في كل مرة أمر فيها على بيت الشنفرى في لاميته الذي يقول فيه: (وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى * وفيها لمن خاف القلى متعزّل) أو الأبيات العمانية الشعبية التي تتمثل بنباتات الأرض وطبيعتها لتصف فيها موقفًا أو محبوبةً، أتساءل: متى فقدنا ارتباطنا بالأرض؟ وفي كل مرة أزور فيها المزارع لأجد بعض كبار السن إلى جانب كثير من الأيدي العاملة الوافدة يعملون في الزراعة، أسأل السؤال نفسه، وتأتي الأسئلة تباعًا، المتعلقة بالسببية والكيفية.
إن تعلق العمانيين بالأرض قديمٌ جدًا، ويُمكن ملاحظة أن أغلب القرى قامت على الزراعة، إذ إنها قريبة منها ويُمكن الوصول إليها مشيًا على الأقدام، لتكون تلك المناطق مكانًا للعمل وتحصيل المال، لذلك في كثير من المناطق العمانية تسمى هذه المزارع بـ«المال»، فيقال مثلا:«رايح المال»، دلالة على أنها مصدر الرزق والمعيشة. وبعض القرى لم تبن بالقرب من المزارع فحسب، بل داخلها، فتجد على سبيل المثال مسجد النخيل في القريتين بإزكي تحيط به النخيل والمزارع من الجهات الأربع، وخذ مثالا آخر أكثر جمالًا، وهي قرية سرور في سمائل، إذ إنك تمشي في الحارة وترى النخيل والأشجار تحيط بك، ويمرُّ منها الفلج، وقِس عليه باقي المناطق الريفية السكنية، هذا الارتباط بالأرض ينبئ عن أهميتها ومركزيتها في الفكر الاجتماعي بل والسياسي العماني، وأنها تمثل نقطة التقاء متطلبات الحياة، من سكن وعمل واجتماع مع الآخر الذي يسكن في المجتمع نفسه.
تشكل هذه المزارع قيمًا عديدةً، منها القيمة الاجتماعية، فإن الناس قديمًا كانوا يلتقون فيها بين عاملٍ وماشٍ وزائر، كل هؤلاء يلتقون في كثيرٍ من الأحيان في هذه المزارع ويتبادلون الأحاديث مع بعضهم، فالصغير فيها يتعرف على الكبير، ويحصل نوع من التقارب والألفة بينهم. هذا النوع من التعارف والمعرفة يشكّل مجتمعًا يفكّر بصورة جماعية، وعلى الرغم من بعض المناوشات التي لا بد لها أن تحصل في أي أمر متعلق بالأموال والمعيشة عادة، فإنها غالبًا ما تؤول إلى توافق ورضا بين الأطراف المتنازعة، ويغلب فيها الطبع المكتسب من البيئة الذي يقضي بأن الناس لا يستطيعون العيش لوحدهم، وأن هذا المتنازَع معه هو من سكان البلد أو أقرب من ذلك؛ هو من العائلة، ولذلك، على الرغم من النزاعات، فإنها غالبًا ما تلتقي في نقطة وسطية تصالحية بين الطرفين، لا سيما إذا حكم بينهما من يرتضون حكمه، وفي هذا إعلاء لقيمة الجماعة على الفرد، والإيثار بدلا من الأنانية. هذه قيمة فقدها الكثير منا فأصبحت النفوس أكثر ضيقًا.
ومنها كذلك القيمة الاقتصادية لهذه المزارع، فإن العمل على منظومة الأمن الغذائي الذي يعمل عليه برنامج (تنويع) يُمكن الاستفادة فيه من هذه المزارع، وهو بالفعل يقوم بذلك، فإن ما تشكله هذه المزارع من فائدة ليس فقط في الاقتصاد الجزئي وإنما يُمكن أن يؤثر على الاقتصاد الكلي أيضا، فالعودة إليها هو نوع من المساهمة في التنويع الاقتصادي الذي يتطلبه تحقيق «رؤية عمان 2040» وإذا أدركنا ذلك، فإن لها قيمة اقتصادية بالنسبة للأفراد كذلك؛ لأنه يشكّل مصدر دخل ثانويًّا، فإذا كان الأجداد اعتبروا هذه المزارع مصدر دخل رئيسًا، وقد تحصل من بعدهم على هذا الدخل -بل أضعافه- من مصدر آخر، لا يعني ذلك أن الأمر متوقف عند هذا الحد ويجب إهمالها، بل يُمكنها أن تشكل نوعًا من مصدر دخل ثان يُمكن تنميته وزيادة الإنتاج فيه بالطرق الصحيحة والحديثة المتوافقة مع التقنيات الحديثة.
