اتجاهات مستقبلية
الصين وقطاع الذكاء الاصطناعي
هزة في أوساط سوق التكنولوجيا والبورصات الدولية أحدثها تطبيق “ديب سيك” الصيني للذكاء الاصطناعي، مع خشية أمريكية من تراجع الريادة التكنولوجية، وقلق في “سيليكون فالي” من تكلفة التطبيق المنخفضة، وإتاحته للجمهور مجانًا، وانتشاره السريع، وتأثيره المباشر على سوق الأسهم لشركات التكنولوجيا الكبرى، وفي المقدمة عملاق التكنولوجيا والرقائق “إنفيديا”، التي فقدت نحو 600 مليار دولار من قيمتها السوقية في يوم واحد.
وقد أدى إطلاق شركة “ديب سيك” الصينية الناشئة، التي تأسست عام 2023، تطبيق ذكاء اصطناعي ينافس تطبيقات أمريكية رائدة مثل “تشات جي بي تي”، إلى طرح تساؤلات عن قدرات الشركات الصينية ودعم الحكومة في بكين للتقنيات الوطنية، وما لذلك من بزوغ المنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي مع الولايات المتحدة، التي تستثمر شركاتها مليارات الدولارات لتطوير التطبيقات، لا سيما أن “ديب سيك” تميز عن برامج الدردشة الآلية الأخرى المستندة إلى الذكاء الاصطناعي بأنه مفتوح المصدر ويمكن للمطورين البناء عليه، ويتفوق على المنافسين في المهام الحسابية، والمعرفة العامة، وأداء الأسئلة والأجوبة.
وبالرغم من أثر “ديب سيك” في الأوساط التكنولوجية والمالية الدولية، فإن هذه ليست التجربة الصينية الأولى، إذْ بعد إطلاق “تشات جي بي تي” عام 2022، تسابقت شركات صينية إلى تطوير تطبيقات مشابهة لكن أملها خاب مع تطبيق لشركة “بايدو” الصينية، ومع تواصل المحاولات الصينية نجح نموذجا “ديب سيك-في3” و”ديب سيك-آر1″، اللذان يعدان من أفضل النماذج المتقدمة، بمستوى تقني مماثل لشركتي “أوبن.إيه.آي” و”ميتا” الأمريكيتين، وبتكلفة أقل بـ20 إلى 50 مرة، إذ كلف تدريب “ديب سيك-في3” باستخدام رقائق إنفيديا “إتش-800” أقل من ستة ملايين دولار.
وبعد “ديب سيك” دخلت مجموعة “علي بابا” الصينية في سباق الذكاء الاصطناعي بنموذجها “كوين 2.5-ماكس”، باعتباره نموذجًا متقدمًا ينافس “تشات جي بي تي 4” من “أوبن إيه آي” و”كلود 3.5 سونيت” من “أنثروبيك”، إذ دُرب على أكثر من 20 ألف مليار بيان، ويبدو أن المنافسة العالمية في الذكاء الاصطناعي تتصاعد، وقد تنتج عنها تطورات تقنية تعيد رسم ملامح السوق وحياة البشر.
وترجع أهمية الذكاء الاصطناعي الصيني في تحقيق أهداف الحكومة باعتباره “أولوية وطنية”، لما يوفره من فرص في المنافسة العالمية، خصوصًا في مواجهة القيود الأمريكية على تصدير التكنولوجيا بهدف وقف التقدم الصيني عبر فرض قيود صارمة على تصدير الشرائح الإلكترونية، مع سعي بكين إلى الاكتفاء الذاتي في القطاعات الاستراتيجية، بما فيها الذكاء الاصطناعي، وتقليل تأثير الحد من تصدير الشرائح على الشركات، وتبني استراتيجية تعتمد على كفاءة البرمجيات بدلًا من القوة الحوسبية، وذلك ما يضع الشركات الأمريكية في وضع صعب، مع اكتساب الصين لقدرة تنافسية جديدة، على نحو مماثل للمنافسة العالمية في قطاعي الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية.
