الأفضل أداء في أوروبا.. هل أنقذت الهجرة الاقتصاد الإسباني؟
تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT
ما نراه اليوم في إسبانيا، هو نمط النمو الأكثر توازنا في تاريخنا الحديث.
وزير الاقتصاد الإسباني كارلوس كويربو في حوار مع صحيفة بوليتيكو الأميركية نهاية عام 2024.قبل عشرة أعوام كانت إسبانيا مضرب الأمثال في الفشل الاقتصادي بحسب وصف مجلة إيكونوميست الاقتصادية البريطانية المرموقة، إثر تداعيات الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي عصفت بها بين عامي 2008 و2014، والتي عُرفت بـ"الركود الإسباني العظيم".
على إثر ذلك، انهار النظام المصرفي في البلاد، وارتفعت معدلات البطالة وتزايدت هجرة الشباب بسبب نقص الوظائف، وأكثر من ذلك صُنّفت إسبانيا في عام 2014 ثاني أكثر دولة أوروبية من حيث معاناة أطفالها من آثار الفقر بحسب مؤسسة "كاريتاس أوروبا" التنموية، بعدما أصبحت عشرات الآلاف من الأسر الإسبانية تكافح من أجل تأمين حاجات أطفالها اليومية، وقد ظلت عواقب تلك الأزمة المالية الكبيرة تلاحق الاقتصاد الإسباني لسنوات تاركة بصماتها الثقيلة عليه.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل معجزة إيطاليا الاقتصادية حقيقية أم أنها أرقام خادعة؟list 2 of 2من الفاشية إلى التحولات الجنسية.. البابا فرنسيس يقود الفاتيكان بين عهدينend of listلكن بعد عشر سنوات على تلك الأزمة اختلف المشهد كليا، وأصبحت البلاد مضرب الأمثال مجددا ولكن على نحو مختلف تماما، ففي ديسمبر/كانون الأول 2024 اختارت إيكونوميست مدريد أفضل دولة من ناحية الأداء الاقتصادي ضمن قائمة مكونة من 37 دولة غنية، استنادا إلى خمس مؤشرات اقتصادية رئيسية هي الناتج المحلي الإجمالي وأداء سوق الأسهم والتضخم الأساسي والبطالة ومستويات العجز الحكومي. ووفق تعبير إيكونوميست، أصبحت مدريد "موضع حسد العالم الغني".
إعلانلكن هذا التحول، العميق الدالّ بلا شك، لا يتعلق بإسبانيا وحدها، فاقتصادات جنوب أوروبا مثل إسبانيا واليونان وإيطاليا التي كانت أسماؤها مرادفًا للفشل الاقتصادي في السنوات الأخيرة مقارنة ببقية الدول المتقدمة، أصبحت الآن تحقق تقدمًا ملحوظًا في وقت تعاني فيه الاقتصادات المتصدرة تقليديًّا مثل ألمانيا.
بل إن إسبانيا بأدائها الاستثنائي هذا العام قد دفعت بعض المحللين إلى القول بأنها تقدم درسًا ينبغي أن تتعلم منه باقي اقتصادات أوروبا التي تظن أن القارة العجوز أصبحت محكوما عليها بالركود في الفترة الحالية، وأن إسبانيا تمثل "محرك النمو في أوروبا" في حين تمثل ألمانيا "رجل القارة المريض".
رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز (يمين) ورئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فون دير لاين (رويترز) الطفرة الإسبانية
بحسب بيانات المديرية العامة للمفوضية الأوروبية بلوكسومبورج (يورو ستات) المسؤولة عن جمع وتحليل المعلومات الإحصائية على الصعيد الأوروبي، نما الاقتصاد الإسباني بنسبة 3.4% من يوليو/تموز حتى سبتمبر/أيلول 2024، في وقت بلغ فيه متوسط النمو في منطقة اليورو لنفس الفترة 0.9% فقط.
