عربي21:
2025-04-07@11:04:34 GMT

إصلاح الفهم حول مفهوم الإصلاح.. مشاتل التغيير (4)

تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT

يشهد العالم العربي والإسلامي منذ القرن التاسع عشر، على أقل تقدير، دعوات متواصلة إلى الإصلاح تحت شعارات متعددة نحو التجديد والإحياء والنهوض والتحديث والتغيير والتنوير، وقد أصبح الإصلاح وغيره من المصطلحات عنوانا لحركات مجتمعية ومشاريع فكرية عديدة، ظل أصحابها ينشدون الخروج بالمجتمعات العربية والإسلامية من وضع التخلف والانزواء إلى وضع التقدم والارتقاء.



كشف البحث عن قضايا الإصلاح بعمق ودقة الدكتور "محمد بريش" رحمه الله تعالى، فدقق مفهوم الإصلاح مبينا وعيه المفاهيمي بأهمية المسألة المصطلحية عموما وما أصابها من عصف وقصف من جهة كونها مدخل الإصلاح وأساسه وذروة سنامه، فاهتم بناء على ذلك بالنظر في عدد من المصطلحات تدقيقا وتأصيلا لمعانيها، ومن أهم هذه المصطلحات مصطلح الإصلاح، متطرقا الى شروط الإصلاح وأولوياته. كان ذلك في مقاله البديع "مفهوم الإصلاح أو نحو إصلاح لفهم المصطلح".

"الإصلاح" لغة مأخوذ من الجذر "صلح"، فالصاد واللام والحاء أصل واحد، يدل على خلاف الفساد. يقال: صَلُح (بضم اللام) وصَلَح (بفتح اللام) الشيءُ يَصْلَح ويَصْلُح صلاحا وصُلُوحا، لغتان؛ فالصلاح والصُلُوح بمعنى، وهو صالح وصليح، والجمع: صلحاء وصُلُوح. و"الصلاح" الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، و"الإصلاح" جعل الشيء على تلك الحالة؛ فـ"الإصلاح" نقيض الفساد، وهو يدل على إزالة الفساد.

المصطلحات إذن تكتسب قوتها ومعانيها من الحقل الدلالي الذي تنبثق وتصدر عنه، وقد يكون هذا السياق حقلا معرفيا كما قد يكون سياقا ثقافيا أو حضاريا أو اجتماعيا
و"الاستصلاح" نقيض الاستفساد، وأصلحه نقيض أفسده، وقد أصلح الشيء بعد فساده: أقامه، و"مصلح" اسم فاعل من أصلح. يقال: رجل صالح في نفسه، ومصلح في أعماله. ويغلب استخدام "الإصلاح" في إصلاح ذات البين؛ يقال: أصلح بينهما، أو ذات بينهما: أزال ما بينهما من عداوة ووحشة. وإصلاح ذات البين يكون برأب ما تصدع منها، وإزالة الفساد الذي دبَّ إليها بسبب الخصام والتنازع على أمر من أمور الدنيا. و"الإصلاح" اصطلاحا؛ شمولا وتكاملا له تعريفات عديدة؛ فعُرِّف بأنه: إزالة الخلل والفساد الطارئ على الشيء، وعُرَّف أيضا بأنه: إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله، بإزالة ما طرأ عليه من الفساد. وكل التعريفات الاصطلاحية لـ"الإصلاح" تدور حول معنى إزالة الفساد الذي يطرأ الشيء، وإعادته إلى ما كان عليه من الصلاح والاعتدال والنفع.

في مقال قيم كان عنوانه "مفاهيم ومفردات في منهج الإصلاح المنشود" للمفكر المغربي القدير الأستاذ "محمد يتيم"؛ "لا مشاحة في المصطلح" ليست قاعدة مطلقة؛ هكذا كان يقول علماء المسلمين، لكنهم كانوا يقرونه أيضا بوجود ما يسمى "اللفظ المشترك"، وهو اللفظ الواحد الذي يستخدم للدلالة على معانٍ متعددة بتعدد السياقات التي يتم استخدامه فيها. وهو نفس المعنى الذي قرره علماء اللغة المعاصرون وهم يتحدثون عما سموها "حركيّة الدليل اللغوي"، أي قابليته للاستعمال للدلالة على مدلولات متعددة بتعدد سياقات استخدامه.

