ستارغيت وديب سيك.. ترامب يعيد إنتاج حرب النجوم ضد الصين
تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT
لا تزال الصين تبهر العالم بإنجازاتها المتسارعة، لا سيما في المجال التكنولوجي، حيث فرض نموذج الذكاء الاصطناعي الجديد "ديب سيك" (Deep Seek) نفسه بقوة على الساحة، ليصبح حديث الأوساط التقنية خلال الأيام الماضية.
ولم يمر هذا النموذج مرور الكرام، بل شكّل تحديًا حقيقيًا لنظيره الأميركي "شات جي بي تي" (Chat GPT)، مما وضع الأخير في موقف حرج أمام المنافسة المتصاعدة.
ورغم أنه من غير الدقيق القول بأن النموذج الصيني قد تفوّق تمامًا على نظيره الأميركي أو أنهى هيمنته، فإن ديب سيك قدّم أداءً استثنائيًا أثار الإعجاب، سواء من حيث الكفاءة أو السرعة التي دخل بها إلى المشهد العالمي، وهو ما يحمل إشارة واضحة إلى التحولات الكبرى التي يشهدها قطاع الذكاء الاصطناعي.
إن أصداء النموذج الصيني الجديد وما أثاره من جلبة وتخوفات وقلق على مستوى صناع القرار والأسواق يعتبر تنبيها عالي الصوت بأن التكنولوجيا، وخصوصا تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ليس مجرد لاعبا في المقاعد الخلفية، بل رأس حربة في الصراع بين الولايات المتحدة والصين.
فقبل أيام، كشفت إدارة الرئيس ترامب عن إستراتيجية جديدة في التنافس مع الصين تحت اسم "مشروع ستارغيت" (Star Gate)، بهدف الحفاظ على الهيمنة التكنولوجية الأميركية وإعاقة تقدّم الصين نحو الصدارة.
واللافت أن اختيار الاسم يحمل في طياته إشارة تاريخية عميقة، إذ يعيد إلى الأذهان إستراتيجية "حرب النجوم" (Star Wars) التي أطلقتها إدارة الرئيس رونالد ريغان قبل نحو 4 عقود، في إطار المواجهة التكنولوجية مع الاتحاد السوفياتي لتحقيق التفوق في الفضاء الخارجي.
إعلانيتكرر المشهد اليوم، وإن اختلفت الأطراف والأدوات والسياقات، إلا أن جوهر الصراع لم يتغير: إنه سباق على الهيمنة. الفرق الجوهري هذه المرة أن المنافسة لم تعد محصورة في الفضاء الجغرافي أو العسكري، بل أصبحت تدور حول التكنو-سياسة، حيث تُرسم معادلات القوة العالمية من خلال التفوق التكنولوجي، وليس عبر الجيو-سياسة التقليدية التي سادت في الماضي.
على عكس الاتحاد السوفياتي الذي كان يعيش حالة من الإنهاك الاقتصادي في نهاية سبعينيات القرن الـ20، تتمتع الصين اليوم بالرشاقة الاقتصادية والخفة التكنولوجية، ولم تعد الصين تلك الآلة التي تعمل على التقليد وحسب، بل أصبحت رائدة في عمليات الابتكار، والتحايل على التقيدات الأميركية والغربية لتحقيق إنجازات تكنولوجية غير مسبوقة.
في ظل الهيمنة الأميركية على صناعة معالجات الذكاء الاصطناعي، التي تسيطر عليها شركات مثل "إنفيديا" (Nvidia)، واجهت الصين تحديًا كبيرًا في تطوير نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة، خصوصًا مع القيود الصارمة التي فرضتها واشنطن لمنع تصدير هذه الشرائح إلى الشركات الصينية، مما شكّل عقبة رئيسية أمام طموحاتها التكنولوجية.