أما معدل النمو الإجمالي لإسبانيا خلال عام 2024 كله فيتوقع أن يبلغ 2.9% ارتفاعا من 2.5% في عام 2023. هذا المعدل يتجاوز أربعة أضعاف معدلات النمو في إسبانيا خلال أعوام التعافي الاقتصادي بعد "الركود العظيم" في الفترة من 2014 إلى 2019، المقدر بـ0.7% تقريبا، كما يتخطى معظم توقعات النمو الصادرة قبل بداية العام، ومنها توقعات شركة الخدمات المالية في إسبانيا "كايكسا بنك" التي توقعت معدلات نمو تتراوح حول 1.4% فقط.
وبحسب مجلة فورتشن الأميركية المتخصصة في المال والأعمال فإن الاقتصاد الإسباني يسير على الطريق الصحيح للنمو بمعدل ثلاثة أضعاف منطقة اليورو كلها، بل ويتجاوز معدلات النمو في الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
إعلانلكن مؤشرات التعافي الاقتصادي الإسباني لا تقتصر على النمو فقط، فعلى صعيد معدلات البطالة، التي تعد أحد المشكلات الشديدة الوطأة في إسبانيا، حققت مدريد تقدما نسبيا بخفض البطالة إلى 11% مقارنة بـ13.8% في عام 2019 قبل جائحة كورونا، الذي عُدّ آنذاك المعدل الأكبر بين دول منطقة اليورو، وضعف متوسط معدل البطالة في الاتحاد الأوروبي بحسب صحيفة تيليغراف البريطانية.
ولا تزال إسبانيا صاحبة أعلى معدلات للبطالة في منطقة اليورو، متقدمة على اليونان والسويد وفنلندا بزيادة بنسبة 77% على متوسطات البطالة بين دول اليورو، لكن الخبر الجيد أن المعدلات تتناقص باستمرار منذ عام 2020، وأن نسبة البطالة الحالية هي الأدنى في البلاد منذ الأزمة الاقتصادية عام 2008.
ويعد نجاح مدريد على هذا الصعيد امتدادا للأداء الجيد لاقتصادات الدول المتوسطية في جنوب القارة، إذ شهدت المنطقة التي تعاني عادةً من ارتفاع مستويات البطالة تحسنًا وصفته ذا إيكونوميست بأنه ملحوظ في هذا الملف، بعدما انخفضت معدلات البطالة في اليونان وإيطاليا وإسبانيا إلى أدنى مستوياتها في السنوات العشر الأخيرة. وتبقى الصدارة في هذا المؤشر من نصيب إيطاليا التي انخفضت فيها نسبة البطالة بمعدل 1.4% في العام المنصرم لتصل إلى 5.7% فقط.
على جانب آخر، انخفضت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في إسبانيا من 120.3% عام 2020 إلى 107.7% بحلول 2024، وهو انخفاض أسرع بكثير من المتوسطات في الاقتصادات الأوروبية الكبرى، وأصبح العجز في إسبانيا في طريقه لكي يعادل نصف مستوى نظيره في فرنسا، ونتيجة لانخفاض الدين فقد انخفضت أسعار الفائدة على السندات الإسبانية (الفوائد التي تدفعها الحكومة للاقتراض من المستثمرين) لأدنى مستوى منذ ثلاث سنوات.
ساعدت الهجرة إسبانيا بشكل أساسي على سد النقص في العمالة في قطاعات مهمة مثل الزراعة والبناء (رويترز)وصلت إسبانيا إلى تلك النقطة، التي لم تكن متوقعة قبل سنوات قليلة، بفضل تضافر عدة عوامل من أهمها الارتفاع المطّرد في عائدات السياحة التي تمثّل نحو ثمن الناتج المحلي في البلاد، وتشير بيانات الإنفاق الأجنبي ببطاقات الخصم والائتمان إلى أن استهلاك غير المقيمين داخل إسبانيا ارتفع بمعدل 12.7% على أساس سنوي خلال عام 2024.
إعلانعلمًا بأنه في الشهر الأكثر نشاطا للسياحة الصيفية في البلاد، وهو شهر أغسطس/آب، استقبلت إسبانيا عدد سياح أكبر بنسبة 7.3% في عام 2024 مقارنة بعام 2023، وفي سبتمبر/أيلول بلغت نسبة الزيادة 9.1% مقارنة بالعام الماضي، بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء في مدريد.