ولذلك فقاعدة "لا مشاحة في المصطلح" تنطبق على المصطلحات المتعددة التي تشير إلى شيء واحد ومعنى واحد، ولا تعني أن المصطلح غير متحرك، أو حمّال لأوجه، أو أنه غير قابل للتأويل، وأنه يحتمل أكثر من دلالة. فالمصطلحات إذن تكتسب قوتها ومعانيها من الحقل الدلالي الذي تنبثق وتصدر عنه، وقد يكون هذا السياق حقلا معرفيا كما قد يكون سياقا ثقافيا أو حضاريا أو اجتماعيا.

هذه المقدمة تصلح لتناول مفهوم "الإصلاح" بحمولاته المختلفة انطلاقا من المرجعية الإسلامية، وتمييزه عن مفهوم الإصلاح كما يُستخدم اليوم في القاموس السياسي السائد، ولذلك فإن المشاحة لازمة في مصطلح "الإصلاح".

مفهوم "الإصلاح" بحمولاته المختلفة انطلاقا من المرجعية الإسلامية، وتمييزه عن مفهوم الإصلاح كما يُستخدم اليوم في القاموس السياسي السائد، ولذلك فإن المشاحة لازمة في مصطلح "الإصلاح"
وتعريف الإصلاح يحمل طابعا قدحيا في قاموس اليسار الجذري، وهو في هذه الحالة ليس سوى محاولة "ترقيعية" وتجميلية لصورة الأنظمة الاستبدادية وإضفاء للشرعية عليها، ومن ثم فإن الطريق الأسلم بالنسبة إليه هو الدعوة إلى تغيير كامل وجذري قواعد اللعبة من أساسها، والدعوة إلى تغيير جوهري في بنية السلطة والمجتمع برمته وعلى حد سواء.

المصطلحات إذا على حد ما عبر عنه المفكر المغربي ليست بريئة وينبغي -على العكس من ذلك- الوقوف عند حمولتها الفكرية والثقافية وخلفيتها القيمية وتفكيكها، وحيث إنه في حالة الحركات التي تستلهم المرجعية الإسلامية يجب تحرير هذا المصطلح من حمولات أخرى ناتجة عن التأثر بمناهج في التغيير لها مرجعيات أخرى؛ فمن اللازم العودة إلى تحرير مفهوم الإصلاح في ظل المرجعية الإسلامية وبعده الثقافي والحضاري الأصيل.

ومن ثم، فإن ارتباط مفهوم الإصلاح بمعانيه التدرجية الجزئية؛ وبمعانيه الترقيعية التجميلية؛ أو الإصلاحات الجزئية من داخل منظومة السلطة والنظام والعمل تحت سقف النظام وحدوده وأشكاله، ومن ثم وضع مفهوم الإصلاح في قبالة مفهوم الثورة التي تعني عملا جذريا قد يحمل بعض من الأشكال العنفية؛ إنما يُعد تعسفا نتج من استقرار تلك المفاهيم في معانيها الغربية. استُهدفت الإصلاحية بسرعة من قبل الاشتراكيين الثوريين مع إدانة روزا لوكسمبورغ للاشتراكية التطورية لبرنشتاين في مقالتها "الإصلاح أم الثورة"؟ والأمر الصواب في هذا المقام يجعل من الإصلاح مفهوما شاملا وغائيا مقاصديا؛ كما سنرى هذا المفهوم للإصلاح بشموله ومعنى المسئولية فيه وتعدد مستوياته وأشكاله، فالإصلاح يشتمل على أشكال عدة ومنها الثوري والتدريجي كل بحسبه، ولم يكن أبدا ترقيعيا أو تجميليا.

وعلى الرغم مما يبدو من فرض القضية والعنوان والمجالات ومناهج الرؤية والعمل الخاصة بمسألة "الإصلاح" فرضا أمريكيّا صريحا، تسنده وتسانده الحضارة الغربية وفق سياقات فرض مفاهيم مركزيتها الغربية، فإن المنظور الحضاري الأصيل المصرّ على الاحتفاظ بوعيه الذاتي يرى أن الأمر ليس كذلك بالضرورة، وليس حديثُ "الإصلاح" من منطلق التجدد الحضاري الذاتي، يمثل استجابة أو ردّ فعلٍ على الطروحات الأمريكية والغربية، إنما هو خط متصل، وهمُّ ممتد متأصّل واقع بين إرادة الأمة الواعية واستطاعتها المتغيرة (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت). وما الطرح الأمريكي أو غيره -ساعتها- إلا كالمناسبة أو المجال أو الظرف الرافع للصوت الذاتي، الدافع لكشف الزيف، وبيان الإصلاح الصالح الحق من ألوان الإصلاح الأخرى؛ المعكوس الفاسد، الضال، المخروق، الملبّس، الكاذب.. إلخ.

