لجريدة عمان:
2025-04-29@18:10:14 GMT

النقد العربيّ بين الأَصْداء والإصْغاء

تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT

لم نشهد مفترَقًا مقلقًا مفزِعًا مُضْجِرًا في الممارسة النقديَّة العربيَّة، مثلما نشهده في هذا العصْرِ من اضطرامٍ واضطرابٍ، وقلّةِ هدْأةٍ، ونبوِّ سكْنَةٍ، ونفور هجْعةٍ، ومفارقةِ موْئلٍ ضامنٍ آمنٍ. لقد كان النقد منذ بدايات القرن العشرين، وهبوب عواصف أو رياح أو نسَمات الأثر الغربيِّ في قِوَام ما تأسَّس وتهيَّأ مِن نقد عربيٍّ موروثٍ عن عقولٍ أعملت معاوِل هادمة أحيانًا، عاملة عالمة أحايين كثرة، حاملاً لوجهتين وتيّارين ومسلكين، تعايش تيّاران متزاحمان، متعارِضان، متضادّان، متناطحان، تيّارٌ يدعو إلى التمسُّك بأصولِ النقد القديم، وهو في الغالب الأعمِّ غافلٌ عن بنية هذا النقد وأبعاده وفلسفة اختباره وإجرائه (ولنا مآبٌ للخوْضِ في هذه الغفلة)، وتيَّارٌ وقع على علومٍ من الغرْب نافعة، أخذ رغوتها أو زُبْدتها ونخَل بها أدبًا عربيًّا.

