بوشكين.. الشاعر الخالد
تاريخ النشر: 3rd, February 2025 GMT
عيسى الغساني
الأدب كان ولا يزال القوة الأخلاقية الدافعة والمُحركة للنبل الإنساني والسمو الفكري وتعزيز قيم الكرمة الإنسانية، في ضمير ووجدان الفرد والمجتمع؛ فالحضارات في أوج نهوضها يكون وقودها الأدب الرفيع والقيم الإنسانية الخالدة، ويبرز إلى الواجهة الأدباء والمفكرون والفلاسفة بمختلف تجلياتهم الأدبية.
الروايات والقصص والشعر ليست سوى كلمات تشكل جملاً لتعطي معنى وتلك الكلمات والجمل والعبارات توقد شعلة الروح لتضيء نورًا يشع إلى خارجها. يقول الأديب والمُفكِّر اللبناني ميخائيل نُعيمة "الأدب هو الشعلة التي تُضيء الدروب المظلمة للإنسانية، وتفتح الأبواب المغلقة في وجه الحقيقة"، وكل شعوب الأرض بمختلف مشاربهم وأهوائهم شركاء في ما يقدمه الأدباء؛ ذلك أن الفكر الإنساني والأدبي، يتوارث ويتناقل ويؤثر ويتأثر به، أيًّا كانت اللغة أو المكان الذي أتى منه.
وشاعر روسيا الفذ وأديبها العملاق فكرًا وروحًا وتأثيرًا ألكسندر بوشكين (1799- 1837) والفتيَّ المتَّقِد والمتوهِّج روعةً وجلالًا والذي بعد مُضي أكثر من 200 سنة على وفاته، لا يزال ذلك الضياء يشع نورًا يضيء دروبًا للسالكين في أعماق الروح، كما تتساقط حبيبات الثلج على موسكو بلونها الصافي حتى يخالها الناظر حبات ألماس.
تلك التجليات في "قصيدة النبي"، حاضرة في الوجدان الإنساني، ليس من كونه مؤسسًا للأدب الروسي الحديث فحسب؛ بل مؤسس لمدرسة أدبية إنسانية في أعماقها الإنسان حاضرًا بذاته وقيمه.
بوشكين أخذ أفضل ما في الشرق والغرب، أخذ القيم الصافية والصادقة التي تجعل حرية الإنسان وكرامته هي غذاء في كل ما قدمه من شعر وأدب.
يقول بوشكين: "الشعر هو روح الأمة؛ حيث يُعبِّر عن أعمق مشاعرها وآمالها.. الأدب هو التاريخ الحي للأمة". وفي "قصيدة النبي" تتجلى قوة الكلمات وأثرها: "وأضرم نفوسهم بالكلمة السماوية، اذهب وانطق بالحق النقي، لا تخشى، ولا تساوم، ولا تنحرف".
هذه القصيدة تمثل عُمقًا روحيًا داخليًا ذا بُعد صُوفيٍّ، والرسالة هنا أن الشاعر ليس كاتبًا فحسب؛ بل صاحب رسالة أخلاقية تنبضُ بالحق، وتكون مُلهمة للمجتمع.
يري بوشكين في "مرثية النصب"- التي كتبها لنفسه- أن إرثه الشعري سيظل خالدًا، وأن كلماته ستعيش في ذاكرة الأجيال أكثر من أثر مادي أو نصب تذكاري، وأن نَثْرَهُ وشِعْرَهُ وكلماتهُ ستكون مصدر إلهامٍ لكل الأمم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
جـورج باتـاي.. فيلسوف الأدب والـمستحيـل
الفاهم محمد
جورج باتاي (1897-1962) مفكر فرنسي يصعب تصنيفه ضمن تخصّص واحد، حيث تتداخل في أعماله الأدب والفلسفة والاقتصاد والتصوف بطرق مبتكرة. عُرف باتاي بأفكاره الجريئة حول مواضيع مثل العنف والطقوس والكتابة والموت.. وهي مواضيع تستهدف في المجمل استكشاف التجربة الإنسانية على حافة الوجود. يتميز باتاي بابتكاره لجهاز مفاهيمي فريد، يُعتبر من أهم إسهاماته الفلسفية. من بين هذه المفاهيم: «الحصة الملعونة» التي تُبرز دور الفائض والإنفاق غير المنتج في الاقتصاد، و«المستحيل» الذي يعكس سعي الإنسان الدائم نحو تجاوز الحدود المادية والروحية.. وغيرهما.
