدركها الإنسان ويجدها في روحه حين يشعر بالطمأنينة وبالتوازن النفسي، وحين يجد بأنه يسمو بكل اعتزاز على كل مظاهر القوة فلا يخشاها ولا يتذلل أمام أصحابها ولا يتنازل عن بعض كرامته لنيل مرضاة ذي جاه أو مال او سلاح.
أصحاب هذه المعارك يجدون أنفسهم دائما في حالة انتصار، لكونهم لم ييأسوا ولم يَهِنوا: "ولا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" (آل عمران: 139)، ولم يساوموا ولم يشكّوا في مبادئهم وفي حتمية انتصار تلك المبادئ التي يقاومون دفاعا عنها ويُورّثونها للأجيال القادمة؛ في مواقفهم وفي كتاباتهم وفي دماء شهدائهم وأسماء رموزهم وصمود قادتهم وعطاء بيئتهم الحاضنة لفكرة المقاومة ولمبدأ الشهادة ولقيم الحق والعدل والحرية والكرامة.
إنها بيئة لا تكف عن تقديم التضحية بأحبّ ما يُحب الإنسانُ مما زيّن الله في نفسه من مال وبنين، بيئة تفتح على المستقبل بما هو نصر دنيوي أو جنات خلود أو هما معا قال تعالى: "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ" (غافر: 51).
لقد صمد أنباء ورسل في معركتهم مع الظلم والباطل، ولاقوا صنوفا من الأذى، وفيهم من قُتِل وفيهم من هُجّر وفيهم من حوصِرَ، ولكنهم لم يتنازلوا عن رسالتهم ولم يشكّوا في كونهم على حق ولم يسعوا إلى تبادل الاعتراف مع قوى الشر وسلطان الظلم.
ذاك الصمود هو انتصار حقيقي على الأعداء، لقد كانوا يشعرون بكبرياء ورفعة، وكان أعداؤهم يشعرون بالعجز ويجدون أنفسهم أذلاء وصغارا أمام ثبات أصحاب الرسالات وأمام صمود أهل الحق.
لم تكن "الغلبة" المادية تُشعر أصحاب الباطل بكونهم انتصروا، ولم تكن حالة التجرّد من القوة المادية تُشعر أصحاب الحق بكونهم مهزومين. ثمة معايير معنوية لا يدركها المتعجرفون ممن قست قلوبهم وسُكِّرَت أبصارهم وضُرِب على آذانهم، فلا يرون من الوجود إلا ظاهره، ولا يُميّزون بين الحياة بما هي حضور في التاريخ وفعلٌ فيه وبين العيش بما هو كينونة جسدانية لا يختلفون فيها مع بقية الحيوانات التي تحتكم لقانون الغلبة ولا تخرج حركتها عن قانون الطبيعة.
3- في نصر الله وسُننه
إن يقين المدافعين عن الحق بحتمية النصر، بما هو نصر مادي في التاريخ أو معنوي في روح الحضارة الإنسانية، لا يجعلهم يتواكلون فيكتفون بالدعاء على الأعداء وبطلب النصر من الله تعالى، إنما هم يعون بأن الله تعالى جعل لكل ظاهرة سببا ولكل نتيجة فعلا، ويعون بأن عدالة الله تعالى تقتضى ألا ينصر قاعدا والا يرزق كسولا وألا يُصلح عمل مفسدٍ.
إن سُنن الله تعالى كما هي ساريةٌ في الطبيعة فإنها سارية في التاريخ، وهي سُنن لا تتبدّل، فأصحاب الحق يُمكن أن يقدموا الكثير من الشهداء إذا خاضوا معاركهم إرضاء لله، ولكنهم قد لا يغلبون إذا لم يُعِدّوا الأسباب الكافية لتحقيق الغلبة على اعدائهم من أهل الباطل. إن الأسباب ليست فقط مادية عسكرية، إنما هي كل الأسباب التي تُؤلم العدوّ. لا بدّ من إيلام العدوّ بأيّ قدر من الإيلام بحسب قُدراتنا وما يتوفر لدينا من وسائل الإيلام، فلا نحقّر من شأن أي وسيلة فقد تكون رصاصة أو كلمة أو شعارا أو مسيرة أو بيانا أو مساعدة لمن هم مواجهة مباشرة مع العدو، مع أن المسلمين لا يكونون كذلك إلا إذا شعروا فعلا بأنهم جميعا في مواجهة مع العدو حتى وإن كانت اعتداءاته المباشرة تحصل على بعض من أهلهم في مكان يبدو بعيدا. إن المسلمين جميعا معنيون بواجب "إيلام" العدو، إيلاما حقيقيا: "ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما" (النساء: 104).
لقد خسر المسلمون معركة أُحُد وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم حفَظَة قرآن وفيهم صالحون مصلحون، ولكن بعضهم أخلّ بشرط من شروط الغلبة حين نزل "الرُّماةُ" من أعلى الجبل فرحا بما بدا لهم من فرار جيش العدو.
لم تكن "الهزيمة" يومها عقوبة إلهية خارجة عن مبدأ السّنن، وإنما كانت نتيجة عسكرية في علاقة بسبب مادي حقيقي، لقد خالقوا أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بما هي أوامر عسكرية ووجدوا نتائج مخالفتها في ساحة المعركة، وليس فقط بما هي أوامر نبوية سيجدون نتيجة مخالفتها في الآخرة.
x.com/bahriarfaoui1