معادلة معقدةيتطلب تطوير نماذج ذكاء اصطناعي قوية كميات هائلة من الشرائح المتقدمة أي وحدات معالجة الرسومات (GPUs) من قبيل "إنفيديا H100″، وهي شرائح تتحكم فيها شركات أميركية تخضع لقيود التصدير، ومع ذلك، لم تكن هذه العقبة كافية لوقف التقدم الصيني.
فقد حصلت الشركات الصينية على كمية محدودة للغاية من هذه الشرائح، لكنها عوّضت ذلك بابتكار تقنيات تدريب ثورية مثل تقنيات التكميم (Quantization) والتقطيع التدريجي (Sparse Training)، مما قلل من استهلاك الذاكرة والطاقة دون التضحية بجودة النموذج، مما جعل نماذجها أكثر كفاءة بأضعاف المرات، حيث استخدمت 1% فقط من الموارد التي تعتمد عليها شركات كبرى مثل "أوبن إيه آي" (Open AI) ومايكروسوفت وغوغل.
إعلانالمفاجأة الكبرى لم تكن فقط في قدرة الصين على تطوير هذه النماذج، بل في النهج الذي تبنّته بعد تحقيق هذا الاختراق. بدلا من احتكار التكنولوجيا، قررت الشركات الصينية إتاحة هذه النماذج كمصدر مفتوح، مما يعني أن أي جهة، سواء كانت أكاديمية أو صناعية، باتت قادرة على استخدام هذه التقنيات دون قيود.
وضع هذا التحول شركات مثل "أوبن إيه آي" أمام تحدٍّ حقيقي، حيث بات هناك بديل مجاني وأكثر كفاءة متاحًا للجميع، مما قد يؤدي إلى إعادة تقييم القيمة السوقية للنماذج المغلقة التي تعتمد عليها شركات التكنولوجيا الكبرى.
ولذلك لم يكن مستغربا أن يفقد سوق التكنولوجيا في الولايات المتحدة ما يقرب من تريليوني دولار من قيمته السوقية، تكبدت شركة إنفيديا لوحدها خسارة قدرت بنحو نصف مليار دولار.
وبدلا من المليارات التي صرفت على تدريب نماذج مثل شات جي بي تي، استطاعت الشركة الصينية المشغلة لنموذج ديب سيك تدريبه بكلفة 6 ملايين فقط أي بنسبة تعادل 1/1000 مقاربة مع شركة "أوبن إيه آي".
الهيمنة التكنو-سياسيةمنذ القدم، لم يكن التنافس بين القوى العظمى مقتصرًا على المواجهات العسكرية أو سباقات التسلح التقليدية، بل كان في جوهره سباقًا نحو امتلاك القدرة على تحديد ملامح المستقبل، وهي ملاح لا يحددها شيء مثل امتلاك أحدث الأدوات التي توصلت إليها التكنولوجيات الحديثة.
فمنذ الإمبراطورية العثمانية التي استطاعت فتح القسطنطينية بامتلاكها تكنولوجيا المدافع العملاقة، إلى الإمبراطورية البريطانية التي سيطرت على التجارة العالمية من خلال أسطولها البحري، إلى سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، الذي بلغ ذروته في هبوط الإنسان على القمر عام 1969، كانت القوى العظمى تسعى دائمًا إلى تحقيق التفوق التكنولوجي كوسيلة لضمان الهيمنة على النظام الدولي.
اليوم، يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل هذا الصراع، محوّلًا مراكز القوة من الجغرافيا العسكرية إلى السيادة الرقمية، وفي القرن الـ21، اكتسب هذا التنافس طابعًا أكثر تعقيدًا، حيث أصبحت التكنولوجيا المتقدمة، وتحديدًا الذكاء الاصطناعي، العامل الحاسم في إعادة تشكيل ميزان القوى الدولي.
إعلانفمشروع ستارغيت، الذي أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يعد تجسيدًا لهذه الديناميكية الجديدة، إذ لا يُختزل في كونه استثمارًا هائلًا بقيمة نصف تريليون دولار، بل يمثل رهانًا إستراتيجيًا على الهيمنة التكنولوجية.
