في مناقب الباقر العفيف «1 – 3»
تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT
في مناقب الباقر العفيف «1 – 3»
النور حمد
لقد عشت ومعي العديد من الأصدقاء المقربين من الراحل العزيز، الدكتور الباقر العفيف، مراحل صراعه مع المرض، عن كثبٍ، منذ أن اكتشف إصابته به منذ حوالي سبع سنوات. وقد ظل الأمل يحدونا، طيلة هذه السنوات، أن يتحقق له منه الشفاء التام، خاصةً وأن دورات العلاج الأولى التي امتدت لسنواتٍ، وتنوَّعت بين العلاج التقليدي في الولايات المتحدة، والعلاج البديل في كل من ألمانيا والمكسيك، قد أحدثت إبطاءً ملحوظًا في تقدم المرض.
إلى جانب ما تقدَّم، كانت لدى الباقر همة عالية لا تعرف الونى. كما أن الله حباه بخاصية الصبر الجميل، والتركيز العالي على معيشة اللحظة الحاضرة، دون شكوى، والانحصار في أداء واجباته التي نذر لها نفسه في التنوير، وفي الفعل السياسي، والناشطية المدنية. كل تلك الخصائص النادرة، التي اتسم بها الباقر، وعلى رأسها عدم الشكوى، جعلتنا نشعر أنه في طريقه إلى التعافي. لكن، في الشهور الست الأخيرة إزدادت عليه وطأة المرض، ومع ذلك ظل منشغلاً بالهم العام، بأكثر مما هو منشغلٌ بأمر نفسه. عاش الباقر ممسكًا بالميزان، بدقة، بين تدهور حالته الصحية وتفاقم الآلام والمقاساة، وبين أداء ما يراه واجبًا عليه. لم يجزع الباقر قط من يد الموت التي كانت تمد براثنها إليه، ولم يبعده ذلك عن الانشغال بالهم العام، حتى بلغ الكتابُ أجله، وأسلم الروح إلى بارئها راضيًا مرضيا.
الواجب المباشرفي وصيته التي قمت بنشرها الأسبوع الفائت، أشار الباقر إلى “الواجب المباشر”. و”الواجب المباشر” تعبيرٌ استخدمه الأستاذ محمود محمد طه ليسمى به سلسلة من ندوات التربية الداخلية للجمهوريين والجمهوريات التي كان يقيمها. وقد هدفت ندوات الواجب المباشر إلى تنمية قدرة الفرد على معرفة أي واجباته هو الأوجب، الذي ينبغي أن يجد عنده الأولوية على غيره. كانت تلك الندوات ضمن مئات الندوات الداخلية التي طرقت مواضيع أخرى متعلقة بالسلوك وبالعرفان. ولقد كانت أولى الندوات الداخلية التي حضرتها للأستاذ محمود محمد طه، في منزل أحد إخواننا الجمهوريين في عام 1972، واحدةً من ندوات “الواجب المباشر”. حينها، كنت طالبًا في السنة الثانية في كلية الفنون. وهو الوقت الذي بدأت أتعرف فيه على فكر الأستاذ محمود محمد طه وأقترب من الدخول في مجتمعه الصغير الذي صنعه.
ما تعلمته من جلسات الواجب المباشر، أن معرفة الواجب المباشر ومنحه الأولوية تعتمد على عنصرٍ آخر، هو الحيدة العقلية. والحيدة العقلية لا تأتي إلا عن طريق العبادة المجوَّدة والتَّفَكُّر الذي يقود إلى الرضا بما اختاره الله لك. وقد ورد في حكم ابن عطاء الله السكندري، قوله: “من وثق بحسنِ اختيارِ الله له، لم يتمنّ غير الحالة التي هو فيها”. وهذا مقامٌ لا يقومه إلا من بلغوا شأوًا في التوحيد والمعرفة بالله والرضا به. فالمرء قد يختار، أحيانًا، واجبًا أقلَّ مباشرة، وأقل أهمية، فيندفع إلى أدائه، جاعلاً منه واجبًا مباشرًا، في حين يكون السبب هو مجرد الهروب من الواجب المباشر الحقيقي، الذي يكون أداؤه أكثر مشقةً من الذي اختاره. فالمرء، على سبيل المثال، قد يتحجج أمام نفسه ويخدعها بأن واجبه المباشر هو زيارة قريبٍ له مريض في المستشفى، ليتجنب واجبًا آخر يقتضي منه سفرًا شاقًا وخروجًا عن الروتين المعتاد. وهذا مجرد مثال لنقيس عليه عليه.
