المثقف بين الفاعلية والتنظير: مأزق الفعل المؤجل
تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT
إبراهيم برسي
هناك لحظةٌ فارقة في مسيرة المثقف، لحظةٌ لا تأتي دفعةً واحدة، بل تتسلل عبر الزمن، عبر الهزائم الصغيرة والانتصارات المؤجلة، عبر الصمت الذي يتراكم حوله، حتى يجد نفسه أمام سؤالٍ لا فكاك منه: هل أنا جزءٌ من الفعل، أم مجرد شاهدٍ على أطلاله؟ هل أنا منتجٌ للمعرفة، أم مُجرّد مستهلكٍ لسردياتٍ لا تغيّر من مواضع السلطة شيئًا؟
إن المثقف ليس مجرد حامل أفكار، بل هو حاملٌ لقلقٍ دائم، لوعيٍ مفتوحٍ على الأسئلة التي لا تنتهي.
لقد كتب إدغار موران، وهو أحد أكثر العقول النقدية حدّة في عصرنا، أن: “الفكر الذي لا يربط بين الأشياء لا يرى شيئًا.” هنا تنكشف أزمة المثقف المعاصر: إنه يملك القدرة على تفكيك الظواهر، لكنه يعجز عن إعادة تركيبها، يملك المهارة في تحليل الأنساق، لكنه لا يستطيع صياغة رؤية بديلة. إنه عالق في حالةٍ من “الوعي المتشظي”، حيث يُصبح النقد فعلًا مغلقًا، يُعيد إنتاج نفسه بلا أفقٍ للفعل.
وفي ظل هذه الأزمة، يبدو أن المثقف قد تحوّل من كيانٍ مؤثر إلى شاهدٍ مأزوم، يتنقل بين تأمل الواقع وتحليل انسداداته، لكنه نادرًا ما يتجاوز تلك المرحلة إلى إعادة تشكيله. إنه يعيش في مساحةٍ بينية، حيث المعرفة موجودة، لكن الفعل مؤجلٌ إلى أجلٍ غير معلوم.
لم يكن هذا حال المثقف دائمًا. فقد ظلّ، عبر التاريخ، في موضع المسافة الحرجة بين السلطة والجماهير، بين الأفكار وصُنّاع القرار، بين المعرفة وضرورات الفعل.
في العصور القديمة، كان الفيلسوف هو مرآة المدينة، كما في حالة أفلاطون وأرسطو. أما في العصور الحديثة، فقد أصبح المثقف شاهدًا على ولادة الدول القومية، ومهندسًا للأيديولوجيات التي صنعت العالم الحديث.
لكن أين يقف اليوم؟
غير أن المثقف، في هذا الزمن المُعلّق بين ما بعد الحداثة وما بعد الحقيقة، لم يعد حتى ذلك الفاعل المتردد بين الفكرة والممارسة، بل أصبح ذاته كيانًا مأزومًا، مُستهلكًا داخل دوائر التنظير، مهووسًا بتفكيك كل شيء حتى لم يَعُد يملك شيئًا يقف عليه.
إن ما بعد الحداثة، وهي مشروعٌ هائلٌ من الشك، لم تُنتج سوى تفكيكٍ لا بناء بعده، تفكيرٍ لا ينتهي إلى الفعل، ووعيٍ يتآكل تحت وطأة احتمالاتٍ لا تُحسم.
لقد صار المثقف، في عصر الاستعراض الدائم، كيانًا مفتوحًا للفرجة أكثر منه فاعلًا في التغيير. تحوّل إلى مُحلّلٍ للأحداث لا صانع لها، إلى ناقدٍ مستهلكٍ في محافل الأكاديميا، إلى شاهدٍ يُفكّك السرديات لكنه لا يجرؤ على صناعة سردية بديلة.
لقد تم تدجينه داخل آليات صناعة الرأي، داخل مؤسساتٍ تُعيد إنتاج النقد كسلعة، داخل شبكاتٍ يُصبح فيها الخطاب ذاته جزءًا من السوق، من آليات الامتصاص التي تُفرغ الفكرة من قدرتها على الصدمة.
وهكذا، يبدو المثقف محاصرًا بين خيارين متناقضين: إما أن يصبح جزءًا من المؤسسة، فيفقد استقلاله، أو أن يبقى على الهامش، فيفقد تأثيره.
فالسلطة لم تَعُد تكتفي بإسكات المثقف، بل امتصت دوره، جعلته جزءًا من بنيتها الرمزية، قدّمت له منابر يظن أنها مساحاتٌ حرة، لكنها في الحقيقة ليست سوى غرفٍ مُغلقة، تُعيد تدوير الخطاب في دوائر لا تنتهي.
ولكن، في عصرٍ يختزل كل شيء إلى صورة، إلى جملةٍ قصيرة، إلى رأيٍ عابر على منصةٍ افتراضية، هل لا يزال هناك متسعٌ للعمق؟ هل لا يزال المثقف قادرًا على ممارسة دوره خارج الاستعراض، خارج الشبكات التي تُعيد إنتاج كل شيءٍ في قالبٍ يمكن استهلاكه سريعًا؟
أم أن الفكر النقدي قد أصبح بدوره أسيرًا لهذا التدفق السريع، عاجزًا عن التوقف طويلًا أمام أي شيء؟
إن الفاعلية لا تعني فقط الانخراط المباشر في الصراع، بل تعني أيضًا إعادة تشكيل الخيال السياسي، إعادة إنتاج الأفق الذي يجعل من التغيير ممكنًا.