وفي حين يخشى الجميع في العالم من تداعيات التغير المناخي على الكوكب، فإن إسبانيا قد استفادت منه؛ إذ أدت درجات الحرارة المرتفعة إلى تمديد موسم الصيف السياحي في البلاد، ففي شهر أكتوبر/تشرين الأول 2024 ساهم أكثر من 8.9 ملايين سائح (بزيادة 9.5% مقارنة بأعداد العام الماضي) في ضخ قرابة 12 مليار يورو في الاقتصاد الإسباني (بزيادة 15.5% مقارنة بعائدات الشهر نفسه العام الماضي)، وهو ما يسلط الضوء على صناعة السياحة المنتعشة في إسبانيا وأثرها في تحفيز الاقتصاد.
العامل الآخر الشديد الأهمية كان المهاجرين. ففي الوقت الذي تنظر فيه العديد من الدول الأوروبية إلى المهاجرين باعتبارهم عبئًا، يعتقد العديد من المحللين الاقتصاديين أن المهاجرين في إسبانيا كانوا محفزا أساسيا للنمو، إذ نما عدد سكان البلاد بمقدار 1.1 مليون نسمة بين عامي 2022 و2024، مع توافد 700 ألف عامل مهاجر خلال السنوات الثلاث الماضية.
وبحسب رئيس قسم البحوث الأوروبية بـ"أكسفورد إيكونوميكس" أنغيل تالافيرا، فإن قدرة إسبانيا على جذب المهاجرين المهرة أكثر من إيطاليا ودمجهم في اقتصادها هو ما جعل مدريد تتفوق على روما في الصورة الكلية للنمو في عام 2024 بعدما استطاع المهاجرون المهرة في إسبانيا أن يندمجوا بشكل أفضل في الاقتصاد الرسمي، وذلك بعد سنوات كانت فيها إسبانيا دولة طاردة للمهاجرين، وعانت خلالها معدلات النمو بصورة ملحوظة.
وبحسب أدريان بريتجون، الخبير الاقتصادي في شركة كابيتال إيكونوميكس البريطانية المتخصصة في الأبحاث الاقتصادية، فإن ارتفاع معدلات الهجرة من المغرب وفنزويلا وكولومبيا كان السبب الأكبر وراء النمو الكبير في إسبانيا؛ إذ أدى ذلك إلى توسع قاعدة القوى العاملة؛ مما أدى بالضرورة إلى زيادة الاستهلاك ومن ثم نمو الاقتصاد وتعزيز الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن زيادة الحصيلة الضريبية للدولة.
إعلانوقد ساعدت الهجرة إسبانيا بشكل أساسي على سد النقص في العمالة في قطاعات مهمة مثل الزراعة والبناء، فقد شغل المهاجرون 40 في المئة من الوظائف التي تم إيجادها مؤخرًا بحسب مؤسسة فونكاس للادخار. وعلى الرغم مما ذكرناه حول جودة نوعية العمال ومهاراتهم في إسبانيا مقارنة بإيطاليا فإن الكثير من العمال الوافدين سدوا ثغرة مهمة متعلقة بالوظائف التي يتردد المواطنون الإسبان عادةً في شغلها، ونعني هنا الوظائف الكثيفة العمالة ذات الإنتاجية المنخفضة.
وبحسب الخبير الاقتصادي أدريان بريتجون، فإن زيادة أعداد المهاجرين إلى إسبانيا قد حلت أزمة نقص العمالة ولم تجعلها قيدًا على الإنتاج كما حدث في أجزاء أخرى من الاتحاد الأوروبي، كما سمحت أعداد الوافدين من العمال المهاجرين للشركات بإدارة نمو الأجور على نحو فعال مع تحفيز الإنفاق الاستهلاكي في نفس الوقت.