هذه المفاهيم لا تُساهم فقط في فهم التجربة الإنسانية بشكل أعمق، بل تُقدّم أيضاً أدوات تحليلية لفهم الظواهر الاجتماعية والثقافية المعاصرة، مما يجعل فكر باتاي ذا أهمية كبيرة في الفلسفة والنقد الثقافي. ويمكن صياغة التساؤلات الأساسية التي يدور حولها فكره فيما يلي: تُواجه أفكار جورج باتاي عدداً من الانتقادات المهمة. أولاً، يُعتبر أسلوبه في الكتابة غامضاً وغير واضح، مما يجعل أفكاره بعيدة عن الجمهور العام. يُشير النقاد إلى أن هذا الغموض قد يحول دون فهم رسالته بشكل فعّال. ثانياً، يُنتقد باتاي لتركيزه المفرط على العنف كجزء من التجربة الإنسانية، مما قد يُعزز من النظرة السلبية تجاه البشر. ومع ذلك، يُبرر مؤيدوه أن العنف يمكن أن يُعتبر وسيلة للتعبير عن الحرية والرغبة في الوجود. وأخيراً، يُنتقد باتاي لعدم تقديمه حلولاً عملية لمشكلات العنف والشر، مما يجعل أفكاره تبدو نظرية بحتة. في حين يعتبر مؤيدوه أن تركيزه على التحليل الفلسفي، هو جزء أساسي من فهم الظواهر بشكل أعمق قبل البحث عن الحلول.
كيف يمكن للفائض أن يكون مصدراً للتوازن الاجتماعي والاقتصادي، رغم كونه «ملعوناً» من وجهة نظر الاقتصاد التقليدي؟ ما حدود الحرية الإنسانية؟ وكيف يمكن أن يُعبّر العنف عن رغبة الإنسان في التحرر من القيود؟ وكيف يُعيد باتاي تعريف العلاقة بين الجسد والروح؟
يُعتبر مفهوم «الاقتصاد العام» من أبرز أفكار جورج باتاي. في كتابه «الحصة الملعونة» (LaPart maudite). من خلاله يُسلط باتاي الضوء على الفارق بين الاقتصاد التقليدي، الذي يركّز على الربح والكفاءة والمردودية، وبين الاقتصاد العام الذي يتناول الفائض والطاقة الزائدة. وفقاً لباتاي، يجب أن يُستهلك جزءٌ من الثروة بطرق غير مربحة، وهذا الجزء الذي لا يدخل ضمن المنطق الاقتصادي التقليدي، هو ما يطلق عليه «الحصة الملعونة».
إنه جزء من الثروة يجب أن يُهدر، أو يُستخدم بطريقة غير منتجة، على الأقل بالمعنى المادي المباشر كما هو في النظام الاقتصادي. في فكر باتاي، تدخل هذه الحصة في مجالات غير ربحية كالاحتفالات والفنون، وبالتالي ينظر إليها باعتبارها إنفاقاً ملعوناً من وجهة نظر الاقتصاد التقليدي. غير أن باتاي يرى أن هذا الإنفاق والتبديد للخيرات ضروري لتحقيق التوازن داخل المجتمع.
من الملاحظ أن هذه الحصة الملعونة، لعبت دوراً إيجابياً في المجتمعات التقليدية. لأنها منعت تراكم الفائض بشكل مفرط معزّزة الوحدة والتضامن بين أفراد المجتمع. أما في المجتمعات المعاصرة، فتتجلى نماذج تطبيقات هذا المفهوم في مجالات عدة. على سبيل المثال، في عالم الموضة السريعة، تُهدر كميات كبيرة من الملابس كل عام في سياق إنتاج غير مستدام، مما يُعكس كيف أن الفائض يُعتبر عبئاً بيئياً.
أيضاً، في مجال التكنولوجيا، تُتلف الأجهزة الإلكترونية سريعاً نتيجة للإنتاج الزائد والابتكار المستمر، مما يؤدي إلى تزايد النفايات الإلكترونية.
