الأمن العربي من غزة إلى السودان
تاريخ النشر: 3rd, February 2025 GMT
محمد بن سالم البطاشي
تتعاور سهام الكيد والتآمر والغدر جنبات هذه الأمة؛ فأينما تولي وجهك تلاقي أزمة في كل ركن وزاوية ويخرج لك ألف نيرون وألف فرعون وألف دراكولا في شكل استعمار جديد طامع في مُقدرات وثروات هذه الأمة مستبيحًا سيادتها وأمنها وحقوق سكانها، وناهبا لثرواتها وممزقا لوحدتها.
إنَّ المتأمل لما جرى ويجري في كل من غزة والسودان يُدرك على الفور حجم المؤامرة التي تتعرض لها الدول العربية جميعًا بدرجات مختلفة، مؤامرات بعضها خفي وبعضها شاهرًا ظاهرًا ولكنها جميعًا تنبع من مِشكاة واحدة وتهدف إلى الوصول إلى غاية معلومة، ولو تعددت الطرق والوسائل، ولكن الهدف يبقى ثابتًا، ألا وهو تفتيت هذه الأمة ومنع أو إفشال أية محاولة للتقارب أو الاتحاد وقطع سبل الاتصال والتواصل بينها وتجزئة المُجزَّأ وتفتيت المُفتَّت وتشكيك الأمة في ثوابتها ورموزها وتاريخها ودينها، وبث الخلاف والاختلاف والفرقة بين أبنائها وتأصيل سياسة فرق تسد بأساليب شتى لتبقى هذه الأمة منشغلة بخلافاتها فلا تتقدم ولا تتطور فلا الأمل ينبت في أرضها فضلاً عن أن يورق أو يزهر ويثمر كبقية أراضي الأمم؛ بل يُراد لها أن تتقهقر وتنكمش وتتراجع سنة بعد أخرى، لتبقى المصالح والأطماع الخارجية متجذرة متأصلة وتصبح واقعًا لا فكاك منه وكأنه قدرها المحتوم.
ما يحدث في غزة والسودان من جرائم الإبادة الجماعية والنهب وفظائع يُندى لها الجبين وتنفر منها الفطرة السوية وتقشعر لها الأبدان، هو نتيجة طبيعية لهذه التدخلات الخارجية التي تدفعها أهداف اقتصادية ودينية وسياسية وعنصرية، تتحرك ضمن منظومة متكاملة من الغايات والمرامي البعيدة المدى والتي تهدف إلى تكريس الهيمنة الاستعمارية من جديد بعد أن حمل المستعمر عصاه ظاهريا ولكنه نصب تلاميذه ومريدوه وكل عميل وخائن وطامع حكاماً على بعض هذه الدول ليسهل عليه التحكم في مصائرها ومُقدراتها.
لقد تصدَّت غزة لأخطر هجمة في تاريخها وكان العدو- كما أعلن بنفسه- لا يقبل بأقل من القضاء على المقاومة وتهجير أبناء القطاع خارج غزة لتبقى أرض غزة خالصة لقطعان المستوطنين، ليخلو له بعد ذلك وجه غزة وعندها سيجد فرصته لتمرير مُخططات السيطرة على القطاع ونهب ثرواته الهائلة من الغاز، وإقامة خطوط التجارة والإمداد من الهند شرقا إلى أوروبا غربا، لكن الذي حدث كان شيئًا لا يُصدق وفاجأ الصديق قبل العدو؛ حيث أذهل هذا القطاع البشرية بأكملها بفضل صموده الأسطوري وقدرته على رد الصاع صاعين وتكبيد العدو خسائر بشرية ومادية لا تطاق، وغدت المقاومة وأبناء غزة كلهم ظاهرين وقاهرين لعدوهم وله غائظين، فخرجت المقاومة من المعركة وهي مرفوعة الرأس مهيبة الجانب تملي شروطها والعدو يتجرعها وكأنها كأس من حميم أو شجرة الزقوم، وقد رأى كل أحلامه وأهدافه المعلنة والخفية تتبخر بعد أربعمائة وسبعين يوماً من القتال الضاري، ذلك إنه بالرغم من قوافل الشهداء الذين ارتقت أرواحهم الطاهرة إلى بارئها ورغم الدمار والتشرد والمعاناة الشديدة إلا أن الشعب في غزة لم ينكسر ولم يسلم، بل خرج أقوى شكيمة وأصلب عودا وأكثر تمسكا بأرضه وتضاعف التفافه وتفاخره بمقاومته الباسلة، وبدأ إعادة بناء أو ترميم ما هدمته آلة العدوان الغاشم وكله أمل في مستقبل مشرق وغد أفضل.
أما السودان فقد تعرض لمؤامرة متعددة الأطراف أفقدته أمنه واستقراره وسيادته وشردت أبناءه في شتى بقاع الأرض بدون أي ذنب أو جريرة سوى إن بلادهم مليئة بثروات وخيرات لم تخطر على قلب بشر، فأضحى السودان مقصدا لكل طامع وناهب ومرتزق وقاطع طريق وموئلا لكل فكر منحرف ضال وأطلت الفتنة بوجهها البغيض لتكون خنجرا في خاصرته وأداة في يد الطامعين والحاقدين الذين لا دين ولا ذمة لهم، ولكن الشعب السوداني المُثقف الواعي وجيشه المغوار تصدوا لهذه المؤامرة القذرة والهجمة الشرسة بكل بسالة وعزم وتصميم وإيمان وخاضوا المنازلة الكبرى في معارك الشرف والكرامة وقدموا في سبيل ذلك أغلى ما يملكون عن طيب نفس، ولم يفقدوا الأمل ولو للحظة بعدالة قضيتهم وقدرتهم على إفشال المؤامرة والخروج بالسودان الشقيق إلى بر الأمان، وقد استجاب الله لهم وبارك سعيهم وحقق لهم الانتصار بعد عناء وجهد كبير وأحيط بمعاقل الإرهاب فأضحت تتساقط واحدة تلو أخرى وكأنها في قلب الليل البهيم حيث الفراش ينقض على اللهب كأنما يدفعه قدره إلى احتضان الموت، ترى أجنحته تتراقص في الهاوية، حيث تذوب في لهب لا يرحم، ولا غرابة في ذلك فالحق دائمًا أبلج والباطل لجلج باستمرار.
