حُكم الجغرافية: هل نحن أسرى المكان أم أبناء العولمة؟
تاريخ النشر: 3rd, February 2025 GMT
3 فبراير، 2025
بغداد/المسلة:
منتصر صباح الحسناوي
حُكم الجغرافية لم يكن يوماً مجردَ حدودٍ يرسمُها الإنسان على الخرائط ولم يكن مجردَ تضاريس تشكلت عبر الزمن بل كان دائماً سلطة خفية تصوغ الأفكار وتوجّه العقول وتزرع القناعات هكذا تعلمت من دراستي التي لا أزال اعتقد جداً أنها الأشمل، فمعرفةُ الجغرافية لا تتعلق بجبلٍ او سهلٍ فقط،
بل منظمومة علاقات لا متناهية بين الأرض وما يعلوها من الحياة بتفاصيلها ، فحيث يولدُ الإنسان وينشأ يجد نفسه محاطاً بمنظومةٍ فكرية تصوغه قبل أن يكون قادراً على مساءلتها.
يكبر الطفل وهو يستمع إلى حكايات عائلته ويرى طقوساً مجتمعهً ويتشرب قيّمه دون أن يدركَ أن كلَّ ما يراه ليس بالضرورة الحقيقة المطلقة بل هو فقط الحقيقة التي توافقَ عليها من حوله ومن سبقوه في المكان نفسه.
على مدار التاريخ شَكّلت الجغرافية سجناً غيرَ مرئيٍ للأفكار فقديماً لم يكن الإنسان يعرف سوى ما يدور في محيطه الضيق كانت المعارف تنتقلُ عبر الأجيال بطريقة شفهية أو محدودة بالكتب والمخطوطات التي لم تكن متاحة إلا لقلةٍ قليلة، كان الانتماء للمكان انتماءً للأفكار والتقاليد والقيّم التي سادت فيه ومن يخرج عنها يُنظر إليه كغريب أو متمرد أو حتى كخائن، ولكن مع تقدّم الزمن بدأت هذه الحدود تتشقق شيئاً فشيئاً مع الرحلات والأسفار ومع التبادلات التجارية والثقافية أخذ الناس يكتشفون أن هناك عوالم أخرى وأفكار مغايرة وأن ما اعتبروه حقيقة ثابتة قد يكون مجرد وجهة نظر تشكّلت بفعل البيئة وليس بفعل اليقين.
ثم جاءت العولمة التي قلبت الموازين أو هكذا بدا الأمر في البداية فمع ظهور الإنترنت وتطور وسائل الاتصال صار بإمكان أي شخص أن يرى ويسمع ويقرأ عن مجتمعاتٍ وأفكار لم يكن يتخيل وجودها من قبل، بدا وكأن حكم الجغرافية قد انهار وأن الإنسان أصبح حراً في تشكيل قناعاته بعيداً عن تأثير مجتمعه الأول لكن الحقيقة لم تكن بهذه البساطة فرغم أن التكنولوجيا فتحت الأبواب إلا أنها خلقت قيوداً جديدة بشكل مختلف فقد أتاحت للإنسان الوصول إلى المعرفة لكنها أيضاً قدمت له المعرفة التي يرغب في سماعها فقط صنعت له فقاعته الفكرية الخاصة إذ لا يرى إلا ما يعزز قناعاته وما يتوافق مع أفكاره المسبقة.
باتت وسائل التواصل الاجتماعي مثالاً صارخاً لهذا التناقض فهي في ظاهرها مساحة مفتوحة للنقاش والتعددية لكنها في باطنها تعمل وفق خوارزميات تجعل كل فرد يعيش داخل عالمه الخاص يرى فقط ما يتوافق مع ميوله الفكرية ويبتعد شيئاً فشيئاً عن أي صوتٍ مختلف.
في السابق كانت العائلةُ والمجتمعُ المحلي هما من يتحكمان في تشكيل الأفكار واليوم تقوم التكنولوجيا بالمهمة نفسها ولكن بأسلوبٍ أكثر دهاءً وأكثر إقناعاً فبدلاً من أن يبحث الإنسان عن الحقيقة في فضاء واسع يجد نفسه محاصراً داخل دائرة ضيقة من الأفكار التي يكررها له الإنترنت حتى يصدق أنه يملك الحقيقة المطلقة.