وهكذا توفر حقبة ما بعد الحداثة والرأسمالية المتأخرة، أرضاً خصبة لفحص أفكار باتاي. فالإفراط الاستهلاكي الحديث غالباً ما يفتقر إلى الأبعاد المقدسة أو المجتمعية، التي حددها باتاي في أشكال الإنفاق السابقة. إنه إفراط احتفالي مشهدي، يدور في فلك الاستهلاك والترفيه. المستحيل وتجاوز الحدود في كتابه «المستحيل» L’Impossible، يقدم جورج باتاي تأملات فلسفية عميقة حول طبيعة المستحيل ودوره في التجربة الإنسانية. يتناول باتاي كيف أن السعي نحو ما هو غير ممكن، هو ما يشكِّل جوهر الوجود البشري.
على سبيل المثال ليست الرغبة مجرد حاجة مادية، بل هي قوة دافعة تدفع الأفراد للبحث عن الاتصال الروحي، والتجارب التي تتجاوز حدود الواقع. يقول باتاي: «إن التجربة الإنسانية الحقيقية توجد ما وراء المستحيل» مما يعكس إيمانه بأن ما يُعتبر مستحيلاً هو ما ينقل الإنسان إلى عمق تجربته. علاوة على ذلك، يُبرز باتاي في «المستحيل» فكرة العبثية، حيث يُعتبر السعي نحو غير الممكن، هو ما يجسّد التوترات الوجودية للإنسان، الذي يعيش في حالة من التناقض بين الممكن والمستحيل. كما تتناول كتاباته فكرة الطقوس والتجربة الروحية، حيث يُعتبر السعي نحو المستحيل تعبيراً عن الحاجة للاتصال بالمقدس. في كتابه «التجربة الداخلية» يشير إلى أن «التعالي هو في قلب التجربة الإنسانية».
هذا يُظهر كيف أن الطقوس تُعتبر وسيلة للتواصل مع ما هو غير مرئي، مما يعكس رغبة الإنسان في تجاوز محدودياته. هكذا يمكن اعتبار مفهوم المستحيل L’Impossible كتأمل فلسفي متكامل يُعبّر عن صراعات الإنسان مع الرغبة، والاتصال الروحي. فالمستحيل ليس مجرد غياب للقدرة، بل هو قوة دافعة تُثري التجربة الإنسانية، وتفتح آفاقاً جديدة للفهم. الأدب والشر يعتبر باتاي أن الأدب نافذة لاستكشاف الجوانب المظلمة من النفس البشرية، حيث يربط بين الأدب والشر بطريقة عميقة ومعقدة.
في كتابه «الأدب والشر» (la Littérature et mal)، يسلط الضوء على كيفية تجسيد الأدب للعنف والرغبات الجسدية، ويعتبرهما جزءاً لا يتجزأ من التجربة الإنسانية. بالنسبة لباتاي، فإن الأدب ليس مجرد وسيلة للتسلية أو الترفيه، بل أداة قوية لفهم الصراعات الداخلية التي يعيشها الأفراد. بالإضافة إلى ذلك، يُظهر كيف أن الأدب يمكن أن يكون وسيلة لاستكشاف الشر من منظور فلسفي. فمن خلال تقديم شخصيات معقدة ومتناقضة، يُبرز الأدب كيف أن الشر ليس مجرد فعل عادي، بل هو تعبير عن التوترات الإنسانية العميقة. على سبيل المثال، يمكن أن نرى في روايات مثل «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي كيف أن الشر يُعتبر نتيجة للصراعات الداخلية والظروف الاجتماعية. هذا النوع من الأدب يُعتبر وسيلة لفهم الشر كجزء من النفس البشرية، وليس مجرد ظاهرة خارجية. علاوة على ذلك، يُعتبر الأدب وسيلة لمواجهة القمع والظلم. فمن خلال سرد القصص التي تتناول العنف والاضطهاد، يمكن للأدب أن يُسلط الضوء على الأسباب الكامنة وراء هذه الظواهر، مما يُسهم في فهمها بشكل أعمق. ويشير باتاي إلى أن هذا العنف، رغم كونه مُحاطاً بالتحفظات الأخلاقية، يمكن أن يكون تعبيراً عن رغبة الإنسان في التحرر من القيود.
أفكار وانتقادات
تُواجه أفكار جورج باتاي عدداً من الانتقادات أولها أن أسلوبه غامض مما يجعله بعيداً عن الجمهور العام في كتابه «المستحيل» يقدم باتاي تأملات فلسفية عميقة حول طبيعة المستحيل ودوره في التجربة الإنسانية