لجريدة عمان:
2025-02-03@18:58:19 GMT

يخجلني أن بريطانيا شاركت في جحيم غزة

تاريخ النشر: 3rd, February 2025 GMT

ترجمة: أحمد شافعي -

ما كنت لأتخيل وأنا أعمل أستاذا لجراحة زرع الأعضاء في مستشفى تعليمي كبير في لندن أن يأتي يوم فأجد نفسي فيه أجري جراحة لطفلة في الثامنة من العمر توشك أن تموت بالنزيف فتقول لي ممرضة التنظيف إنه لم يبق من ضمادات متاحة. لكنني وجدت نفسي في ذلك الموقف في أغسطس الماضي وأنا أجري جراحة في مستشفى ناصر بغزة بوصفي متطوعا في منظمة المعونة الطبية للفلسطينيين (Map).

تقلصت مهمتي إلى حد اغتراف الدم بكلتا يدي، فاجتاحتني موجة غثيان ساحقة، وانتابني شعور بأن الطفلة لا يمكن أن تنجو. ومن حسن الحظ أنها نجت، برغم أن الكثيرين لم تكتب لهم النجاة.

بعد أن تقاعدت من هيئة الصحة الوطنية البريطانية، قررت الذهاب إلى غزة، لما بات واضحا أن الحاجة ماسة هناك إلى مساعدة جراحية، وكان لدي من المهارات ما أسهم به. ولقد كانت الحياة بوصفي جراح زراعة أعضاء في لندن شاقة، لكنها مجزية إلى أقصى حد، وبوصفي عضوا كبيرا في مجتمع زراعة الأعضاء كنت أنعم بمكانة معينة. فكان منتظرا أن تكون تجربة غزة مختلفة، لكن ما كان لشيء أن يؤهلني مسبقا لما وجدته حال وصولي.

منذ اللحظة التي عبرت فيها إلى الأراضي الفلسطينية، وحثنا سفين، وهو رجل سويدي ضخم يرتدي قميصا مشجرا متنافر الألوان يقود قافلة سيارات لاند كروزر التابعة للأمم المتحدة، بقوله «حاولوا ألا تتعرضوا للقتل»، باتت الحياة غريبة، والتجربة مربكة حتى أقصى درجة. والواقع أن السيارات التي نقلتنا تعرضت لقصف الجيش الإسرائيلي بعد أيام من وصولنا. فغزة هي أخطر مكان للعمل على وجه الأرض، إذ تعرض فيها للقتل ثلاثمائة عامل إغاثة وألف من العاملين الصحيين منذ بدء الحرب.

أثارت رحلتنا عبر جنوب غزة إلى قاعدتنا صور هيروشيما المقبضة. فجميع المباني، في نطاق أميال كثيرة من كل اتجاه، سوِّيت حرفيا بالأرض فلم تعد غير جزء من الأفق الترابي، وباستثناء عدد قليل من المسلحين الذين ينهبون الركام، لوحظ أنه لم يكن أحد من الناس في الأفق كله. وما كدنا نصل إلى مستشفى ناصر، حتى وجدنا في انتظارنا فوضى من القرون الوسطى تتجاوز قدرات الخيال.

كانت العنابر مكدسة، وقد رُصَّت الأسرَّة فيها وفي الممرات، بل وطغت حتى على الشرفات المفتوحة، وقد أحيط كثير منها بحشايا على الأرض كان الأقارب ينامون عليها لمساعدة الممرضات في رعاية المرضى. انعدمت النظافة. وفي أكثر الأحيان لم يكن يسمح بدخول الصابون والشامبو وسوائل التنظيف إلى غزة، وقلَّت الإمدادات الطبية التي كانت تخضع هي الأخرى لقيود الاستيراد. وفي حالات كثيرة، فحصت جروحا فوجدت فيها ديدان حية، بل لقد تعين في إحدى الحالات على زملائي من منظمة المعونة الطبية للفلسطينيين أن يزيلوا الديدان من حلق طفل حينما وجدوها تعوق جهاز التنفس الصناعي. وفي أوقات كثيرة نفد ما لدينا من القفازات والأردية والسواتر المعقمة.