وعلى الرغم من كل هذا لا يزال تأثير العائلة والمجتمع أقوى مما نظنُّ فحتى مع كل هذا الانفتاح يبقى الإنسان متأثراً بتنشئته الأولى إذ يظل عقله محمّلاً بتلك القيم والمعتقدات التي زُرعت فيه منذ الصغر وحين يواجه أفكاراً جديدة قد يتقبلها ظاهرياً لكنه في داخله يقيسها دوماً بمعاييره القديمة وقد يقاومها إن شعرَ بأنها تهددُ معتقداته أو هويته أو استقراره النفسي فالعولمة لم تمحُ تأثير الجغرافية لكنها جعلته أكثر تعقيداً وأكثر خفاءً .
لم يعدْ الإنسان يدرك بسهولة أن ما يؤمن به قد يكون مجرد نتاجٍ لظروف نشأته وليس لحقيقةٍ كونية مطلقة.
وفي هذا السياق لا يمكن إغفال الدور العميق الذي تلعبه الجغرافية في تشكيل الهوية الفردية والجمعية فالإنسان يكتسب من بيئته ليس فقط لغةً ولهجةً بل منظومةٌ متكاملةٌ من المعتقدات والتقاليد والسلوكيات التي تتغلغل في ذاته لتشكل جزءاً من هويته الدينية والاجتماعية والوطنية فالطفل الذي يُولد في مجتمعٍ يتبنى ديناً معيناً سينشأ غالباً وفق تعاليمه وستصبح تلك التعاليم جزءاً من منظومته الأخلاقية دون أن يختارها بوعيٍ منه وكذلك الحال مع العادات والتقاليد التي تصبح جزءاً من سلوكه اليومي حتى وإن لم يكن يدرك أصولها أو أسبابها.
وفي المجتمعات التي تتسم بهويةٍ وطنيةٍ قوية يصبحُ الانتماء للوطن امتدادًا لهذا الانتماء الأولي إذ يُغرس في الفرد منذ صغره أن الأرض التي نشأ عليها ليست مجرد مساحة جغرافية بل هي ذاكرة وتاريخ وانتماء.
وفي المجتمعات التقليدية كانت هويةُ المكان تُحدد بشكلٍ واضح من هو “الأصيل” ومن هو “الغريب” أما اليوم ومع تزايد موجات الهجرة والانتقال بين الثقافات أصبحَ السؤال عن الهوية أكثر تعقيداً فهل يظل الإنسان حاملاً لهوية مكانه الأول أينما ذهب أم أنه يكتسب هوية جديدة مع تغير موقعه الجغرافي وهل يمكن أن يكون للإنسان أكثر من هوية واحدة دون أن يفقد إحساسه بالانتماء أم أن العولمة جعلت الهوية ذات طابعٍ متحرك لا يرتبطُ بمكانٍ محدد.
اليوم يجد الإنسان نفسه في معركة غير معلنة بين الانفتاح والتشبث الموروث، البعضُ يختار الانغلاق بدعوى الحفاظ على الهوية والبعض الآخر ينجرفُ وراءَ كلِّ ما هو جديد ظناً منه أن التقدم يعني القطيعة مع الماضي لكن بين هذين النقيضين هناك طريق ثالث هو طريق “الوعي”، طريق من يفهم أن الانتماء للجذور لا يعني العيش داخل قوقعة وأن الانفتاح لا يعني التخلي عن الذات بل يعني القدرة على النظر إلى الأمور بعين ناقدة بعيداً عن تحيزات النشأة ومؤثرات المكان.