الصورة الكبرىلكن على المستوى الرسمي ترفض إسبانيا ربط نهضتها الاقتصادية بالسياحة والهجرة فقط، وهي تعتبر السياحة عنصرًا واحدًا من عناصر النهضة لا يمكن أن نحكي القصة كلها من خلاله، وبحسب كارلوس كويربو، وزير الاقتصاد الإسباني فإنه ينبغي النظر إلى الخدمات غير السياحية من أجل إدراك طبيعة قصة النمو الإسبانية، فصادرات الخدمات غير السياحية وفق ما أشار كارلوس مثل الاستشارات والتمويل وتكنولوجيا المعلومات ولّدت عائدات أكبر من السياحة، إذ حققت 100 مليار يورو، في حين حقق ما يسمى بالصادرات السياحية 90 مليار يورو فقط؛ مما يعني قصة نمو متوازنة في جميع أنحاء الاقتصاد.
في الواقع تعيش إسبانيا بالفعل مشهدًا مزدهرًا فيما يتعلق بالمجال التكنولوجي على الرغم من أن استثمار البلاد في البحث والتطوير أقل من متوسط الاتحاد الأوروبي، إذ تنفق إسبانيا 1.44% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير في حين أن المتوسط الأوروبي يبلغ 2.27%.
إعلانلكن المواهب التكنولوجية تتوافد على إسبانيا من جميع أنحاء أوروبا على نحو غير مسبوق كما أصبحت الجامعات الإسبانية قبلة مشهودة في الأبحاث المتقدمة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والروبوتات والأمن السيبراني والطاقة المتجددة، وعلى وجه التحديد يحظى مركز برشلونة للحوسبة الفائقة في جامعة بوليتكنيك بإقليم كتالونيا يحظى بريادة وشهرة عالمية في مجال الحوسبة بحسب مجلة فورتشن الأميركية.
ووفقًا لأرقام الحكومة الكتالونية، يضم الإقليم في الوقت الحالي أكثر من 2000 شركة ناشئة، وقد احتفظت برشلونة بمكانتها للعام السادس على التوالي باعتبارها ثاني أكثر وجهة مفضلة في الاتحاد الأوروبي بالنسبة لمؤسسي الشركات الناشئة، ولا يتفوق عليها في ذلك إلا برلين، كما تقدمت المدينة في عام 2024 إلى المركز الخامس في مؤشر أفضل البيئات للشركات الناشئة على مستوى الاتحاد الأوروبي الذي تصدره "ستارت آب بلينك"، وهي شركة استشارات دولية رائدة في تحليل بيئة الشركات الناشئة.
والواقع أن برشلونة ليست صاحبة قصة النجاح الإسبانية الوحيدة في هذا الصدد، فمدن أخرى مثل مدريد وفالنسيا وبلباو وملقة وإشبيلية تشهد هي الأخرى تدفقا اقتصاديًّا كبيرًا وتتمتع بجاذبية متزايدة في مجالات متعددة، وهو ما يميز إسبانيا عن سائر الدول الأوروبية الأكثر مركزية التي يتركز فيها النشاط الاقتصادي في العاصمة وحدها، مع مدينة أو مدينتين أخريين بأقصى تقدير.
نتيجة لذلك، وبحسب مجلة فورتشن الأميركية، تجاوزت القيمة الإجمالية للشركات الناشئة بإسبانيا 100 مليار يورو عام 2023 بزيادة قدرها 14% على عام 2022.
في غضون ذلك، بدأ الكثير من المحللين الاقتصاديين يشيرون إلى إمكانية بناء شركات عالية النمو في إسبانيا في المستقبل القريب تمكنها المنافسة عالميًّا، إذ أصبحت شركات مثل "جوب آند تالينت" و"أيدياليستا" و"ترافيل بيرك" و"جلوفو" وغيرها نماذج يشار إليها بالبنان عند الحديث عن التطور والنجاحات الإسبانية.
ويؤكد هذا المشهد المكانة التي تكتسبها البلاد عامًا بعد عام فيما يتعلق بقوة جذب الابتكار التكنولوجي، وقد أدّى قانون الشركات الناشئة الذي أصدرته إسبانيا عام 2022 دورًا كبيرًا في هذه القوة الجاذبة، وأسس أطارًا قانونيًّا وماليًّا فعّالا لإنشاء وتوسيع الشركات الناشئة، وأوجد بيئة أسهل وأقل بيروقراطية لرجال الأعمال المحليين والمستثمرين الأجانب.