كان المستشفى يرتج بانتظام بسبب قصف القنابل في الجوار. وشأن أغلب المستشفيات الأخرى، تعرض المستشفى للهجوم في فبراير من العام الماضي، فلقي كثير من العاملين والمرضى مصرعهم. وكنا نتلقى كل يوم حادثة أو اثنتين لجماعات من الضحايا فيتحول استقبال الطوارئ إلى دوامة كأنها من جحيم دانتي مليئة بالأجسام والدم والأنسجة والصغار الصارخين وقد فقد كثير منهم أطرافهم. وكان دأب ذلك أنه يعني موت ما بين عشرة وخمسة عشرا، وإصابة ما بين عشرين وأربعين بإصابات جسيمة.

كنا نستقبل الضحايا في أي وقت، من ليل أو نهار، وفي بعض الأحيان كنا نعمل بلا توقف لأكثر من أربع وعشرين ساعة. كان ثمة تخوف دائم من أن القصف المنتظم بالقرب من المستشفى سوف يستهدفنا يوما ما، فكان يصعب علينا النوم. كان العاملون المحليون المنهكون يخجلوننا بتفانيهم في عملهم الشاق، وبعيدا عن أوضاع المستشفى، كانوا يحتملون الحياة في «خيام» لا تعدو في كثير من الأحيان قطعا من أبسطة مثبتة على أعمدة خشبية، بلا مياه جارية أو صرف صحي. ولم أر أيضا دليلا قط على حضور حماس، سواء في المستشفى أو خارجه، مع أنه لم تكن من قيود مفروضة على حركتنا.

عندما أرجع النظر، أرى أن صور الأطفال المصابين هي التي لن تغادر مخيلتي أبدا. في إحدى الأمسيات، أجريت عملية جراحية لطفل اسمه عامر يبلغ من العمر سبع سنوات، أصيب برصاصة من إحدى الطائرات المسيرة التي تهبط فور انتهاء القصف لتصطاد من يفرون، وجميعهم من المدنيين. كان قد أصيب بجروح في الكبد والطحال والأمعاء، وكان جزء من معدته بارزا من صدره. وكنت في غاية السعادة حين رأيته ينجو. لكننا كنا نرى مرضى مثله كل يوم، ومعظمهم لم يكونوا سعداء الحظ.

كانت معظم الحالات التي عالجناها من النساء والأطفال، ولكن المزعج بصفة خاصة كان الأطفال المصابين بإصابة واحدة، هي رصاصة في الرأس، فقد كان واضحا تمام الوضوح أن تلك نتيجة لنيران قناصة متعمدة. ويشعر الفلسطينيين بأنهم يتعرضون لإبادة جماعية، وقد خلص خبراء حقوق إنسان تابعون للأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى عديدة إلى أن تصرفات إسرائيل قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، ومن الصعب منازعتها في هذا.

لقد عملت في مناطق صراع عديدة ولكنني لم أر قط مثل هذا القدر من الموت والدمار بين المدنيين. لا شك أن هذا كان مختلفا نوعيا عن أي حرب أخرى، سواء الآن أو في العقدين الماضيين.

وحتى في حال صمود وقف إطلاق النار، وهو ما يبدو مشكوكا فيه بشكل متزايد نظرا لأفعال دونالد ترامب الأخيرة، فسوف يستغرق الأمر سنوات لإعادة بناء غزة، سواء ماديا أو اجتماعيا. ولكن أملي العميق هو أن يحصل الفتى عامر، وغيره من أمثاله، على فرصة في مستقبل لائق وإنساني.