لقد كانت الفرحة لا توصف بخبر فك الحصار عن مقر القيادة العامة من قبل الجيش السوداني الباسل بعد أكثر من سنتين من الحصار المطبق ضرب فيها أفراد القوات المسلحة السودانية أروع الأمثلة على البطولة والاستبسال والتضحية من أجل الوطن والمبادئ في ملحمة وطنية سيسطرها التاريخ بأحرف من نور، وما كان قبل ذلك من تحرير لأجزاء واسعة من السودان الشقيق. ويعد هذا النصر المؤزر خطوة كبيرة في سبيل إنهاء هذه الحرب اللعينة وقبس من نور في مسيرة السودان التاريخية المُظفَّرة؛ حيث يُواصل الجيش السوداني وخلفه الشعب السوداني تطهير أرضه من المجرمين وأهل الحرابة وأدواتها ممن تنكبوا الطريق السوي وعاثوا في الأرض فسادًا شديدًا؛ حيث تتواصل مسيرة تحرير باقي المدن والمناطق السودانية واحدة تلو أخرى وبذلك يحكم الجيش قبضته على المزيد من أرض السودان المترامية الأطراف، وإننا في عُمان كلنا أمل وثقة في قدرة الشرعية السودانية على الخروج من هذه الجائحة والفتنة الكبرى سليماً معافى وقد تجاوز آثار ما خلفته الحرب من مآس ونكبات وعبور الطريق إلى بر الأمان الكامل والمستقبل الزاهر.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الإفتاء: الجهاد مفهوم شرعي دقيق وله شروط وأركان ومقاصد واضحة شرعًا
أصدر مفتي الديار المصرية، الدكتور نظير عياد، بيانا بشأن ما صدر مؤخرًا من دعوات تدعو إلى وجوب الجهاد المسلح على كل مسلم ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتطالب الدول الإسلامية بتدخل عسكري فوري وفرض حصار مضاد.
وقال مفتي الجمهروية، عبر بيانه اليوم، الإثنين، إن دار الإفتاء في إطار المسئولية الشرعية، وبناءً على قواعد الفقه وأصول الشريعة الإسلامية فإن الجهاد له مفهومٌ شرعيٌّ دقيق.
وأضاف أن الجهاد يُبنى على شروط وأركان ومقاصد واضحة ومحددة شرعًا، وليس من حق جهة أو جماعة بعينها أن تتصدر للإفتاء في هذه الأمور الدقيقة والحساسة بما يخالف قواعد الشريعة ومقاصدها العليا، ويعرِّض أمن المجتمعات واستقرار الدول الإسلامية للخطر.
ثانيًا: تؤكد دار الإفتاء المصرية أن دعم الشعب الفلسطيني في حقوقه المشروعة -واجب شرعي وإنساني وأخلاقي، لكن بشرط أن يكون الدعم في إطار ما يحقق مصلحة الشعب الفلسطيني، وليس لخدمة أجندات معينة أو مغامرات غير محسوبة العواقب، تجرُّ مزيدًا من الخراب والتهجير والكوارث على الفلسطينيين أنفسهم.
ثالثًا: من قواعد الشريعة الإسلامية الغرَّاء أن إعلان الجهاد واتخاذ قرار الحرب والقتال لا يكون إلا تحت راية، ويتحقق هذا في عصرنا من خلال الدولة الشرعية والقيادة السياسية، وليس عبر بيانات صادرة عن كيانات أو اتحادات لا تمتلك أي سلطة شرعية، ولا تمثل المسلمين شرعًا ولا واقعًا، وأي تحريض للأفراد على مخالفة دولهم والخروج على قرارات ولي الأمر يُعدُّ دعوة إلى الفوضى والاضطراب والإفساد في الأرض، وهو ما نهى عنه الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: إن الدعوة إلى الجهاد دون مراعاة لقدرات الأمة وواقعها السياسي والعسكري والاقتصادي -هي دعوة غير مسؤولة وتخالف المبادئ الشرعية التي تأمر بالأخذ بالأسباب ومراعاة المآلات، فالشريعة الإسلامية تحث على تقدير المصالح والمفاسد، وتحذر من القرارات المتسرعة التي لا تراعي المصلحة العامة، بل قد تؤدي إلى مضاعفة الضرر على الأمة والمجتمع.
خامسًا: من قواعد الشرع أن من يدعو إلى الجهاد يجب عليه أولًا أن يتقدم الصفوف بنفسه، كما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات بدلا من استثارة العواطف والمشاعر، تاركين غيرهم يواجهون العواقب.
سادسًا وأخيرًا: من الحكمة والمقاصد الشرعية أن تتجه جهود الأمة الإسلامية نحو العمل الجاد من أجل إيقاف التصعيد ومنع التهجير، بدلًا من الدفع نحو مغامرات غير محسوبة تُعمِّق الأزمة وتزيد من مأساة الفلسطينيين.
وختمت الدار بيانا بالتأكيد على ضرورة التحلي بالعلم والحكمة والبصيرة، وعدم الانسياق وراء شعارات رنانة تفتقر إلى المنطق والواقعية.