عشنَا هذه الفُرقة النقديّة في أوْجها وحدّتها وشدّتها، بين مَن يرى ضرورة التركيز على حياة المؤلّف وعصره وواقعه في قراءة الأدب ونقده، وهو واهمٌ أنّه يسلك مسلك القدماء، ومَن يرى ضرورة التخلُّص مِن أثر الواقع والانغماس في الأثر الأدبيّ، لا أثر يُنظر فيه غيره، والإعراض عن حياة المؤلّف وعن عصره وعن قضاياه، والإيمان بمكتسبات الغرب النقديّة التي تهبّ بنا يمينًا وشمالاً، تقفو خطى اللّسانيّات أحيانًا، وخطى الفلسفة أحايين، وخطى المنطق أزمنة أخرى، فكُنّا كالقشّة في مهبّ الرياح، ندافع باستماتة يومًا عن البنيويّة ونقاتل في اليوم الثاني تبشيرا بالتداوليّة ونحارب ترسيخًا للسيميائيّة، ومَن اعتصم منّا بنهج أو منهج صار أقرب إليه من أبنائه. وفي كلّ هذا التنافر، كان السَّبيل واضحًا، تنازع بين التقليد والتجديد، أمّا اليوم، وقد سقطت الإيديولوجيّات، وتهاوت الأفكار الكبرى المؤسّسة، ووقفنا تأمُّلا في جدوى اتّباع الغرب في كلّ مظاهر حياتنا، فكرًا وعلمًا وعملاً، فإنّ النقد قد توقّف أيضًا، وتساقطت أوراق توته، فما النقد مرّة أخرى، وما سبيل تحقيقه؟ هل هو القدرة على إعْمال أدواتٍ نظريَّةٍ بها تُحْفَر النّصوص ويُغَاصُ في أعْماقها؟ هل هو تعقُّل الخطاب الأدبيّ وبيان رسالته ومحموله القضويّ؟ هل هو تأويلٌ وتدبيرٌ أو مسايرةٌ وتسيير؟ لا شكَّ أنّ كلّ هذا نافع وصالحٌ، غير أنّنا اليوم نفتقد عقلاً عربيًّا ناقِدًا يُحدّدُ مسار السَّبيل، وهذا لا يكون إلاّ بقراءة نقديَّة سليمة لموروثنا النقديّ ولحادثِ الممارسة النقديّة تنظيرًا وتطبيقًا. لقد هام نُخبة من الأكاديميين الأفاضل بالأسلوبيّة، وبشَّروا بها، واعتصموا بحبْلها، وخاضُوا فيها وجوهًا عددًا، وكان على رأس من قام بذلك من أساتذتنا في العالم العربيّ صلاح فضل صاحب كتاب "علم الأسلوب"، وصاحب عدد من المؤلّفات التي نظَّرت للنصّ وخواصِّ أسلوبه، اعتصامًا بالمحايثة، والالتزام بالبُنى اللّغويّة، إذ هي محدّدة الخطاب وباعثة شكله ومعناه، وأستاذنا محمّد الهادي الطرابلسي الذي أعْمل الأسلوبيَّة أوَّل ظهورها عند العرب على شعر أحمد شوقي، وخاضَ فيه إحصاءً واحتسابًا، وإيمانًا بأنَّ المعاني لا تُكتسب في الخطاب الأدبيّ إلاّ إذ حملتها اللّغة، ولذلك فإنَّ اللّغة هي الأصل، وهي محطّ النَّظر، ومركز الدَّرس. مشكلتي مع أساتذتي هؤلاء، أنّهم عاندوا وقاوموا وثبتوا على العهد، ولم يتحوَّلوا بيسر، ولم يُغيِّروا من طرائق تناولهم، ففي الوقت نفسه الذي تشابكت فيه الأفكار في الغرب معلنةً موت الأسلوبيّة وخائضةً في بدائلها الممكنة، كان دُعاة الأسلوبيّة في الجامعات العربيّة يستميتون في إبْقائها ورعايتها وتحنيطها. ما دعاني إلى كتابة هذا المقال، ليس عرض تاريخ النقد، ولا بيان العصبيّة النقديّة الجامعيّة تحديدًا في تحنيط المناهج الميتة والأدوات النقديّة الصائرة إلى فناءٍ، بل سؤال مُحرق، مقلقٌ، إلى أين المنتهى؟ إلى أين ينتهي النقد العربيّ بجميع أوجهه؟ ألا يحقُّ لنا الآن أن نعود إلى هذا التراكم الحديث من فصول النقد العربيّ، إلى "غربال" ميخائيل نُعيمة، وبيان الفِكَر التي تحكّمت فيه، والعُنْف الذي واجه به كلاسيكيّات أحمد شوقي، أن نعود إلى مناكفات طه حسين، ومحاوراته، وصراعاته، مع مصطفى صادق الرافعي والخضر حسين وزكي مبارك الذي وسم طه حسين في أكثر من مقالة بالجهل؟ هذه المحاورات العميقة أحيانًا، العقيمة أحايين كثيرة، التي سجّلت في تاريخ العرب الحديث محاكمات للأدب مسَّت أدباء كُثْرًا ومفَكِّرين عددًا، حتّى وجدنا الفضل، والقدرة النقديّة عند القُضاة أحيانًا، الذين يفصلون بين جناية الفكر المرغوبة المطلوبة، وجناية الفعل المرفوضة الملفوظة، ويُمكن أن نختصر ذلك في نصّ الحكم الذي أعلنه القاضي الذي بتَّ في الشكوى القضائيّة التاريخيّة في محاكمة كتابِ "في الشعر الجاهليّ" لطه حسين، يقول القاضي المحترم: "ونحن نرى أنَّ ما ذكره المؤلِّف في هذه المسألة هو بحث علميٌّ لا تعارض بينه وبين الدِّين ولا اعتراض لنا عليه، حيث إنَّه مما تقدَّم يتَّضح أنَّ غرض المؤلِّف لم يكن مجرد الطَّعن والتعدِّي على الدِّين بل إنَّ العبارات الماسَّة بالدِّين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنَّما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أنَّ بحثه يقتضيها، وحيث إنَّه من ذلك يكون القصد الجنائيّ غير متوفّر، فلذلك، تحفظ الأوراق إداريا". لابدّ أن نعود إلى هذه الأرضيَّة التنازعيّة بين دعاة القديم وأنصار الحديث، وما أثارته من أفكارٍ وقضايا وانعكاسٍ على المجتمع، حتى نفهم طبيعة العقل العربيّ الناقد، لأنّي على يقين أنّ أنصار القديم لم يكونوا يُمثِّلون نقدًا قديما ولا يتمثَّلونه أيضا، ولأنَّ أنصار دُعاة الحديث لم يكونوا سوى أصداء لنقد حديث لم يتعقَّلوا عناصره ولا مقامَه الاجتماعي والمعرفي في تلك الصراعات التي نُقد بها شعر شوقي وأعمال الرومنسيين، وشعر السيّاب من بعد ذلك، ونازك الملائكة وغيرهما. فكانت هنالك أزمة حقيقيّة بين الخطَّين المتفارقين، عدَّلتها -إلى حدٍّ ما- بدايةً من سبعينيّات القرن الماضي جهود المدرسة النقديَّة المغربيّة التي تجاوزت ثنائيّة القديم والحديث، وأعْملت من حديث النقد ما يُمكن أن يمتصّ قديمًا، ويُجْرَى أيضا على قديم النصوص، غير أنّ المدرسة المغربيّة ذاتها وقعت في أزمة الاعتصام بالمفهوم والإجراء الغربيّ وأطَالت البقاء في مكانة التّابع، وإن استدعت أصداء من الموروث النقديّ، وآمنت إيمانًا مُطلَقًا بالخطّ الحادث القائم على استدعاء المناهج الغربيّة دون استدعاء لمقامات إنتاجها. الآن، وهنا، كيف ننظرُ إلى الأدب في ظلّ وقفةٍ وبهتةٍ، وبلهٍ نقديّ ومعرفيّ، وفي ظلّ سقوط ثنائيّة القديم والحديث، وتهاوي الصراع المعرفيّ صاحب اللّسانيْن؟ هل نُواصِلُ نقد الأصداء، أو نقيم نقد الإصغاء إلى النصوص، وإعمال القلب لبلوغ "المزيَّة" والفضل؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة النقدی ة أحیان ا