فإلى جانب الأهداف الاقتصادية المعلنة بتوفير ما يقرب من 100 ألف وظيفة، يتبلور المشروع حول كونه خطوة جيوسياسية بنكهة تكنولوجية تهدف إلى تأمين التفوق الأميركي في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي في ظل التطور الكبير التي تحرزه الصين في هذا المجال.
فمن خلال توظيف قدرات "أوبن إيه آي" البحثية، وإمبراطورية "أوراكل" السحابية، وخزينة "سوفت بنك" المالية -مع دعم حاسم من صندوق (إم جي إكس)- تسعى إدارة الرئيس ترامب إلى تسليح الذكاء الاصطناعي، والدفع به إلى صدارة التنافس مع الصين، والهدف باختصار هو: إبقاء الولايات المتحدة في ريادة الهيمنة التكنولوجية.
يتجاوز مشروع ستارغيت كونه مجرد مشروع بنية تحتية للذكاء الاصطناعي، بل يعكس تحوّلًا جوهريًا في طبيعة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين.
فبينما اعتمدت واشنطن في الثمانينيات إستراتيجية الاستنزاف الاقتصادي ضد الاتحاد السوفياتي عبر مبادرة "حرب النجوم"، يبدو أن المعادلة تتكرر اليوم، لكن بأساليب أكثر تطورًا، تحكمها إكراهات السرعة من ناحية، والعولمة من ناحية ثانية، وهو الأمر الذي يجعل من سياسات الاحتواء غير ممكنة مما أجبر واشنطن على اتباع أساليب أخرى من قبيل تثبيط التقدم الصيني عبر سياسة الحرمان (أي حرمان الصين من الوصول إلى موارد التكنولوجيا مثل أشباه الموصلات الدقيقة).
يدفع هذا المشروع بكين، بطبيعة الحال، إلى سباق تسلّح رقمي قد يُفضي إلى استنزاف مواردها، أو على العكس، قد يمهّد الطريق أمام اختراقات تكنولوجية غير مسبوقة، لكن الصين تختلف جوهريًا عن الاتحاد السوفياتي، الذي اعتمد نموذجًا اقتصاديًا مركزيًا اتسم بالجمود وسوء الإدارة.
إعلانفي المقابل، تتبنى بكين نموذجًا اقتصاديًا مرنًا قائمًا على الابتكار المدعوم مركزيًا، أو ما يُعرف بـرأسمالية الدولة، حيث يتكامل التوجيه الحكومي مع ديناميكيات السوق، مما يمنحها قدرة أكبر على تحويل التحديات إلى فرص إستراتيجية.
ولكن يبقى السؤال مطروحا هنا: هل سيكون مشروع ستارغيت أداة فعالة لإحكام قبضة واشنطن على المستقبل الرقمي؟ أم أنه سيؤدي إلى تسريع تفكك النظام العالمي القائم؟ حيث تبرز قوى جديدة قادرة على كسر احتكار التكنولوجيا، وهل نحن على مشارف نظام عالمي جديد خصوصا في ظل السرعة والقوة التي تتمتع بها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؟
إن الأهمية الإستراتيجية في سباق التسلح الرقمي بين الولايات المتحدة والصين تتجلى في كونها ليست مجرد خطوة في تعزيز الهيمنة في قطاع ما على حساب قطاعات أخرى. بل هي انعكاس لتحول جوهري في طبيعة الصراع الجيوسياسي وانتقاله من المجال العسكري البحت إلى ميادين السيطرة على البيانات والخوارزميات.
فمن يمتلك القدرة على تطوير الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدمًا، لن يقتصر نفوذه على القطاع التكنولوجي، بل سيمتد إلى الاقتصاد العالمي، والتخطيط العسكري، والحوكمة الرقمية.