على جانب آخر، ساهمت تكاليف المعيشة المنخفضة في إسبانيا، التي تقدر بنصف تكلفة المعيشة في عواصم أوروبية أخرى مثل باريس ولندن، في جذب الطلاب الدوليين للجامعات الإسبانية، وهو أمر جلب انتعاشًا لجانب مهم من جوانب اقتصاد الخدمات، إذ ارتفع عدد الطلاب الدوليين في البلاد بنسبة 60% من عام 2015 إلى عام 2022.
إعلان الشيطان يكمن في التفاصيلأثناء التحضير لهذه المادة تواصلنا مع بعض الشبّان الإسبان الذين لا يتابعون بدأب الأخبار السياسية أو الاقتصادية فكانت المفاجأة أنهم لا يشعرون بأن بلادهم تحقق هذا الوضع الاقتصادي المرموق بالفعل، ويتفق مقال منشور على موقع مدرسة إيساد للأعمال ببرشلونة مع هذه الملاحظة، ذاكرا أن الإسبان قد فوجِئوا بحديث العالم عن اقتصاد بلادهم، في وقت لا يشعرون هم فيه بأن مستوى معيشتهم يتلاءم مع تلك الطفرة التي يتحدث عنها العالم، وكأن هناك انفصالًا بين الظروف الاقتصادية التي يعيشها المواطن والمؤشرات والأرقام التي تعرضها نشرات الأخبار العالمية.
هذا أمر مفهوم بالطبع ليس في إسبانيا وحدها، بل على مستوى العالم؛ إذ يصعب على المواطن العادي أن يشعر بالتحسن الاقتصادي بسهولة، أولًا لأن هذا التحسن حين يترجم في واقع حياته يكون طفيفًا وغير واضح في كثير من الأحيان، وثانيًا لأنه حتى لو حدث التحسن لصعُب أن يربطه المواطن بتحسن الأداء الاقتصادي لبلاده، فالحصول على وظيفة براتب مجزٍ قد يفسره البعض بأنه نتيجة مباشرة طبيعية للجهد الفردي وأن حالة الاقتصاد المحسنة بشكل عام لم تؤدّ دورًا رئيسيًّا في ذلك.
لكن أيضًا هناك تفاصيل مهمة ينبغي ذكرها، فالسياحة التي أدّت دورًا رئيسيًّا في النمو الإسباني، تواجه سخطًا متزايدًا من المواطنين الإسبان ويخرجون في مظاهرات ضدها بسبب دور السياح في رفع أسعار الإيجارات والسلع والضغوط على الموارد المحلية والبنية التحتية، فضلا عن نوعية الوظائف غير المستدامة التي يوجِدها القطاع في كثير من الأحيان. وفيما يتعلق بالهجرة والدور الذي أدّته في النمو الإسباني، يرى البعض أن المهاجرين ساعدوا بالفعل في دفع النمو لكن الكثيرين منهم يعملون في وظائف منخفضة المهارة والأجر؛ مما يوحي بنموذج نمو غير مستدام.
الأهم من ذلك أنه في حين أن الناتج المحلي الإجمالي الإسباني نما في السنوات الأخيرة بنسبة 4.7% فإن عدد السكان ارتفع بنسبة تقارب 3%؛ مما يجعل نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي هو 1.7% فقط.
إعلانوبحسب مسح القوى العاملة فإن الناتج المحلي الإجمالي للموظف الإسباني لا يزال أقل بنسبة 1.2% من مستواه قبل جائحة كوفيد 19، وبعد خصم الزيادة في الأسعار فإنه يصبح أقل بنسبة 2.3% من مستواه قبل الجائحة بحسب مؤسسة "بي بي في إيه" للأبحاث الاقتصادية، والأهم أنه لا يزال دون المتوسط العام لدول الاتحاد الأوروبي، وهذا ما يجعل مجلة فورتشن الأميركية تقول إن دولة إسبانيا أصبحت أغنى، لكن مواطنيها أصبحوا أكثر فقرا.