إعادة الاعتبار لمفهوم الإصلاح عبر بعدين متلازمين ارتبطا بخطاب الإصلاح الخارجي المنطلق من مكنون فلسفته واعتباراته؛ الأول المفهوم الغربي للإصلاح، الذي قد يشوش على مفاهيم ترد في المرجعية التأسيسية مفهوم قد يشوش على الفهم الإسلامي لمفهوم الإصلاح، فنحن لا نأخذ الإصلاح باعتباره "إعادة التشكيل" (reform)، وهو مع التأمل يتلاءم مع أهداف الحضارة الغربية، فالإصلاح الذي نقصده ونسعى إليه يتكون من عمليات تجديدية بأفكار نهضوية وإمكانات وقدرات فاعلية (ارتباط الاصلاح بمفهوم التجديد والإحياء). ومن هنا، إن التباس الترجمة التي تحيزت للفهم الغربي طاردت الدلالة الأصلية لاصطلاح الإصلاح، وأزاحت لغويا المفهوم الأصلي لغة واصطلاحا؛ قرآنا وسنة.

مراعاة هذا المفهوم المتعلق بالإصلاح في سياقات الاهتمام بمشاتل التغيير؛ ضمن هذه الإشارات والتنبيهات، والتعرف من هذا المنطلق؛ منطلق ذاتية الإصلاح مفهوما وتصورا، وعملية أصلية وعملياتٍ متنوعة، ومقاصدَ ووسائل، وقوانين وسُننا، وتاريخا وواقعا ومآلات
أما الثاني فيتعلق بمفهوم الإصلاح المرتبط بالخارج في الخطابات الأخيرة أكثر من ارتباطه بالداخل، وصارت العلاقة بين الداخل والخارج من هذه الزاوية مثار مشاكل إلى الدرجة التي جعلت البعض يرى أن الإصلاح فقط هو الذي يأتي من الخارج، ولكن نحن نؤكد على داخلية الإصلاح، وإمكاناته وقدراته. أما الخارج فهو ضمن الوسط للإصلاح سواء مباشرا أو منداحا (من دوائر الفرد إلى الدائرة النهائية إنسان الإنسانية- النهضة على غير الطريقة الأوروبية)، فشكل ذلك مقدمات الاستتباع الخطيرة.

إن مراعاة هذا المفهوم المتعلق بالإصلاح في سياقات الاهتمام بمشاتل التغيير؛ ضمن هذه الإشارات والتنبيهات، والتعرف من هذا المنطلق؛ منطلق ذاتية الإصلاح مفهوما وتصورا، وعملية أصلية وعملياتٍ متنوعة، ومقاصدَ ووسائل، وقوانين وسُننا، وتاريخا وواقعا ومآلات.. ذاتية المنطلق المعرفي (العقدي) والإرادي (الوجهة) والمنهجي (الصراط المستقيم).. ومن باب مناسبة الحال ومقتضياتها تمضي الأمة العربية والإسلامية في كشف حالة التحول الموّار والتغيرات الحادة التي تمر بها الأمة الإسلامية كُلّا وأجزاء عبر هذه اللحظة، تحت شارات "الإصلاح" باختلاف مفاهيمه وتصوراته، ومقاصده ومجالاته، ودوافعه ومنطلقاته.

التفكير في الإصلاح، الذي صوّره العقل القرآني وعيا وتدبرا، شكّل مقاربة متجددة لسؤالين متلازمين؛ أولهما: كيف يكون فهمنا للإصلاح في القرآن المجيد فهما منهجيا؟ أما الثاني كيف نطبق الإصلاح الذي جاء به القرآن على الأمة في كل زمان وفي كل مكان وفي كل مجتمع من مجتمعات الخلق والأنام على مر القرون والأيام؟ إن الوعي النقدي بالعوائق التي اعترضت وتعترض دائما الإصلاح، يشي بضرورة بناء وعي نقدي سليم لا ينبغي معه أن يسقط المصلح ومخاطبوه في مهاوي القنوط واليأس من إمكانية تحقيق الإصلاح. فهو دائما موجود ومتحقق بقدر حرصنا على اكتساب أسبابه سننا ومقاصد، وعيا وسعيا، وأفق تفكير في الإصلاح وعملياته الانفتاح والأمل والثقة في المستقبل. ولعل ذلك يستحق بيانا في مقال آخر.