فالصين، التي استثمرت بشكل مكثف في مجال الذكاء الاصطناعي خلال العقد الماضي، قد تعتبر مشروع ستارغيت بمثابة محاولة أميركية لتطويقها والحد من طموحاتها التكنولوجية، مما يفرض عليها إعادة صياغة إستراتيجياتها للرد على هذا التحدي.
ما يجري اليوم يتجاوز كونه مجرد تنافس تقني، إنه إعادة تشكيل عميقة للنظام العالمي، حيث لم يعد التفوق العسكري وحده الضامن الأساسي للهيمنة، بل أصبحت القدرات الحاسوبية والبيانات الضخمة الأدوات الحقيقية للنفوذ في القرن الـ21.
إعلانإن مشروع ستارغيت ليس مجرد استثمار ضخم، بل معادلة إستراتيجية من شأنها إعادة رسم موازين القوى وفتح الباب أمام سباق عالمي جديد للسيادة التكنولوجية. بالنسبة للولايات المتحدة، يمثل هذا المشروع اختبارًا للحفاظ على صدارتها العالمية، بينما تسعى الصين إلى إثبات قدرتها على المنافسة والتحدي.
ورغم أن احتمال تحوّل هذا التنافس إلى صدام عسكري مباشر لا يزال ضعيفًا لكنه قائم، فإن آثاره على المستخدمين قد تكون أكثر فورية وملموسة، خاصة مع تصاعد الهجمات السيبرانية.
وقد شهدنا قبل أيام توقف ديب سيك عن العمل لساعات قبل أن يعود مجددًا، وكذلك حدث مع شات جي بي تي.
ورغم أن الأسباب الحقيقية لهذه الأعطال لا تزال غير واضحة، إلا أن فرضية الهجمات السيبرانية المتبادلة بين الجانبين تبقى واردة. إلى أين ستقودنا هذه المنافسة التكنولوجية؟ لا أحد يعلم يقينًا، لكن المؤكد أن العالم يترقب، والمستقبل يُعاد تشكيله أمام أعيننا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات بین الولایات المتحدة والصین الاتحاد السوفیاتی الذکاء الاصطناعی مشروع ستارغیت شات جی بی تی أوبن إیه آی فی طبیعة دیب سیک سباق ا
إقرأ أيضاً:
الشراكات الدولية وتعزيز الريادة الإماراتية في الذكاء الاصطناعي
تُعد دولة الإمارات العربية المتحدة واحدة من أبرز الدول الرائدة في تبني وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، حيث تسعى بخطى ثابتة إلى تعزيز مكانتها كمركز عالمي للابتكار والتكنولوجيا. وتؤدي الشراكات الاستراتيجية الدولية دوراً محورياً في تحقيق أهدافها الطموحة في هذا المجال، حيث أدركت الدولة أهمية التعاون مع الجهات الدولية الفاعلة، بما في ذلك الشركات التكنولوجية العملاقة، والجامعات المرموقة، والمراكز البحثية المتخصصة، لدفع عجلة التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، جاء الإعلان عن توقيع “إطار العمل الإماراتي الفرنسي للتعاون في مجال الذكاء الاصطناعي” والذي تم توقيعه خلال زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة “حفظه الله”، لفرنسا يوم 6 فبراير 2025، قبل قمة الذكاء الاصطناعي التي عُقدت في باريس يومي 10 و11 من الشهر نفسه بمشاركة نحو 100 دولة، للتركيز على إمكانات الذكاء الاصطناعي. ويناقش هذا المقال الجهود الإماراتية لتعزيز شراكاتها في مجال الذكاء الاصطناعي، وتأثيرها في رؤية الدولة للريادة في هذا المجال.