وهكذا يظلُّ حكم الجغرافية قائماً لكنه لم يعد مطلقاً كما كان في السابق بل أصبح تحدّياً يتطلب وعياً وجهداً للتغلب عليه فالإنسان الذي يريد أن يكون حراً فكرياً لا يكفيه أن يملك وسائل المعرفة بل عليه أن يمتلك الشجاعة ليبحث عن الحقيقة خارج حدود ما نشأ عليه وأن يكون مستعداً للتساؤل حتى عن تلك الأفكار التي طالما اعتقد أنها مسلمات، فالمعرفة الحقيقية تبدأ عندما يدركُ الإنسان أن كل ما تلّقاه منذ صغره ليس بالضرورة الحقيقة الكاملة بل مجردُ جزءٍ من صورة أوسع قد لا يكتمل فهمها إلا إذا امتلك الجرأة على رؤية ما وراء حدود جغرافيته الأولى مع احترام هويته وتعزيزها دون التطرف.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author زينSee author's posts
المصدر: المسلة
إقرأ أيضاً:
معرض الكتاب يناقش «مستقبل الدراسات الجغرافية»
استضافت القاعة الرئيسية في معرض القاهرة الدولي للكتاب، ضمن محور قراءة المستقبل ندوة بعنوان «مستقبل الدراسات الجغرافية مهداة إلى روح الأستاذ فتحى أبو عيانة»، وحل ضيوفا عليها كل من دكتور محمد زكي السديمي أستاذ الجغرافيا الاقتصادية كلية الآداب جامعة طنطا ورئيس الجمعية الجغرافية ، دكتور محمد إبراهيم شرف أستاذ الجغرافيا ونظم المعلومات الجغرافية كلية الآداب جامعة الإسكندرية ، دكتور سامح عبد الوهاب أستاذ الجغرافيا البشرية جامعة القاهرة ، أدارت الندوة الإعلامية هدى عبد العزيز .
في البداية قالت الإعلامية هدى عبد العزيز يعتقد البعض أن الجغرافيا هو التخصص فى الخرائط فقط، ولكن علم الجغرافيا هو علم متشعب ، لدينا أنواع كثيرة من الجغرافيا لذلك علم الجغرافيا من الصعب أن نحسره فى إطار صغير .
وقال الدكتور محمد زكي السديمي عن عنوان الندوة أنه ينم على أن هناك وعيا جغرافيا، وأنه لابد لنا من تطور مستمر يواكب كل الأنشطة والتنمية ، ودورنا فى الفترة القادمة أفضل مما سبق ، الجغرافيا كانت تنقسم إلى جغرافيا طبيعية وبشرية ، بعد ذلك بدأت تخرج إلى تخصصات عدة فى كل مناحي الحياة،و انتقلت من علم معلومات إلى علم اتخاذ القرار .
وأضاف يتلخص مستقبل الجغرافيا فى استخلاص فروع الجغرافيا والتقنيات الحديثة.
وتابع : بدأت الجغرافيا تعالج الحدود، وكثير من الحدود لها كثير من المشكلات والتى يعطى خرائط وتاريخ للحدود هى الجغرافيا .
وتطرق فى حديثه إلى دور الجغرافيا فى التنمية المستدامة قائلا : أول من يهتم بالتنمية المستدامة هل الجغرافيا ، وتتخذ فيها قرار ، وذلك باستغلال أمثل للموارد الموجودة دون أن أطغى على مستقبل الآخرين .
كما تطرق إلى علاقة الجغرافيا بالبرمجة قائلا أصبحت الآن الجغرافيا من التخصصات التى تستخدم البرمجة ، وعرف الجغرافيا بأنها علم العلاقة بين الإنسان والبيئة ، والجغرافيا قامت على المقارنات بين أى ظاهرة وأخرى مما جعل تخصص البيئة من التخصصات المهمة فى الجغرافيا ، لأن الدراسة البيئية من الدراسات المهمة اليوم .
وتابع التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030 كلها تدخل ضمن الدراسات الجغرافية، وتطرق فى حديثه إلى المؤتمر العالمي للحغرافيا الذي سيقام فى أبريل القادم، والذي من أهم محاوره هو التنمية المستدامة، والذي تهدف إلى رقمنة الجهاز الحكومي، وانشاء مدن زكية ونقل زكى وكل هذا يتعلق بالجغرافيا ونحن نسير فى حداثة مع كل الأمور .