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإصلاح المصطلحات المفاهيمي تغيير اسلام إصلاح تغيير مفاهيم مصطلح مقالات مقالات مقالات أفكار سياسة سياسة مقالات اقتصاد سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المرجعیة الإسلامیة الإصلاح فی قد یکون

إقرأ أيضاً:

د. لبيب قمحاوي .. إسرائيل الكبرى والشرق الأوسط الصغير : مخاض التغيير

#إسرائيل_الكبرى و #الشرق_الأوسط_الصغير : #مخاض_التغيير

بقلم : د. #لبيب_قمحاوي

التاريخ 08/03/2025

lkamhawi@cessco.com.jo

مقالات ذات صلة طرد سفير إسرائيل بإثيوبيا من مقر الاتحاد الأفريقي 2025/04/07

تخوض إسرائيل الآن حروباً من صنعها بالرغم عن كل ما تـدّعيه . وهذه الحروب بعضها حروباً خارجية متعددة الجبهات ضد كل من تراه إسرائيل أو تُصنّفَهُ عدواً لها أو لمصالحها في الإقليم ، وبعضها الآخر حروباً داخلية تجري داخل المجتمع الإسرائيلي أساسها إعادة تشكيل النظام السياسي والقضائي والقانوني الإسرائيلي وكذلك هوية الدولة الإسرائيلية ومنظومة القيم الحاكمة للمجتمع الإسرائيلي نفسه . إن أي محاولة للفصل بين الحروب الخارجية والداخلية التي تخوضها اسرائيل الآن سوف تدفع الأمور بعيداً عن أرض الواقع والحقيقة . فالحروب الخارجية مرتبطة بصعود أقصى اليمين الإسرائيلي إلى الحكم علماً أن صعود أقصى اليمين مرتبط ارتباطاً وثيقاً بإستمرار النزاعات والحروب الدائرة داخل إسرائيل نفسها كدولة وكمجتمع .

إن التغيير في الشرق الأوسط والذي تسعى إسرائيل إلى الوصول إليه من خلال حروبها الخارجية سواء المباشرة المتمثلة بالقتل والتدمير والإحتلال، أوغير المباشرة المتمثلة بالترهيب والإبتزاز ، هو في نفس قوة وأهمية التغيير الداخلي الذي تسعى حكومة أقصى اليمين الإسرائيلي للوصول إليه وفرضه من خلال نزاعاتها وحروبها الداخلية . وتُعْتَبر النزاعات والحروب الداخلية تعبيراً عن آلام المخاض المرافقة للحروب الخارجية ووسيلة لجعلها حروبا حتمية ومقبولة وضرورية لمفهوم الأمن الإسرائيلي فاتحة الطريق بذلك أمام انتصار اليمين الإسرائيلي المتشدد وهدفه في تحويل إسرائيل رسمياً وقانونياً وعلناً إلى دولة يهودية عنصرية بإمتياز، بالإضافة إلى تمكينها من قيادة إقليم الشرق الأوسط بحكم تفوقها العسكري في إنتصاراتها في حروبها الخارجية نتيجة الدعم الامريكي المستمر ، وبذلك تتحقق الرؤيا الإسرائيلية والهدف الأمريكي.

إسرائيل من خلال تفوقها العسكري المستند إلى مخزون متجدد من الأسلحة الأمريكية والدعم السياسي الأمريكي المفتوح قد تجاوزت واقعها الجيوبوليتيكي المحصور في أرض فلسطين والمغلف بقيود وأبعاد القضية الفلسطينية التاريخية لتصبح القوة الضاربة الأقوى في منطقة الشرق الأوسط ، وخرجت بالتالي بعدائها المستمر وحروبها الشرسة من شرنقة القضية الفلسطينية إلى فضاء العالم العربي الضعيف والممزق ومسلوب الإرادة والخالي من العزيمة الوطنية مما جعل إسرائيل قادرة على اللعب في هذا الفضاء الفسيح كما تشاء وتريد تمهيداً للسيطرة على إقليم الشرق الأوسط ككل وإعادة تشكيله بما يسمح لإسرائيل بقيادته بما يتناسب ومصالحها .