الذي أعاد إلى ذهني ذكرى تلك الأيام وتلك الجلسات ما شاهدته من الباقر في الأعوام الأخيرة من حياته الخصبة المثمرة. لقد جسَّد الباقر العفيف ما تلقاه من تربيةٍ علي يد الأستاذ محمود محمد طه، في هذا المضمار، تجسيدًا لافتًا. لم يعذر الباقر نفسه، وهو تحت ضغط الآلام الهائلة واعتلال الصحة وضعف البدن عن واجبٍ قط. وهذا من المَحَكَّات التي يظهر فيها نور المعرفة الذي يجعل صاحبه قادرًا على تحييد عقله وتحديد أي الواجبات أوجب، وهو ما يقود إلى الإمساك بزمام النفس، وإلزامها بأداء الواجب المباشر في الوقت المطلوب. لقد كان في وسع الباقر أن يجعل من الإخلاد إلى الراحة، بين جلسات العلاج التي تتقارب أحيانًا، وتتباعد أحيانًا أخرى، عذرًا عن المشاركة في العمل العام، لكنه، لم يفعل. لقد ظل يقوم برحلاتٍ متعاقبة في أوقاتٍ متقاربةٍ من أمريكا إلى شرق إفريقيا. شملت أديس أبابا ونيروبي وكمبالا، وهي تمتد أحيانًا إلى عشرين ساعة، وهي مما يصعب حتى على الأصحاء.
عندما تعرَّفتُ على الباقر في نهايات سبعينات القرن الماضي، كان طالبًا في كلية التربية بجامعة الخرطوم. ولقد لمحت فيه منذ ذلك التاريخ، سمات الشخصية المستقلة دفَّاقة الحيوية. افترقنا عقب إعدام الأستاذ محمود محمد طه في عام 1985، ولم ألتقه مرةً أخرى، إلا عندما زرته في مانشستر في عام 1997، وهو في معمعة التحضير لدرجة الدكتوراه. ثم افترقنا مرة أخرى ولم نلتق إلا في واشنطن حوالي عام 2005، عندما جرى اختياره زميلا باحثًا في معهد الولايات المتحدة الأمريكية للسلام، لمدة عام. وحين قدمت في واحدةٍ من زياراتي من قطرٍ إلى الخرطوم، في عام 2007، بعد غيابٍ مستمر عن السودان، بلغ 18 عامًا، وجدته قد أسس مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية. كنت أزوره في كل زيارة لي من الدوحة إلى الخرطوم، وأدهش من مقدراته الإدارية وصبره على العمل. كان الباقر يسكن في الطابق الثاني من مبنى المركز، لا يفصل بين غرفته ومكتبه سوى جدار. ويمكن أن يلخص المرء حياته في تلك الأيام بأنها انتقالات متكررة بين سرير نومه وكرسيه في مكتبه المجاور لغرفته، الذي كان يجلس عليه، أحيان كثيرة، لأكثر من اثنتي عشر ساعة في اليوم.
تأسس مركز الخاتم عدلان في يوليو 2007م وتم إغلاقه ومصادرة أصوله بواسطة مفوضية العون الإنساني في 31 ديسمبر 2012. وقد ظل المركز منخرطًا عبر سنواته الخمس تلك في صراع لا يتوقف مع مفوضية العون الإنساني التي يهيمن عليها جهاز الأمن الكيزاني. كانت تلك الفترة هي فترة ما بعد اتفاقية نيفاشا. وكان على السلطات أن تبدي مرونة تجاه حرية الرأي وإفساح المجال لأنشطة المجتمع المدني المختلفة. لكنها كانت تمنح المساحة باليد اليمنى، ثم لا تلبث أن تقلصها باليد اليسرى, فالكيزان، كما هو دأبهم، لا يخشون شيئًا مثلما يخشون مناخ الحرية والديمقراطية وحيوية المجتمع المدني. لقد كان المركز في سنواته الخمس تلك شعلة من النشاط لا تهدأ أبدًا. فقد أجرى العديد من الدورات التدريبية للشباب من الجنسين في مختلف جوانب بناء القدرات. كما أقيمت فيه الندوات في مختلف المواضيع، إلى جانب العروض الموسيقية. أيضًا، أسس المركز ناديًا للسينما، كما شرع في إصدار الكتب. تزايد الإقبال على المركز، الأمر الذي أزعج السلطات. باختصار، حرك المركز ركود المجال العام، وركود المجال العام حالة يعشقها الكيزان ويعملون على خلقها واستدامتها. لذلك، ما أن انتهت الفترة الانتقالية، وانفصل الجنوب، سعوا عبر عديد المسوغات الواهية إلى إغلاقه. فكان الإغلاق وكان الانتقال إلى يوغندة. (يتواصل الأسبوع المقبل).