أضف إلى كل ذلك القيمة الصحية، فإن العادة جرت أن المهتمين بالمزارع تجدهم أكثر نشاطًا وحركة جسدية من الآخرين، إذ إن العمل فيها يقتضي ذلك، فخذ مثالا عليه، وقت الصيف المعروف بـ«القيظ» حيث تثمر النخيل وتبدأ تباشير الرطب، ويكون العمل فيه أكثر من بدء العملية وحتى انتهائها، فراقب ذاك النشاط من الفجر حتى الظهر، في لوحة فنية تشبه القصيدة، ولذلك فإن هذه الحركة الجسدية تضيف حيوية وتجدد الروتين اليومي، ومن خلال هذه الحركة يُمكن أن تكون الكثير من متعلقات الأمراض النفسية أقل وطأة على أصحابها، إذ أن التكاسل وكثرة الجلوس والانعزال مظنة لتكالبها وتزايدها. لا يعني هذا القول إن العمل في المزارع هو شفاء للأمراض الجسدية والنفسية، فهذا قول جاهل، لكنه يعني تجدد الحركة والنشاط والتقاء الناس والحديث معهم، وبالتالي يُمكن أن يكون من ضمن خطوات الشفاء.
الآن السؤال الذي يجب طرحه هنا: لماذا فقدنا ارتباطنا بالأرض رغم كل هذه القيم وغيرها؟ الجواب، يُمكن أن يطول ويحتوي على تفصيل كثير، لكن اختصارًا يُمكن القول: إن الحياة الحديثة المعتمدة على المدنية والرفاهية والراحة والفردانية، قد أفقدتنا الشعور بهذه القيم جميعها، بل ربما النظر بازدراء إلى هذا العمل في إطار قيمته المادية فقط وما يصاحبه من تعب وشقاء، وقد يُحتج على هذا الطرح بأن الأوائل كانوا يعملون فيها بسبب الحاجة، أما وقد انقضت فليس الانشغال بها مهمًا أو ذا جدوى، فأقول إن كان الأوائل محتاجين للمال منها، فنحن أحوج بها منهم؛ لأن الأمر ليس متعلقا بالمال في الأساس في الوقت الحالي، وإنما متعلق بالهوية والمجتمع وتعاضده والصحة وغيره. من الأسباب الأخرى كذلك، هي عدم وجود أنسنة للأحياء، خاصة في المدن الكبرى، أضف عليه عدم وجود التشجير. فإن المرء الذي يعيش في المدن الكبرى مثل مسقط، قد تمر عليه الأسابيع دون رؤية مجموعة أشجار عند بعضها، وهو مع كل اللهو في حياته العملية المعتمدة على السرعة غالبا، يفقد من ذاته أكثر كل يوم دون أن يدرك، حتى إذا عاد لقريته في وقت ما، شعر بأنه غريب عنها، لا يعرفها ولا تعرفه، ورأى أن الحياة يُمكن أن تعاش ببطء، بل ربما أدرك أن السرعة أخذت من عمره وذاته وربما روحه بمقدار ما ألحقت به ضررًا وأورثته غربةً وسقامًا.
أقول، يجب أن نعود للأرض، ونعيد محاولة الارتباط بها، حتى تعرفنا ونعرفها، فإن استمرارنا في هذا الابتعاد عنها يؤذينا أكثر مما يؤذيها، فإن الحياة الحديثة تحتم علينا العيش بمادية وفردانية، والأرض تخبرنا أن نعود لأرواحنا وذواتنا وأن نفكر في الجماعة كما نفكر في أنفسنا، لكن لأننا نتجاهل هذا الصوت يصبح الأمر أكثر توحشًَا في كل يوم، فإن إلقاء القمامة، على سبيل المثال، في أي مكان دون مبالاة أصبح اعتياديًّا دون الالتفات لكيف يُمكن أن يضر ذلك بالبيئة التي نعيش فيها ونتركها للأجيال التي تلينا، وفي الجانب المقابل، كم رأيت أشخاصا ممن يعملون في المزارع يهتمون بها وبطرقاتها وأفلاجها من حيث النظافة والترتيب، بل والحرص على نوعية وكمية المواد الكيميائية التي يضيفونها لها، كأنهم يهتمون ببيوتهم؛ لأن الصلة بينهم وبينها تتعدى الإطار المادي لإطار أكثر عمقًا وصلابة.