إعادة تشكيل الشرق الأوسط هي في الأصل فكرة طرحها يسار الوسط الإسرائيلي من خلال كتابات شمعون بيريز والآن يقوم اليمين الإسرائيلي المتطرف برئاسة بنجامين نتنياهو على تنفيذها بأكثر الأساليب وحشية ودون أي إعتبار لمحددات القانون الدولي والإنساني . الآثار المترتبة على إختراق العالم العربي تمهيداً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط لن تكون آثاراً بسيطة كما يتخيل البعض، إذ أن عواقبها الخطيرة لن تكون محصورة بإقليم الشرق الأوسط ، بل سوف تشمل أيضاً إسرائيل نفسها، كونها سوف ترفع حالة العداء المباشر والمبطن للكيان الإسرائيلي إلى حدوده الإقليمية القصوى . فالهدف من إعادة تشكيل الشرق الأوسط هو إخضاع دُوَلِهِ للنفوذ الإسرائيلي مما سيؤدي لتَحَوُّل إسرائيل إلى مَصْدَرِ الخَطَر على مصالح دول المنطقة وشعوبها الأمر الذي سوف يزيد من منسوب العداء الشعبى لإسرائيل ويُدْخِل المنطقة في حلقة مفرغة من الشكوك والعداء ويعمم حالة عدم الإستقرار وينقلها من وضعها الحالي المحصور بالفلسطينيين وبعض العرب إلى عداء لإسرائيل يشمل منطقة الشرق الأوسط ودولها وشعوبها بشكل عام .

الدعم العسكري والسياسي الذي وَفَّرَتْهُ أمريكا لإسرائيل قد خلق منها قوة إقليمية فاقت في قدراتها حتى توقعات إسرائيل نفسها ، مما خلق شعوراً بالتفوق والعَظَمَةِ لدى القيادة الإسرائيلية . إن جنون العظمة الذي رافق انتصارات إسرائيل العسكرية الأخيرة على مستوى إقليم الشرق الأوسط من خلال ذلك الدعم الأمريكي العسكري والسياسي والتكنولوجي المفتوح ، وتهديدها لدول الإقليم في حال تبنيها لسياسات تتعارض ومصالح إسرائيل ، قد أدّى عملياً إلى تخلّيها عن صفة الدولة الضعيفة، والإدعاء بأن وجودها مهدد من قبل الآخرين ، إلى الدولة الأقوى عسكرياً والتي يهدد وجودها الآخرين . إن هذا التحول سوف يؤدي بالضرورة إلى إعادة تشكيل علاقات القوة في المنطقة بالإضافة أنه سيؤدي إلى رفع مستوى التوتر فيها كون التعامل بين دولها من منظور جنون العظمة العسكرية الإسرائيلي لن يؤدي إلى حلول بقدر ما سيؤدي إلى قلاقل ونزاعات . فجنون العظمة العسكرية ذاك سوف يكون في نهاية الأمر هو المدخل الأكيد لخلق الحروب والنزاعات وليس لِفَضّها .

الحروب المتواصلة هي الوسيلة الإسرائيلية لتغيير الأمر الواقع بالقوة من خلال السعي إلى التغيير الديموغرافي والتجزئة والتقسيم السياسي وليس بالضرورة إحتلال الأرض وما عليها. فإسرائيل بوضعها الحالي لن تكون قادرة على ابتلاع وهضم المزيد من الأراضي المأهولة ، ولكن المزيد من الأراضي غير المأهولة بالسكان . فالاحتلال بالمفهوم التقليدي سوف يكون مقتصراً في الحقبة الحالية والمستقبل المنظور على أراضي فلسطين كاملة وعلى حزام من أراضي الدول المجاورة والمطلة على فلسطين والتي قد تؤثر أمنياً على إسرائيل من المنظور الإسرائيلي ، علماً أن هذا المنطق يفقد قيمته الحقيقية في ظل التقدم الحاصل في إستعمال سلاح الصواريخ وسلاح المُسَيَّرات. أما أنواع الإحتلال الأخرى سواء الإحتلال السياسي أو الإحتلال الإقتصادي فهذا لا يستدعي بالضرورة إحتلال الأراضي بقدر ما يستدعي التهديد الإسرائيلي بإحتلالها أوبخلاف ذلك تدمير المدن والقرى على نسق ما حصل في اقليم غزة الفلسطيني .وفي هذه السياق، يعتبر الإحتلال الإقتصادي والسياسي هي الأشكال الجديدة من السيطرة والتي لا تستدعي حروباً أو تواجداً عسكرياً على أراضي الغير . والسلاح الأقوى في هذه الحالة هو الإعتراف الضمني للدول المُسْتَهدَفة بعدم قدرتها على التصدي لقوة إسرائيل العسكرية وعدم رغبتها في التصدي والاشتباك وقبولها بعلاقة التبعية المستندة إلى قوة الخصم كأمر واقع يستدعي القبول بتلك العلاقة ولو على مضض .