ولكن، إذا كان المثقف قد تخلى عن هذه المهمة، إذا كان قد انزلق إلى موقع “المُفسّر” لا “المُحرّك”، فمن الذي سيتولى إعادة تشكيل العالم؟
هل ستكون الجماهير وحدها قادرةً على ذلك؟
أم أن الجماهير، التي تستهلك الشعارات بدورها، ليست إلا انعكاسًا لعجز المثقف عن إنتاج رؤيةٍ واضحة؟
إن العالم لا ينتظر المثقف، ولا يتوقف عند تنظيراته. إن لم يُنتج أدواته الخاصة للتفاعل مع الواقع، فإن قوى أخرى ستملأ الفراغ، وستُعيد صياغة المشهد دون أن تأخذ رأيه بالحسبان.
إن المثقف، إن لم يكن فاعلًا، فهو ليس سوى ظلٍّ يتلاشى عند أول اختبارٍ للقوة.
في النهاية، ليس السؤال: هل يجب على المثقف أن يكون فاعلًا؟
بل السؤال الأهم: هل بقي للمثقف شيءٌ ليقوله لم يُستهلك بعد؟
وهل بقي للفكر النقدي قدرةٌ على تجاوز الصدى ليُصبح صرخة؟
أم أن الزمن قد تجاوز المُفكرين ليُصبح لعبةً تُحسم في الشارع، في السوق، في الإعلام، حيث لا مكان لمن يتردّد أو يفكّر طويلًا؟
إن الفارق بين الفاعلية والتنظير لم يَعُد مجرد خيار، بل أصبح معضلةً تخصّ وجود الفكر ذاته:
هل لا يزال الفكر قادرًا على التأثير، أم أن دوره قد انتهى ليُصبح فقط تعقيبًا هامشيًا على الأحداث؟
وهل انتهى زمن الأسئلة العميقة، ليبدأ عصرُ الإجابات السريعة؟
أم أن المثقف، حتى في عجزه، لا يزال يملك قوةً لم تُستنفد بعد، قوة السؤال الذي لم يجد جوابه بعد؟
Sent from Yahoo Mail for iPhone
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هل لا یزال عید إنتاج
إقرأ أيضاً:
ولد هشومة: من بائع الألبان إلى “صحفي” يبتز المسؤولين
في أحد أحياء المدينة الشعبية، حيث كان الأطفال يلهون في الأزقة الضيقة، بدأ “ولد هشومة” حياته المهنية كبائع ألبان متجول. كان يحمل صينية مليئة بالأكواب، ينادي بأعلى صوته، ويتجول بين الأزقة والشوارع بحثًا عن الزبائن. لم يكن يملك شهادة علمية ولا خبرة في أي مجال، لكنه كان طموحًا ويسعى إلى تحسين وضعه بأي طريقة ممكنة.
مع مرور الوقت، بدأ ولد هشومة يبحث عن فرصة جديدة تدر عليه دخلًا أكبر، فوجد ضالته في عالم الصحافة الإلكترونية، الذي أصبح مفتوحًا أمام كل من يحمل هاتفًا ذكياً وحسابًا على مواقع التواصل الاجتماعي. بدأ بإنشاء صفحة على الفيسبوك، وأخذ ينقل أخبار الحي بأسلوبه البسيط والعفوي، حتى أصبح معروفًا بين السكان المحليين.
لكن طموح ولد هشومة لم يتوقف عند هذا الحد، فسرعان ما بدأ في التوسع، حيث أدرك أن العمل الصحفي ليس مجرد نقل أخبار، بل فرصة للنفوذ وتحقيق المكاسب الشخصية. بدأ بالتقرب من المسؤولين المحليين، وعرض عليهم خدماته الإعلامية مقابل “إكراميات”، وأصبح يُسوّق لنفسه كصحفي يملك قدرة على التأثير في الرأي العام.
ومع مرور الوقت، تحول ولد هشومة إلى شخص لا يمكن الاستهانة به، فأصبح يهدد المسؤولين بنشر فضائحهم إن لم يستجيبوا لمطالبه، ويدعو لحضور ندوات ومؤتمرات فقط من أجل الحصول على وجبات فاخرة و”تعويضات” مغرية. أصبح وجوده في أي فعالية عبئًا على المنظمين، فهو لا يأتي لمتابعة الحدث بقدر ما يسعى إلى الظفر بجزء من الكعكة.
ورغم افتقاده لأي مؤهلات حقيقية في مجال الصحافة، إلا أن أسلوبه الهجومي، ولغته الشعبوية، وطرق ابتزازه غير المباشرة جعلت منه مصدر إزعاج حقيقي، سواء للمسؤولين أو للمؤسسات التي تتعرض لحملاته المستمرة.
يقول أحد زملائه السابقين: “لم يكن ولد هشومة يعرف الفرق بين التقرير والخبر، لكنه عرف جيدًا كيف يستغل الناس والأحداث لصالحه.”
تجربة ولد هشومة تعكس جانبًا مظلمًا من واقع الإعلام في بعض الأوساط، حيث تُستغل المنصات الإعلامية لتحقيق مكاسب شخصية على حساب أخلاقيات المهنة. وبينما يبقى الصحفي الحقيقي منشغلاً بالبحث عن الحقيقة ونقل الوقائع بمهنية، هناك من يحول الإعلام إلى تجارة مربحة ووسيلة للابتزاز.
يبقى السؤال المطروح: إلى متى سيظل أمثال ولد هشومة يستغلون ضعف الرقابة وغياب القوانين الرادعة لتحقيق مصالحهم الشخصية؟ ومتى ستتم محاسبة من يستخدمون الإعلام كوسيلة للضغط والابتزاز بدلًا من أداة لنقل الحقيقة وخدمة المجتمع؟