الوسومالأستاذ محمود محمد طه الباقر العفيف الواجب المباشر د. النور حمد مركز الخاتم عدلان مناقبالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الأستاذ محمود محمد طه الباقر العفيف الواجب المباشر د النور حمد مركز الخاتم عدلان مناقب
إقرأ أيضاً:
رئيس الأركان الإيراني: مستعدون للتفاوض غير المباشر وسنرد على كل تهديد
أوضح رئيس أركان القوات الإيرانية اللواء محمد باقري أن المرشد الأعلى علي خامنئي أكد أن طهران لن تتفاوض بشكل مباشر مع أميركا، لكن لا مانع من تفاوض غير مباشر.
وقال باقري "لسنا دعاة حرب ولا ننوي بدءها، لكننا سنرد على التهديدات بكامل قوتنا"، مضيفا "أكدنا بالرد على رسالة (الرئيس الأميركي دونالد) ترامب أننا نريد استقرار المنطقة ولا نسعى لامتلاك سلاح نووي".
في السياق ذاته، قال مسؤول إيراني كبير إن بلاده تعارض مطالب أميركية بعقد مفاوضات مباشرة بشأن برنامجها النووي أو التعرض للقصف..
ورغم رفض إيران لطلب الرئيس الأميركي إجراء محادثات مباشرة، قال المسؤول الإيراني لرويترز بعد أن طلب عدم ذكر اسمه إن طهران تريد مواصلة المفاوضات غير المباشرة عبر سلطنة عمان، وهي قناة تواصل بين الدولتين منذ فترة طويلة.
وأضاف المسؤول "المحادثات غير المباشرة توفر فرصة لتقييم مدى جدية واشنطن بشأن الحل السياسي مع إيران".
وتابع قائلا إنه على الرغم من أن هذا المسار قد يكون "صعبا"، فإن مثل هذه المحادثات قد تبدأ قريبا إذا دعمت الرسائل الأميركية هذا المسار.
لا مفاوضات تحت التهديدوكان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أوضح أن بلاده مستعدة للتفاوض بشأن برنامجها النووي، لكنه أكد أنه لا معنى للمفاوضات المباشرة مع طرف يهدد باستخدام القوة.
إعلانوأوضح عراقجي أنهم ملتزمون بالدبلوماسية ومستعدون لاختبار المفاوضات غير المباشرة، وأن طهران "تتبع نهجا مسؤولا بشأن التطورات الدولية".
ولفت وزير الخارجية الإيراني إلى أن استعدادهم للتفاوض بشأن البرنامج النووي "على أساس منطق بناء الثقة مقابل رفع العقوبات، قائلا إن "برنامجنا النووي سلمي وسبق أن اتخذنا خطوات طوعية لبناء الثقة بشأن طبيعته" في الاتفاق النووي.
وفي 12 مارس/آذار الماضي، أفادت تقارير بتسليم الإمارات رسالة من ترامب إلى خامنئي، في حين ردت طهران على الرسالة عبر سلطنة عمان.
وفي مقابلة مع شبكة فوكس بيزنس، في مارس/آذار الماضي، ذكر ترامب أنه بعث رسالة إلى خامنئي قال فيها "آمل أن تتفاوضوا لأن دخولنا عسكريا سيكون شيئا مروعا".
في المقابل، توعد المرشد الإيراني علي خامنئي برد قوي على تهديدات الولايات المتحدة وإسرائيل بمهاجمة إيران.
وقال خلال خطبة صلاة عيد الفطر في طهران إن "واشنطن والكيان الصهيوني يهددان بمهاجمة إيران لكنهما سيتلقيان ردا قويا".
وتنفي إيران منذ فترة طويلة رغبتها في تطوير سلاح نووي، غير أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة حذرت من أن طهران تسرع وتيرة تخصيب اليورانيوم "بشكل كبير" إلى درجة نقاء تصل إلى 60%، أي ما يقارب مستوى 90% اللازم لصنع الأسلحة.
وتقول دول غربية إن ليس هناك حاجة لتخصيب اليورانيوم إلى هذا المستوى المرتفع في أي برنامج مدني، ولم يسبق لأي دولة أخرى أن فعلت ذلك دون إنتاج قنابل نووية.