يتميز السلوك الإسرائيلي في الحقبة الأخيرة بمؤشرات تشير إلى تحرك السلوك العام للدولة والمجتمع بشكل يبعدها أكثر عن سلوك المجتمعات الأوروبية ويجعلها أقرب إلى السلوك الشرق أوسطي . وقد يكمن أساس هذا التحول في ازدياد السيطرة السياسية لليهود الشرقيين (السفارديم) والإنحسار التدريجي في النفوذ السياسي لليهود الغربيين (الأشكناز) . وهذا الأمر يمكن ترجمته بشكل عام في جنوح العقلية الإسرائيلية مؤخراً وبشكل عام وملحوظ نحو العقلية الشرق أوسطية في استباحة القانون والقضاء وإن بخلفية دينية يهودية عنصرية متزمته ومتعصبة . إن قيام الأفعى الإسرائيلية بتغيير جلدها هو تطور طبيعي تحكمه حتمية المرور بمراحل التطور والنمو ضمن بيئة شرق أوسطية ذات عمق تاريخي وثقافي وحضاري ملحوظ يطغى على كل ما هو جديد ومصطنع ودخيل وليس العكس . فالصغير لا يمكن أن يبتلع الكبير ومن هنا تأتي محاولات إسرائيل المستميتة للتوسع من جهة ، ولتمزيق الكيانات العربية والاقليمية الكبيرة إلى كيانات صغيرة هزيلة يسهل ابتلاعها وهضمها من جهة أخرى ، وهذا جزء من المعركة الدائرة الآن وبدعم أمريكي ملحوظ . ولكن تبقى الحقيقة الأساس أن الخلافات داخل المجتمع الاسرائيلـي هي خلافـات اسرائيلـيـة – اسرائيـليـة وليس خلافات على الموقف من الفلسطينيين أو العرب ، ولا يوجد أي أساس أو بُعْد فلسطيني لتلك الخلافات . فالإسرائيليون مجمعون على عدائهم للفلسطينيين وإن بدرجات متفاوتة ، ولكن في نهاية المطاف يبقى العداء هو العداء مهما اختلفت درجاته وأساليب التعبير عنه .

مقالات مشابهة

  • د. لبيب قمحاوي .. إسرائيل الكبرى والشرق الأوسط الصغير : مخاض التغيير
  • إعلام بلا وجوه جديدة… لماذا نخشى التغيير؟
  • سامراء تقاوم فتنة التغيير الديموغرافي من بوابة المراقد - عاجل
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • مديرية الإعلام في حلب لـ سانا: معظم ما يصدر من إشاعات على هذا الاتفاق، مصدره قوى وجهات تريد تعكير الأجواء السياسية، وهي متضررة من حالة الاستقرار التي يهدف إلى تحقيقها هذا الاتفاق
  • مديرية الإعلام في حلب لـ سانا: لا صحة للأنباء التي تتحدث عن توقف عملية تبادل الموقوفين بين مديرية الأمن بحلب وقوات سوريا الديمقراطية.
  • «العلاقات الدولية» مفهوم ملتبس!
  • الجماز ينتقد إدارة الهلال بعد السقوط أمام النصر: وجب التغيير
  • محادثات صعبة بين أورتاغوس والرؤساء.. الموقف اللبناني: سنبني على الشيء مقتضاه
  • برج الأسد حظك اليوم السبت 5 أبريل 2025.. لا تخشى التغيير