عندما رجعت قافلة السيارات بنا في سبتمبر الماضي، كان في نفسي إحساس طاغ بالذنب لأنني أستطيع العودة إلى حياة يسيرة بينما يمضي ملايين إلى الفراش جائعين، لا يعرفون هل سيتمزقون إربا بين العشية وضحاها. ثم حل شعور عميق بالخزي والحرج بسبب أن حكومة المملكة المتحدة، حكومة حزب العمال التي كنت أدعمها، رفضت إدانة إسرائيل بسبب جرائم الحرب التي ارتكبتها ولا تزال تواصل إمدادها بالأسلحة. قد تتطلب السلطة السياسية تنازلات ومقايضات من وراء الكواليس، ولكن هناك خطوطا أخلاقية حمراء لا ينبغي تجاوزها أبدا، مهما كانت التكلفة السياسية. وفي رأيي أن الإبادة الجماعية في غزة هي الاختبار الجوهري للشجاعة الأخلاقية للقادة في القرن الحادي والعشرين، وقادتنا حتى الآن فشلوا في هذا الاختبار. ربما توقف القصف الآن، لكن محاسبة الذين ارتكبوا تلك الجرائم ضرورة ليست أقل إلحاحا.

نظام محمود طبيب جراح يعمل متطوعا في المنظمات الإنسانية بعد تقاعده.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کثیر من

إقرأ أيضاً:

أسرى محررون يكشفون عن جحيم غير مسبوق في السجون.. زجاجة ماء لـ 20 أسيرا

يجمع المعتقلون الذين أفرجت عنهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي حتى الآن ضمن اتفاق وقف إطلاق النار على قطاع غزة، أن ما تعرضوا له من تعذيب وانتهاكات خلال الأشهر الأخيرة، وتحديدا بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 يفوق كل الانتهاكات التي تعرضوا لها على مدار سنوات اعتقالهم السابقة.

كشف أسرى محررون في صفقة التبادل الأخيرة، ضمن اتفاق وقف إطلاق النار بغزة، أن ما تعرضوا له من انتهاكات وأعمال تعذيب غير مسبوقة منذ اندلاع العدوان، غير مسبوقة في تاريخ سجون الاحتلال.

وقال الأسير المحرر وائل النتشة (58 عاما) من مدينة الخليل، والذي أمضى 27 عاما في معتقلات الاحتلال وكان محكوما بالسجن المؤبد، إن إدارة معتقلات الاحتلال شنت خلال آخر 16 شهرا هجمة شرسة على المعتقلين، من تجويع وضرب وتنكيل وتنويم في البرد، وسحب الملابس والأغطية.

وأضاف أن الأسبوع الأخير في الأسر كان مقلقا لأنه كان من المفترض أن ينال الحرية في الدفعة السابقة، وتم حجزه وأسرى آخرين في معتقل عوفر، وحتى اللحظة الأخيرة من الإفراج عنهم كانت إدارة معتقلات الاحتلال تتلاعب بأعصابهم، دون معرفة أي معلومة، ما أدى لضغط وإرباك بين صفوف الأسرى، حتى ظنوا أنه سيتم توزيعهم على أقسام المعتقل مرة أخرى.

من جانبه، قال الأسير المحرر هيثم جابر (51 عاما) من بلدة حارس شمال سلفيت، والذي أمضى 23 عاما في معتقلات الاحتلال وكان محكوما بالسجن 28 عاما، إنه قبل الإفراج عنه قامت إدارة معتقلات الاحتلال بالحلاقة لهم بالقوة، وأنه حتى اللحظة الأخيرة كانت تتم معاملتهم بشكل غير إنساني من قبل الاحتلال، مناشدا بأن يتم الاهتمام بأوضاع المعتقلات وتحسين أوضاع المعتقلين فيها.

وأضاف أن الواقع في المعتقلات يرثى له، لدرجة أنه كان يتم إعطاؤهم زجاجة ماء واحدة لعشرين معتقلا طوال 24 ساعة، وكانوا يقطعون المياه ع

ومن جهته، قال الأسير المحرر قتيبة مسلم (56 عاما) من قرية تلفيت جنوب نابلس والذي أمضى نحو 25 عاما في معتقلات الاحتلال، إنه منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 يتواصل استهداف المعتقلين، حيث تعرضوا للضرب والتنكيل وعمليات التفتيش في معظم الأحيان، وأنه تعرض للضرب المبرح ما يقارب الـ60 مرة خلال تلك الفترة.