ومنذ 2016 أُدرج الذكاء الاصطناعي في الخطة الاستراتيجية الوطنية للصين، مع حزمة سياسات لدعم تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، لحماية رأس المال والملكية الفكرية وتنمية الموارد البشرية والتعاون الدولي، وقد وصل البحث في تقنيات الذكاء الاصطناعي في الجامعات الصينية إلى مستوى أفضل الجامعات في العالم. وفي سبيل الذكاء الاصطناعي، تخطت الاستثمارات الصينية 50 مليار دولار خلال عام 2023، ويتوقع وصولها إلى 120 مليار دولار بحلول عام 2027، وفق مركز أبحاث الذكاء الاصطناعي العالمي.
ويُتوقع أن يغيّر الذكاء الاصطناعي الصيني المعادلة في مجال الذكاء الاصطناعي، وبينما تتعدد النماذج والتطبيقات الصينية، قد يبدو أن حركة الاستثمار الدولية تتجه إلى الصين مع تطوير نماذج ذكاء اصطناعي تنافس بقوة، لا سيما أن التكلفة عامل جذب كبير، إذا ما قورنت الشركات الصينية بالشركات الأمريكية وإنفاق مليارات الدولارات لابتكار نماذج قائمة على الذكاء الاصطناعي. وما يزيد المنافسة أن الشركات الصينية تحاكي أحدث ما توصلت إليه التقنيات، وتطور تقنيات جديدة دون الحاجة إلى بنية تحتية ضخمة وكميات هائلة من الطاقة، غير أن الريادة ما تزال أمريكية، في حين أن التقدم السريع للصين قد يؤدي إلى فقدان الشركات الأمريكية تفوقها التكنولوجي، وإعادة توزيع القوى التكنولوجية العالمية، وفي الوقت ذاتِه ستخلق المنافسة الصينية حالة من الابتكار العالمية والتسابق على تقديم تقنيات في كل جوانب الحياة، غير أن المعضلة هي مدى توافق هذه الابتكارات من القوى المتنافسة مع القيم والأخلاقيات الإنسانية.
وستكون للمنافسة الصينية الشرسة في قطاع الذكاء الاصطناعي انعكاساتها على التنافس الاستراتيجي المحتدم بين الصين والولايات المتحدة، ويبدو أن الصراع في هذا القطاع ما زال في بداياته ويتوقع أن تكون له مآلات وتأثيرات كبرى على رسم الخارطة الجيوسياسية للعالم خلال القرن الحادي والعشرين.
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی دیب سیک
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي تكلفة عالية على البيئة
يتحول العالم بشكل سريع ومكثف إلى عصر الذكاء الاصطناعي، لكن الدراسات والأبحاث تكشف بصمته الكربونية العالية وتأثيراته البيئية الناتجة بشكل رئيسي عن استهلاك الطاقة الكبير، واستخراج الموارد، وإنتاج النفايات الإلكترونية.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كشفت دراسة رائدة عن التأثير البيئي الهائل لأنظمة الذكاء الاصطناعي، حيث قدر الباحثون فيها أنها تؤدي إلى انبعاث أكثر من 102 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إدارة ترامب توقف برنامجا يراقب جودة الهواء عالمياlist 2 of 2كيف نعلم أننا مسؤولون عن تغير المناخ؟end of listوتضمنت الدراسة التي أجرتها جامعتا "تشجيانغ" و"نانكاي" تحليل التأثير البيئي لـ79 نظاما رئيسيا للذكاء الاصطناعي تم تطويرها بين عامي 2020 و2024، وكشفت عن اتجاهات مثيرة للقلق في استهلاك الطاقة وانبعاثات الكربون.
وأظهر التحليل أن المتطلبات التشغيلية تتجاوز بكثير انبعاثات التدريب، حيث تمثل بعض الأنظمة مثل "جيميني ألترا" (Gemini Ultra) من غوغل أكثر من ثلث الانبعاثات بين أفضل نماذج الذكاء الاصطناعي.
وأشارت الدراسة إلى أن البصمة الكربونية للذكاء الاصطناعي نمت بشكل كبير لدرجة أنها تنافس الانبعاثات السنوية لدول بأكملها، كما أن المطالب التشغيلية في الاستخدام اليومي للذكاء الاصطناعي تتجاوز بكثير انبعاثات التدريب.
يتطلب تدريب النماذج الكبيرة، مثل "جي بي تي" (GPT) أو نماذج التعلم العميق، كميات هائلة من الطاقة الكهربائية. فعلى سبيل المثال، يمكن أن ينتج تدريب نموذج كبير انبعاثات كربونية تعادل انبعاثات عشرات السيارات طوال عمرها الافتراضي.