جاسم بني عرابة كاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه المزارع العمل فی ی مکن أن کثیر من
إقرأ أيضاً:
رسالة ناج من تيتانيك تباع بسعر خيالي.. هذا ما وجد فيها
#سواليف
رغم مرور 113 عاماً على #الكارثة_البحرية التي وقعت سنة 1912، لا تزال #أسرار #سفينة_تيتانيك تتكشف.
رسالة لأحد الناجين تباع بسهر خيالي
فقد بيعت رسالة كتبها أحد الناجين من الكارثة السبت، بمبلغ قياسي بلغ 300 ألف جنيه إسترليني في مزاد علني.
بالتفاصيل، كشف تقرير بريطاني جديد أن أحد ركاب الدرجة الأولى من السفينة المنكوبة وهو الكولونيل أرشيبالد جرايسي، كان ألف كتاب “الحقيقة حول تيتانيك”، والذي وصف فيه تجربته في مأساة 15 أبريل 1912 التي أودت بحياة 1500 شخص في رحلة السفينة إلى نيويورك.
كما أضاف أن بطاقة الرسالة التي تحمل تاريخ 10 أبريل 1912، وهو اليوم الذي صعد فيه الرجل على متن السفينة، وتحمل ختم بريد كوينزتاون الساعة 3.45 مساءً في 11 أبريل ولندن في 12 أبريل، قد بيعت بسعر خيالي، وفق لصحيفة “الغارديان”.
مقالات ذات صلةوورد في الرسالة ما مفاده: “إنها سفينة جميلة ولكنني سأنتظر نهاية رحلتي قبل أن أحكم عليها”.
وفي زاوية أخرى كتب: “السفينة مثل صديق قديم، ورغم أنها لا تمتلك الأسلوب المتقن والترفيه المتنوع لهذه السفينة الكبيرة، إلا أن صفاتها البحرية ومظهرها الشبيه باليخت تجعلني أفتقدها”.
وفي جنب آخر وجد جملة: “لقد كان لطيفًا جدًا منك أن ترسل لي هذا الوداع اللطيف، مع أطيب التمنيات لك بالنجاح والسعادة، أرشيبالد جرايسي”.
إلى ذلك، أوضح التقرير أنه تم بيع القطعة بخمسة أضعاف السعر المتوقع وهو 60 ألف جنيه إسترليني في دار مزادات هنري ألدريدج وابنه في ديفايزس، ويلتشير يوم السبت.
وبينما لم تُعرض رسالة العقيد أرشيبالد غرايسي للبيع من قبل، قال منظمو المزاد إن هذا هو أعلى سعر تم تحقيقه على الإطلاق مقابل رسالة كتبت على متن السفينة تيتانيك.
في حين رأى معلقون أن الرسالة قطعة استثنائية تستحق أن تكون متحفية، وفق التقرير.
واحدة من أسوأ الكوارث البحرية بالتاريخ
يشار إلى أن سفينة آر أم أس تيتانيك كانت اصطدمت أثناء إبحارها ما بين مدينتي ساوثمبتون (Southampton) بإنجلترا ونيويورك الأميركية، بجبل جليدي بعرض المحيط الأطلسي خلال الليلة الفاصلة بين يومي 14 و15 نيسان/أبريل 1912.
وقد أسفرت هذه الحادثة حينها عن مقتل أكثر من 1500 من ركاب تيتانيك ضمن ما صنف كواحدة من أسوأ الكوارث البحرية زمن السلم.
وغرقت السفينة في قاع البحر، على بُعد ميلين ونصف تحت سطح المحيط، وهي مُنقسمة إلى قطعتين، حيثُ انفصل مقدمة السفينة عن مؤخرتها بحوالي 2600 قدم.
كما تناثر حطامها على مساحة 3 أميال في 5 أميال، لكن المسح الرقمي سمح للخبراء بإعادة تجميع شظايا الهيكل المتناثرة.