إقرأ أيضاً:

جلسة ثقافية سعودية تستعرض فن القصة القصيرة جدا وتحدياتها النقدية

شهد الجناح السعودي جلسة ثقافية بعنوان "القصة القصيرة جداً: فن الاقتصاد اللغوي ورحابة المعنى"، شاركت فيها الدكتورة حمدة العنزي، أستاذة النقد الأدبي والشعر الجاهلي، وأدارها المذيع بدر الحارثي. ناقشت الجلسة مفهوم القصة القصيرة جداً وتطورها التاريخي، مستعرضةً أهمية الفنون الأدبية المختلفة وأثرها في التعبير الأدبي. وقدّمت العنزي قراءة نقدية معمقة، مشيرة إلى التباين النقدي حول هذا الفن بين القبول والرفض، ومعتبرةً القصة القصيرة جداً فنًا يتسم بالقصر، والاختزال، والكثافة، والبلاغة، والحكاية، وقد تتراوح نصوصه بين سطر واحد وصفحة ونصف، مع اختلاف مفهوم القصر من ثقافة إلى أخرى.

واستعرضت "أستاذة النقد الأدبي والشعر الجاهلي" تطور القصة القصيرة جداً، موضحةً أن بعض النقاد يعتبرونها فنًا غربيًا خالصًا، بينما يرى آخرون جذورًا عربية له، مستشهدةً بالمقامات، والأمثال، والنُكت في العصر العباسي، كما أشارت إلى قصة إرنست همنغواي الشهيرة التي كتبها عام 1925 بست كلمات فقط، معتبرة إياها نموذجًا مبكرًا للقصة القصيرة جداً، بالإضافة إلى كتاب "الانفعالات" للكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت عام 1932. وعربيًا، ذكرت الناقدة تجربة العراقي نائل سام في الثلاثينيات، إلا أنه لم يلقَ الاعتراف الرسمي، في حين أكدت أن الريادة العالمية بقيت محفوظة لساروت.

وفي مداخلتها النقدية، أوضحت الدكتورة حمدة العنزي أنها تميل إلى النقد الرافض لفن القصة القصيرة جداً، معتبرةً أنه يفتقر إلى عناصر الحكاية التقليدية مثل تصاعد الأحداث، والعقدة، والحل، مقارنةً بالرواية والقصة الطويلة، مبينةً تقاطعات هذا الفن الأدبي مع عدة أنواع أدبية أخرى، مثل الخاطرة التي تشترك معه في الشعور والتكثيف اللغوي، والومضة الشعرية التي تتلاقى معه في الإيجاز وتفترق عند الإيقاع الموسيقي، إلى جانب الإيبيغرام اللاتيني، وقصيدة النثر، والهايكو الياباني، وفن التوقيعات العربي.