إعلانكما تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على مراكز بيانات ضخمة تستهلك كميات كبيرة من الكهرباء للتبريد وتشغيل الخوادم، وإذا لم تكن هذه المراكز تعتمد على مصادر طاقة متجددة، فإنها تسهم بشكل كبير في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
وتشير تقديرات إلى أن مراكز البيانات على مستوى العالم تستهلك ما بين 1% و2% من إجمالي الكهرباء العالمية، ومن المتوقع أن تزيد تلك النسبة مع نمو صناعة الذكاء الاصطناعي.
فعلى سبيل المثال، يتطلب تدريب نموذج "جي بي تي-3" طاقة تقدر بحوالي 1287 ميغاواتا في الساعة، وهو ما يعادل استهلاك الطاقة لـ120 منزلا في الولايات المتحدة لمدة عام.
كما تشير التقديرات إلى أن قطاع تكنولوجيا المعلومات، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، قد يستهلك ما يتراوح بين 7% إلى 10% من الكهرباء العالمية بحلول عام 2030 إذا استمر النمو الحالي. وإذا كان مصدر تلك الطاقة من الفحم الحجري فإن التاثيرات البيئية ستكون هائلة.
التصنيع والاستهلاك
يعتمد تصنيع الأجهزة التي تدعم الذكاء الاصطناعي، مثل وحدات معالجة الرسومات "جي بي يو" وشرائح الذكاء الاصطناعي، على معادن نادرة مثل الليثيوم والكوبالت.
ويؤدي استخراج تلك المعادن المهمة في صناعة الذكاء الاصطناعي إلى تدمير البيئة، بما في ذلك إزالة الغابات لاستخراجها وتلويث التربة والمياه، كما أن عمليات التعدين واستخراج تلك الموارد تتطلب بدورها طاقة كبيرة، مما يزيد من البصمة الكربونية.
وتستخدم مراكز البيانات أيضا كميات كبيرة من الماء لأغراض التبريد، حيث يتم تبريد الخوادم لمنع ارتفاع درجة حرارتها، وتشير الدراسات إلى أن بعض مراكز البيانات الكبيرة يمكن أن تستهلك ملايين اللترات من الماء سنويا.
ومع التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي تتقادم الأجهزة بسرعة أو يتم التخلي عنها، مما يزيد من كمية النفايات الإلكترونية التي يتم التخلص منها، وتحتوي تلك الأجهزة الإلكترونية على مواد سامة يصعب إعادة تدويرها، مما يؤدي إلى تلوث البيئة عند التخلص منها، وتزيد من نسبة الانبعاثات التي يؤدي تراكمها إلى التغير المناخي.
إعلانومع التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات مثل النقل والصناعة والترفيه، يزداد الطلب على الطاقة، مما قد يؤدي إلى زيادة الاعتماد على الوقود الأحفوري إذا لم يتم التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة.
تأثيرات غير مباشرةتؤدي صناعة الذكاء الاصطناعي إلى تأثيرات غير مباشرة على البيئة، إذ من الممكن أن يجعل الإنتاج في جميع القطاعات أكثر كفاءة وأقل تكلفة، مما قد يؤدي إلى زيادة الاستهلاك وبالتالي زيادة الطلب على الموارد الطبيعية واستنزافها.
كما أن زيادة الاعتماد على التوصيل السريع والتجارة الإلكترونية التي ينظمها الذكاء الاصطناعي قد تؤدي إلى زيادة انبعاثات الكربون من وسائل النقل بجميع أنواعها.
من جهة أخرى، يؤثر بناء مراكز البيانات والبنية التحتية اللازمة للذكاء الاصطناعي التي قد تتطلب مساحات كبيرة من الأراضي، على النظم البيئية الطبيعية والتنوع البيولوجي، كما يؤدي استخراج الموارد لتصنيع الأجهزة إلى إزالة الغابات وتدمير الموائل الطبيعية.
وبشكل عام، قد تؤدي زيادة الاعتماد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي إلى نمط حياة أكثر استهلاكا للطاقة، ما يزيد من الضغط على الموارد الطبيعية.
لذلك يجب أن يكون التطوير المستقبلي للذكاء الاصطناعي مصحوبا بسياسات بيئية صارمة لضمان ألا تأتي فوائده على حساب البيئة