شراكة مع فرنسا:
يرسم “إطار العمل الإماراتي الفرنسي للتعاون في مجال الذكاء الاصطناعي” مساراً واعداً لتعزيز التعاون بين دولة الإمارات وفرنسا في هذا المجال الحيوي الذي سيُعيد تشكيل العالم في السنوات المقبلة. وينص هذا الاتفاق الإطاري على التعاون بين البلدين في العديد من مجالات العمل المشترك في الذكاء الاصطناعي، ومن ذلك التخطيط لاستثمار ما بين 30 إلى 50 مليار يورو في إنشاء مجمع للذكاء الاصطناعي بسعة 1 غيغاوات في فرنسا، ومن المُقرر أن يتكون هذا المجمع من 35 مركزاً لتجميع معلومات وتأمين قدرات حوسبة هائلة يتطلبها الذكاء الاصطناعي. كما ينص على بناء شراكة استراتيجية في مجال الذكاء الاصطناعي واستكشاف فرص جديدة للتعاون في المشروعات والاستثمارات التي تدعم استخدام الرقائق المتطورة والبنية التحتية لمراكز البيانات وتنمية الكوادر، إضافة إلى إنشاء “سفارات بيانات افتراضية” لتمكين البنية التحتية للذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية في كلا البلدين.
ويأتي هذا التعاون في إطار توسع دولة الإمارات في قطاع الذكاء الاصطناعي، وبصفة خاصة في إنشاء وتطوير مراكز البيانات، حيث تستثمر بالفعل في مشروعات ضخمة مثل مشروع “ستار غيت” لإنشاء مراكز بيانات في الولايات المتحدة، ويحظى هذا المجال تحديداً باهتمام خاص بالنظر إلى أن مراكز البيانات تمثل الوقود الذي تحتاجه عملية تطوير الذكاء الاصطناعي.
وستخدم هذه الشراكة المصالح الإماراتية الفرنسية، حيث إن بناء مجمع للذكاء الاصطناعي في فرنسا سيساعد على جمع بيانات أكثر ومعالجتها بشكل دقيق؛ ومن ثم تسخيرها في تطوير وتعليم برامج الذكاء الاصطناعي، وهو أمر يعزز مكانة ودور البلدين في هذا المجال ويسهم في جعل تقنيات الذكاء الاصطناعي متاحة لمزيد من الدول، فضلاً عن خلق برامج ذكاء صناعي تحترم المواثيق الدولية والأوروبية.
كما توفر الشراكة الإماراتية الفرنسية في مجال الذكاء الاصطناعي دفعة قوية لتطوير البنية التحتية الرقمية في البلدين، حيث يستفيد كل منهما من الاستثمارات الضخمة لإنشاء مجمعات متطورة للذكاء الاصطناعي؛ مما يعزز قدرتها على معالجة البيانات الضخمة وتطوير تقنيات الحوسبة السحابية. ويتيح الاتفاق أيضاً تبادل الخبرات مع باريس، خصوصاً في مجالات الرقائق المتقدمة ومراكز البيانات؛ مما يسهم في تسريع تبني حلول الذكاء الاصطناعي وتحقيق تقدم استراتيجي في القطاعات الحيوية. إضافة إلى ذلك، يعزز الاتفاق تنمية الكوادر الإماراتية؛ مما يدعم تنشئة جيل جديد من المتخصصين في الذكاء الاصطناعي، ويعزز مكانة الإمارات كمركز عالمي رائد في هذا المجال.
وتعكس هذه الخطوة التزام دولة الإمارات بتنويع اقتصادها وتعزيز مكانتها كمركز عالمي للذكاء الاصطناعي. فيما تسعى فرنسا إلى ترسيخ مكانتها في هذا المجال بالرغم من التحديات التي تواجهها في منافسة الشركات الأمريكية والصينية. وقد أكدت الرئاسة الفرنسية أن نطاق الأنشطة وحجم تطوير البنية التحتية المقررة في إطار اتفاقية الإطار للتعاون في مجال الذكاء الاصطناعي بين فرنسا ودولة الإمارات، يوضح ثراء وديناميكية العلاقة بين البلدين، ويضع فرنسا في موقع رائد في مجال الذكاء الاصطناعي في أوروبا، مشيرة إلى أن الزعيمين اتفقا على مراقبة تطور مشروعات التعاون المختلفة في مجال الذكاء الاصطناعي عن كثب في الأشهر المقبلة.