هنا تكمن المفارقة، فبينما يتحمس العديد من الاقتصاديين للنموذج الإسباني يرى آخرون أن هذا النموذج قائم على النمو الكمي لا النوعي، وأنه فشل في وضع نجاحه في صورة ملموسة مثل زيادة دخل الفرد أو تقليل ساعات العمل.
وبينما يرى المتفائلون ومن ضمنهم العديد من الخبراء الاقتصاديين المخضرمين أن النمو الإسباني نموذج مستدام قائم على إصلاحات بنيوية ستؤثر في النهاية بشكل إيجابي في حياة المواطنين، يرى آخرون الكثير مما يدعو إلى القلق في نموذج نمو قائم على الإنفاق العام في بلد نسبة الديون إلى الناتج الإجمالي فيه مرتفعة للغاية، فضلا عن كونه لم يفد بشكل مباشر الأسر الإسبانية التي لا تزال في مواجهة التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أبعاد الناتج المحلی الإجمالی الاقتصاد الإسبانی منطقة الیورو فی إسبانیا فی البلاد النمو فی عام 2024 فی حین فی عام
إقرأ أيضاً:
تصريحات وزير المالية في الميزان الاقتصادي
في اجتماع وقع مؤخرا قال الدكتور خالد المبروك عبد الله وزير المالية بحكومة الوحدة الوطنية إن المرتبات السنوية قد تصل إلى 100 مليار دينار ليبي (ما يزيد عن 20 مليار دولار) مع نهاية العام 2025م، في تصريح أثار جدلا كبيرا، ذلك أن المرتبات وفق تقديرات الوزير سترتفع بنسبة 33% خلال العام المذكور، ومعلوم أن إجمالي باب المرتبات مع نهاية العام 2024م بلغ نحو 67 مليار دينار.
لم يعلل الوزير دوافع تصريحه ولم يفصح عن أسباب الزيادة الكبيرة جدا في المرتبات حسب تقديره، فقط ألقى بالرقم في الاجتماع الرسمي وأمام كميرات التلفزيون ليصبح حديثه محط الانظار والتقييم، وبالطبع التعجب والاستنكار، ذلك أنه وبكل المقاييس ومع الأخذ بجميع المعطيات الراهنة والفرضيات المحتملة فإن بلوغ 100 مليار دينار لبند المرتبات خلال عام واحد أمر غير ممكن.
وبحسبة بسيطة، ومع الأخذ بمتوسط مرتبات العاملين في الجهاز الحكومي والبالغ عددهم نحو 2.3 مليون، وهو رقم كبير جدا ولا يعبر عن الاحتياج الحقيقي للاقتصاد الليبي، وإنما هو نتيجة لتوجهات وسياسة خاطئة ومتعمدة تعود إلى مطلع الثمانينيات من القرن، ومتوسط المرتبات هو نحو 1900 دينار ليبي، فإن الزيادة في المرتبات تعني في احد الاحتمالات توظيف أكثر من 1.7 مليون موظف وعامل خلال العام 2025م، وهذا لا يمكن تحققه حتى لو أرادات الحكومة ذلك.
إن تبني سياسة تقشفية ثم التحول إلى استراتيجية وطنية لتنشيط الاقتصاد تغير هيكله المعتمد على قطاع واحد هو النفط لا يمكن أن تجد طريقها إلى النجاح ما لم تخرج البلاد من نفق الاستقطاب والنزاع وتشهد استقرارا سياسيا وأساسا سليما للإنطلاق بعيدا عن بؤرة التأزيم الراهنة، وسيظل البعد الإيجابي لجهود ومساعي معالجة الاختناقات الاقتصادية والمالية محدود الأثر وقصير الأجل ما لم يقع تغيير حقيقي في الواقع السياسي والأمني الحالي.الاحتمال الآخر هو أن تتحقق القفزة في قيمة المرتبات التي ذكرها الوزير من خلال الزيادة في مرتبات العاملين في القطاع العام بنسبة 33%، وهذا أيضا غير ممكن ولا مبرر، فتصريحات وزير المالية جاءت في سياق التحذير والتعبير عن القلق الشديد من الارتفاع المطرد في المرتبات، وبالتالي لن تكون سياسة الزيادة في المرتبات خيارا للحكومة.