وأكدت أن القصة القصيرة جداً تُبنى على خطين متوازيين هما ظاهر النص وعُمقه الرمزي، مشيرة إلى أن قراءة القصة تتطلب قارئًا واعيًا قادرًا على تفكيك الرموز واستيعاب المعاني الخفية، وضربت مثالًا على ذلك بقصة همنغواي عن حذاء الطفل، التي فتحت آفاق التأويل حول الحرب والخسارة.

ومن خصائص القصة القصيرة جداً، بحسب العنزي، التكثيف اللغوي الذي يحافظ على غزارة المعنى، والمفارقة التي تفاجئ القارئ بتغير غير متوقع في السرد، إضافة إلى الرمزية العميقة التي تتطلب تأملًا وجهدًا لتفكيكها. وأشارت إلى أهمية العنوان كأداة مساعدة، لكنه ليس شرطًا إلزاميًا، مؤكدةً ضرورة العناية بالصياغة اللغوية وانتقاء الألفاظ بدقة عالية.

كما أوضحت أن كتابة القصة القصيرة جداً تمثل تحديًا خاصًا، إذ تتطلب خلق دهشة حقيقية ضمن مساحة محدودة دون اللجوء إلى الشرح المباشر، مع استخدام مكثف ودقيق للغة. وعلى المستوى الثقافي، أشارت إلى محدودية تقبّل هذا الفن لدى القراء التقليديين، مقابل انتشاره بين الشباب بفضل طبيعة الحياة الحديثة وثقافة الاستهلاك السريع، رغم النظرة الاستخفافية التي قد تلاحقه تحت مسميات مثل "قصة المترو" أو "قصة الساندويتش".

وتحدثت أيضًا عن التحديات التي تواجه هذا الفن نتيجة كثرة النصوص الضعيفة وغياب المعايير النقدية الصارمة، مما يتطلب وجود قارئ نوعي يمتلك ذائقة فنية عالية.

وفي مقارنة بين الأدب العربي والأدب الغربي في هذا المجال، أوضحت الدكتورة حمدة العنزي، أستاذة النقد الأدبي والشعر الجاهلي، أن المدرسة العربية تتأثر بالمدارس الأوروبية مع طغيان الكم أحيانًا على الكيف، في حين يتصدر الأدب الأمريكي من حيث الجودة، مستفيدًا من التنوع الثقافي والتقنيات السردية المتقنة.

مؤكدةً في ختام حديثها أن فن الحكاية جزء أصيل من التراث العربي منذ القصص القرآني والنبوي، والمقامات، وألف ليلة وليلة، رغم أن الرواية الحديثة ظهرت بصيغتها النهائية في الغرب.

مقالات مشابهة

  • وعود ترامب الشعبوية تصطدم بثوابت السوق في أول 100 يوم من رئاسته
  • المشهد اليمني الذي يشبهُ غزة
  • جلسة ثقافية سعودية تستعرض فن القصة القصيرة جدا وتحدياتها النقدية
  • هذه هي عصا الاقتصاد السحرية التي أخضعوا بها الشعوب
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • الترجمة مدخل لفهم العالم العربي ونصرة فلسطين.. ميشيل هارتمان: الأدب المكان الذي يمكننا أن نجد فيه المزيد من التقارب
  • صندوق النقد ينتقد: ليس كلّ ما يُقرّ مطلبا دوليا
  • معيط: صندوق النقد الدولي يستعد لبدء المراجعة الخامسة مع مصر
  • «الشارقة القرائي للطفل» يستعرض التفكير النقدي وأدب الطفل والرويات المصورة
  • العلاق: بالاتفاق مع الخزانة والاحتياطي الفيدرالي تم تنظيم عمليات البيع النقدي للدولار وتوسعة بنوك المراسلة