وأضاف أن أوضاع الحركة الأسيرة كارثية جدا، ولم تشهد أوضاعا بهذا السوء وبدرجة من الكارثية كما تشهده اليوم، لكن معنويات المعتقلين عالية وإرادتهم حديدية، وأن كل معتقل ينتظر لحظة الحرية.

ومن جانبه، قال الأسير المحرر سعيد قمبز (38 عاما) من القدس، والذي أمضى 10 سنوات في معتقلات الاحتلال إن ظروف المعتقل صعبة جدا ولا يستطيع وصف صعوبتها، وتعرضوا للضرب وتم عزلهم في الأيام العشرة الأخيرة قبل موعد الإفراج، وأن اليومين الأخيرين كانا الأصعب.

ومن جهته، قال الأسير المحرر سامح الشوبكي (44 عاما) من قلقيلية والذي أمضى 22 عاما في معتقلات الاحتلال وكان محكوما بالسجن المؤبد إن كلمة صعب لا تعبر عما مروا به خلال 16 شهرا الماضية، حيث "دخلت الحرب عليهم إلى الزنازين".

وقال نادي الأسير الفلسطيني في تقرير له، إنه "في كل مرة يتم تحرير معتقلين، نجد هيئات المعتقلين تعكس مستوى الجرائم التي مورست بحقهم، ومنها عمليات التعذيب غير المسبوقة بمستواها بعد السابع من أكتوبر 2023، وجرائم التجويع، والجرائم الطبيّة الممنهجة، وإصابة عدد منهم بمرض الجرب (السكايبوس)، إلى جانب عمليات الضرب المبرّح التي تعرض لها المعتقلون قبيل الإفراج عنهم والتي استمرت لأيام بحسب العديد من إفاداتهم، والتي أدت في بعض الحالات إلى إصابات بكسور في الأضلاع".

وأكد نادي الأسير أن "الاحتلال يمارس إرهابا منظما بحق المحررين وعائلاتهم، من خلال عدة أساليب، تم رصدها وأبرزها، الضرب المبرح الذي طال المحررين، والتهديدات التي وصلت إلى حد القتل في حال تم تنظيم أي حفل استقبال أو إن أبدت العائلة أي مظهر من مظاهر الاستقبال".


كما أكد نادي الأسير، أن الاحتلال يهدف من كل ما يقوم به إلى استهداف رمزية المعتقل الفلسطيني في الوعي الجمعي الفلسطيني.

مقالات مشابهة

  • جحيم سجون الاحتلال.. شهادات جديدة من معتقلي غزة
  • جحيم ترامب
  • أسرى محررون يكشفون عن جحيم غير مسبوق في السجون.. زجاجة ماء لـ 20 أسيرا
  • بلدية طرابلس شاركت في أعمال الدورة الـ 62 في طنجة المغرب
  • الدفاع المدني السوري: مجزرة مروعة راح ضحيتها 14 امرأة ورجل واحد، وإصابة 15 امرأة بعضها بليغة ما يرشح عدد الوفيات للارتفاع، وجميعهم من عمال الزراعة، في حصيلة أولية لانفجار السيارة المفخخة بجانب السيارة التي كانت تقلّ العمال المزارعين، على أطراف مدينة منبج
  • طبيب بريطاني عمل في غزة يدين موقف بريطانيا إزاء العدوان.. ما رأيته كان جحيما
  • جريمة فاريا... توقيف والدة المرتكب والفتاة التي كانت برفقته
  • قلت ده مكاني.. شيرين رضا: شاركت بعرض راقص أمام الرئيس الراحل مبارك
  • بالفيديو.. مسؤولون: الهليكوبتر التي تحطمت كانت ضمن وحدة استعداد في حالة هجوم على أمريكا