الأهم من ذلك هو أن بند المرتبات الذي يشكل أكثر من 55% من الإنفاق العام لا يعكس الواقع، بل إن الرقم الحالي مبالغ فيه، وأن الزيادة تعود في جزء منها إلى الهدايا والمزايا التي يتمتع بها شريحة واسعة من موظفي الدولة، وقدر بعض المختصين بأن القيمة الحقيقة للباب الأول من الميزانية (المرتبات وما في حكمها) لا تتعدى 55 مليار دينار، وبالتالي فإن القول بأن المرتبات ستصل إلى 100 مليار أمر مستحيل.
والسؤال هو: لماذا أقدم وزير المالية على هذا التصريح الذي لا مسوغ علمي ولا منطقي له، مع التنبيه إلى تداعيات هكذا تصريح في هذا التوقيت وفي ظل الظروف التي يواجهها الاقتصاد الليبي والمالية العامة الليبية؟!
ذهب عديد المختصين إلى أن التصريح مجرد ردة فعل عفوية، غير مدروسة ولا منضبطة، على ارتفاع بند المرتبات في الميزانية العامة وما يشكله هذا البند من عبئ كبير على الحكومة، وبالتحديد وزارة المالية. بمعنى أن التصريح هو من باب التهويل والتخوف من عواقب استمرار الاعتماد على الخزانة العامة كمصدر رئيسي وربما وحيد لمعظم القادرين على العامل في البلاد، وهذا تفسير راجح وتدعمه شواهد عديدة سبق الإشارة إلى بعضها.
الاحتمال الآخر هو اتجاه الحكومة لتبني سياسات تقشفية عامة من بينها إيقاف التوظيف في مؤسسات الدولة، والتصريح هو بمثابة تهئية الرأي العامة لهذه السياسة، وننوه إلى أن جهاز الرقابة الإدارية أصدر قرارا يطالب المؤسسات التنفيذية بوقف التعيين، وسيكون هذا مفهوما ومقبولا إذا رافقه إجراءات صارمة حيال "ما في حكم" المرتبات من مكافأت ومزايا كثيرة تشكل رقما مهما في هذا البند، والتوسع أكثر في تبني إجراءات تحد من الهدر والفساد الذي يشكل تحديا كبيرا للاقتصاد وبابا واسعا لضياع ثروة الليبيين.
حزمة السياسات التقشفية قد تكون ملحة، إلا أن أثرها سيكون عكسيا إذا طال أمدها ولم تنته إلى خطة أو استراتيجية تعالج الاختلالات والتشوهات في بنية الاقتصاد الوطني وتركيبته، وتعيد إليه التوازن المفقود والفاعلية الغائبة، وهذا يستدعي اتجاها إلى مراكمة رأس المال واستثماره في تطوير وتحسين البنية التحتية بمفهوما الواسع والتي تمثل الأساس لتحريك عجلة الاقتصاد وتحقيق معدلات أكبر في النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتعظيم دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي وزيادة مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي، واستقطاب الاستثمارات المحلية والأجنبية التي تتناغم ومستهدفات الاستراتيجية الوطنية.
إن تبني سياسة تقشفية ثم التحول إلى استراتيجية وطنية لتنشيط الاقتصاد تغير هيكله المعتمد على قطاع واحد هو النفط لا يمكن أن تجد طريقها إلى النجاح ما لم تخرج البلاد من نفق الاستقطاب والنزاع وتشهد استقرارا سياسيا وأساسا سليما للإنطلاق بعيدا عن بؤرة التأزيم الراهنة، وسيظل البعد الإيجابي لجهود ومساعي معالجة الاختناقات الاقتصادية والمالية محدود الأثر وقصير الأجل ما لم يقع تغيير حقيقي في الواقع السياسي والأمني الحالي.