شراكة مع الولايات المتحدة:
تُعد الشراكة بين دولة الإمارات والولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي الأهم في هذا المجال، حيث شهد التعاون بين البلدين تنامياً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، في ضوء التفوق الأمريكي في هذا المجال. وشكلت زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة “حفظه الله”، إلى الولايات المتحدة في سبتمبر 2024، تتويجاً لهذا التطور المتنامي بين البلدين في مجال الذكاء الاصطناعي.
وخلال العامين الأخيرين، تم توقيع العديد من اتفاقيات الشراكة والاستثمار بين البلدين في المجال التكنولوجي والذكاء الاصطناعي. ففي ديسمبر 2024، أعلنت حكومة الإمارات عن شراكة استراتيجية مع شركة “يو آي باث” (UiPath)، التي يقع مقرها الرئيسي في نيويورك والمتخصصة في مجال الأتمتة المؤسسية والذكاء الاصطناعي، لتعزيز حلول “الأتمتة الوكيلة” – النهج المبتكر للأتمتة القائمة على الذكاء الاصطناعي. وتهدف هذه الاتفاقية إلى تطوير الأتمتة الذكية، وتدريب الكوادر الإماراتية بمهارات متقدمة. كما تشمل تنفيذ مشروعات تجريبية وورش عمل لتعزيز وعي الجهات الحكومية بفوائد الذكاء الاصطناعي، وبما يتماشى مع رؤية الحكومة لأن تصبح دولة الإمارات رائدة عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2031.
وفي سبتمبر الماضي، وقّعت دولة الإمارات ثلاث اتفاقيات ضخمة في قطاع الذكاء الاصطناعي، شملت “اتفاقية الشراكة العالمية للاستثمار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي” باستثمارات ستصل إلى 100 مليار دولار، وقّعتها شركة “إم جي إكس” (MGX) الإماراتية وشركات “بلاك روك” و”غلوبال إنفراستركتشر بارتنرز” و”مايكروسوفت”، إلى جانب اتفاقية بين شركة “جي 42” (G42) وشركة “مايكروسوفت” لتأسيس مركزين للأبحاث في أبوظبي لدعم قطاع الذكاء الاصطناعي المسؤول، واتفاقية أخرى بين “جي 42″ و”إنفيديا” لتأسيس مركز عمليات جديد ومختبر للمناخ التقني في أبوظبي؛ لتطوير التكنولوجيا المناخية وتحسين توقعات الطقس والمناخ لمساعدة ملايين البشر على الاستعداد للظواهر المناخية والكوارث الطبيعية قبل حدوثها.
وفي يونيو 2024، وقعت شركة “وورلد وايد تكنولوجي” (World Wide Technology)، وهي شركة تكامل تكنولوجي رائدة مقرها الولايات المتحدة، اتفاقية استراتيجية مع (NXT Global)، لإنشاء وتطوير أول مركز تكامل للذكاء الاصطناعي في مدينة مصدر بدولة الإمارات، الذي سيكون أحد أكثر التطورات الحضرية استدامة في العالم.
كما أعلنت “مايكروسوفت” و”جي 42″، في مايو الماضي، عن مجموعة واسعة من الاستثمارات في مجال التكنولوجيا الرقمية في كينيا، وجاءت هذه الخطوة كجزء من مبادرة بالتعاون مع وزارة المعلومات والاتصالات والاقتصاد الرقمي في جمهورية كينيا، حيث تقود “جي 42″، في إطار شراكة مع “مايكروسوفت” وشركاء رئيسيين عدة، مبادرة طموحة لضخ استثمارات تصل إلى مليار دولار، وتهدف هذه الاستثمارات إلى تنفيذ مشروعات رئيسية ضمن حزمة شاملة من الاستثمارات تشمل إنشاء مركز بيانات بيئي متطور في كينيا، والذي ستشرف على بنائه شركة “جي 42” وشركاؤها من أجل تشغيل خدمات “مايكروسوفت أزور” ضمن منطقة سحابية جديدة تخدم شرق إفريقيا. وفي إبريل الماضي، أعلنت “مايكروسوفت” عن استثمار استراتيجي بقيمة 1.5 مليار دولار في شركة “جي 42″؛ مما يعزز التعاون المتزايد في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا.