وقال دكتور محمد إبراهيم شرف ، فى الآونة الأخيرة حدث جدل كبير فى وسائل الإعلام بشأن الجغرافيا ، و حذفها من المناهج والتساؤل حول أهمية دور الجغرافيا ، أحب أن أرد على ذلك بأن أولادنا خريجي قسم الجغرافيا منتشرون فى كل مكان فى جميع أنحاء الجمهورية، كل من تخرج حصل على وظائف فى كل مكان ، يعملون فى الضبعة ، وفى العاصمة الإدارية،و فى موانيء الإسكندرية ، مضيفا : أقول للمجتمع ووسائل الإعلام إن طلاب قسم الجغرافيا فى غاية الأهمية بدليل أنهم موجودون فى أهم المشروعات القومية، ومن هنا تظهر قيمة الجغرافيا وهذا يرتبط بالمناهج التعليمية جميعنا تروس فى آلة واحدة، والجغرافيا هى علم تدبر للمحيط الذي نعيش فيه.
ثم تحدث عن المناخ وقضية التغير المناخي، وقال الطاقة عندما تنتقل من الشمس للأرض هى التى تصنع الحالة المناخية ، والمناخ هو المؤثر الأساسي الذي يوجه كل شخص ، فعندما صنعنا القرى السياحية واستصلحنا الأراضي الصحراوية وعندما أنشأنا المزارع السمكية كانت نيتنا طيبة، ولكن ترتب عليها مشكلات مناخية .
وأوضح : الأرض مخلوقة على الصلاح والشمس ترى الأرض ألوانا ، ولكننا غيرنا الألوان وتغيرت النسب، واليابس أصبحت ماء والعكس، لذلك اختلفت نسب الانعكاس والطاقة المرتدة لذا كان ذلك السبب الأول وراء تغير المناخ .
السبب الثاني هو الفضلات العضوية والمخلفات الغازية، كلها غازات أضيفت للغلاف الجوي الصالح وغيرت النسب .
وقال دكتور سامح عبد الوهاب ،كلامنا عن مستقبل الجغرافيا أصبح ضرورة ملحة لإعادة صياغة بعض المفاهيم العلمية ، ونحن نهدي هذه الجلسة للراحل فتحي أبو عيانة، لذلك سأرصد الصفات المشتركة بين الجغرافيا ودكتور فتحى أبو عيان.
وأضاف: استخرجت من شخصية أبو عيانة وشخصية الجغرافيا مجموعة من المصطلحات والمفاهيم مثل التوازن، التجدد ،الكلية، التباين ،الشخصية المنهج، الأدوات ،فهو كان لديه رؤيته ، وعنده مفتاح لإدراك الماضي والمستقبل .
وأضاف التطورات التى تحدث ومستقبلها يرتبط ب ٣ مسارات، الجزء الأصولي،و الجزء التطبيقي، وثالثا أدوات الجغرافيا ،كل واحد ليهم دور حالي ومستقبلي .
وتناول فى حديثه الجغرافيا السياسية قائلا إلى أى حد هذا التغير الحالي فى الجغرافيا والمخاطر المستقبلية ترتبط بالجغرافيا السياسية ، فى هذا الوقت من التاريخ وعندما نجد بعض التطورات المقترحة على نظام البكالوريا ،ورفع الجغرافيا من التعليم ، أقول إن الجغرافيا السياسية كانت المكون الرئيسي فى تقسيم الوطن العربي وأخيرا خريطة ترامب بإعادة تشكيل الخريطة مرة أخرى ، هل فى هذا الوقت من التاريخ يأتي من يتحدث عن إزالة الجغرافيا ؟! ،الجغرافيا فى الأصل مسألة دائمة والآن أصبحت أكثر أهمية .
وبحديثه عن تطور أدوات الجغرافيا، قال إن الطائرات المسيرة أصبحت مهمة فى عمليات الرفع الميداني والرصد الميداني وأيضا الحروب وادعو أننا فى مصر نستخدمها ، فالجغرافيا مع وجود البيج داتا« big data » يصبح لها أهمية كبيرة للغاية .
وعدد التحديات المستقبلية للجغرافيا فى العولمة،
الرقمنة، والتنمية المستدامة ،التغيرات الديموجرافية وإعادة تشكيل السمات ، حركات الهجرة المشروعة وغير المشروعة .