وبالإضافة إلى الولايات المتحدة وفرنسا، تصدر ملف الذكاء الاصطناعي أجندة التعاون والشراكات الإماراتية مع مختلف دول العالم مثل الصين والمملكة المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها.
تعزيز ريادة الإمارات:
يُشكل بناء الشراكات الدولية جزءاً رئيسياً في استراتيجية دولة الإمارات لتعزيز ريادتها في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تسعى الدولة من خلال هذه الشراكات إلى تطوير حلول مبتكرة تعالج التحديات المحلية والعالمية، وتعزز كفاءة القطاعات الحيوية مثل الصحة، والتعليم، والطاقة، والنقل، فضلاً عن تعزيز اقتصادها القائم على المعرفة والابتكار، والاستفادة منها في جذب الخبرات الدولية، وتدريب وتأهيل الكوادر الوطنية في هذا المجال المهم.
وتخدم الشراكات الدولية بصورة خاصة تحقيق مختلف أهداف استراتيجية دولة الإمارات للذكاء الاصطناعي، والتي تستهدف أن تصبح الدولة رائدة عالمياً في توظيف الذكاء الاصطناعي بنسبة 100% بحلول عام 2031 في مختلف الخدمات وتحليل البيانات؛ مما يعزز الإنتاجية ويخفض التكاليف التشغيلية. وتشمل هذه الأهداف أن تكون حكومة الإمارات الأولى عالمياً في استثمار الذكاء الاصطناعي بمختلف قطاعاتها الحيوية وخلق سوق جديدة واعدة في المنطقة ذات قيمة اقتصادية عالية، ودعم مبادرات القطاع الخاص وزيادة الإنتاجية، إضافة إلى بناء قاعدة قوية في مجال البحث والتطوير، بجانب استثمار أحدث تقنيات وأدوات الذكاء الاصطناعي وتطبيقها في شتى ميادين العمل بكفاءة رفيعة المستوى واستثمار كل الطاقات على النحو الأمثل، واستغلال الموارد والإمكانات البشرية والمادية المتوفرة بطريقة خلاقة.
وكان لهذه الشراكات، ضمن الرؤية الشاملة لدولة الإمارات، دورها في تعزيز ريادة الدولة في هذا الملف، حيث أصبحت الإمارات من أكثر الدول جذباً للمهارات المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، مع زيادة عدد المتخصصين في هذا المجال بنحو 40% منذ عام 2022. كما أحرزت الدولة مركزاً ريادياً ضمن قائمة أفضل 10 دول عالمياً، من حيث عدد شركات الذكاء الاصطناعي لكل مليون نسمة، وذلك وفقاً لمؤشر تنافسية الذكاء الاصطناعي العالمي الصادر عن المنتدى المالي الدولي “آي إف إف” (IFF) ومجموعة المعرفة العميقة.
خلاصة الأمر، تواصل دولة الإمارات ترسيخ مكانتها كمركز عالمي للذكاء الاصطناعي، مستندة إلى رؤية طموحة تدعم الابتكار والتطوير المُستدام. ومن خلال استراتيجيتها الوطنية وشراكاتها الدولية الكبيرة، تفتح الدولة آفاقاً جديدة للاستثمار والتنافسية، مع التركيز على تنمية المواهب والبنية التحتية المتقدمة. وبالرغم من التحديات، يبقى التزام دولة الإمارات بتطوير التشريعات وتعزيز الاستدامة عاملاً رئيسياً في ريادتها؛ مما يجعلها نموذجاً يُحتذى به في مستقبل الذكاء الاصطناعي.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”