يخجلني أن بريطانيا شاركت في جحيم غزة
تاريخ النشر: 3rd, February 2025 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
ما كنت لأتخيل وأنا أعمل أستاذا لجراحة زرع الأعضاء في مستشفى تعليمي كبير في لندن أن يأتي يوم فأجد نفسي فيه أجري جراحة لطفلة في الثامنة من العمر توشك أن تموت بالنزيف فتقول لي ممرضة التنظيف إنه لم يبق من ضمادات متاحة. لكنني وجدت نفسي في ذلك الموقف في أغسطس الماضي وأنا أجري جراحة في مستشفى ناصر بغزة بوصفي متطوعا في منظمة المعونة الطبية للفلسطينيين (Map).
بعد أن تقاعدت من هيئة الصحة الوطنية البريطانية، قررت الذهاب إلى غزة، لما بات واضحا أن الحاجة ماسة هناك إلى مساعدة جراحية، وكان لدي من المهارات ما أسهم به. ولقد كانت الحياة بوصفي جراح زراعة أعضاء في لندن شاقة، لكنها مجزية إلى أقصى حد، وبوصفي عضوا كبيرا في مجتمع زراعة الأعضاء كنت أنعم بمكانة معينة. فكان منتظرا أن تكون تجربة غزة مختلفة، لكن ما كان لشيء أن يؤهلني مسبقا لما وجدته حال وصولي.
منذ اللحظة التي عبرت فيها إلى الأراضي الفلسطينية، وحثنا سفين، وهو رجل سويدي ضخم يرتدي قميصا مشجرا متنافر الألوان يقود قافلة سيارات لاند كروزر التابعة للأمم المتحدة، بقوله «حاولوا ألا تتعرضوا للقتل»، باتت الحياة غريبة، والتجربة مربكة حتى أقصى درجة. والواقع أن السيارات التي نقلتنا تعرضت لقصف الجيش الإسرائيلي بعد أيام من وصولنا. فغزة هي أخطر مكان للعمل على وجه الأرض، إذ تعرض فيها للقتل ثلاثمائة عامل إغاثة وألف من العاملين الصحيين منذ بدء الحرب.
أثارت رحلتنا عبر جنوب غزة إلى قاعدتنا صور هيروشيما المقبضة. فجميع المباني، في نطاق أميال كثيرة من كل اتجاه، سوِّيت حرفيا بالأرض فلم تعد غير جزء من الأفق الترابي، وباستثناء عدد قليل من المسلحين الذين ينهبون الركام، لوحظ أنه لم يكن أحد من الناس في الأفق كله. وما كدنا نصل إلى مستشفى ناصر، حتى وجدنا في انتظارنا فوضى من القرون الوسطى تتجاوز قدرات الخيال.
كانت العنابر مكدسة، وقد رُصَّت الأسرَّة فيها وفي الممرات، بل وطغت حتى على الشرفات المفتوحة، وقد أحيط كثير منها بحشايا على الأرض كان الأقارب ينامون عليها لمساعدة الممرضات في رعاية المرضى. انعدمت النظافة. وفي أكثر الأحيان لم يكن يسمح بدخول الصابون والشامبو وسوائل التنظيف إلى غزة، وقلَّت الإمدادات الطبية التي كانت تخضع هي الأخرى لقيود الاستيراد. وفي حالات كثيرة، فحصت جروحا فوجدت فيها ديدان حية، بل لقد تعين في إحدى الحالات على زملائي من منظمة المعونة الطبية للفلسطينيين أن يزيلوا الديدان من حلق طفل حينما وجدوها تعوق جهاز التنفس الصناعي. وفي أوقات كثيرة نفد ما لدينا من القفازات والأردية والسواتر المعقمة.
كان المستشفى يرتج بانتظام بسبب قصف القنابل في الجوار. وشأن أغلب المستشفيات الأخرى، تعرض المستشفى للهجوم في فبراير من العام الماضي، فلقي كثير من العاملين والمرضى مصرعهم. وكنا نتلقى كل يوم حادثة أو اثنتين لجماعات من الضحايا فيتحول استقبال الطوارئ إلى دوامة كأنها من جحيم دانتي مليئة بالأجسام والدم والأنسجة والصغار الصارخين وقد فقد كثير منهم أطرافهم. وكان دأب ذلك أنه يعني موت ما بين عشرة وخمسة عشرا، وإصابة ما بين عشرين وأربعين بإصابات جسيمة.
كنا نستقبل الضحايا في أي وقت، من ليل أو نهار، وفي بعض الأحيان كنا نعمل بلا توقف لأكثر من أربع وعشرين ساعة. كان ثمة تخوف دائم من أن القصف المنتظم بالقرب من المستشفى سوف يستهدفنا يوما ما، فكان يصعب علينا النوم. كان العاملون المحليون المنهكون يخجلوننا بتفانيهم في عملهم الشاق، وبعيدا عن أوضاع المستشفى، كانوا يحتملون الحياة في «خيام» لا تعدو في كثير من الأحيان قطعا من أبسطة مثبتة على أعمدة خشبية، بلا مياه جارية أو صرف صحي. ولم أر أيضا دليلا قط على حضور حماس، سواء في المستشفى أو خارجه، مع أنه لم تكن من قيود مفروضة على حركتنا.
عندما أرجع النظر، أرى أن صور الأطفال المصابين هي التي لن تغادر مخيلتي أبدا. في إحدى الأمسيات، أجريت عملية جراحية لطفل اسمه عامر يبلغ من العمر سبع سنوات، أصيب برصاصة من إحدى الطائرات المسيرة التي تهبط فور انتهاء القصف لتصطاد من يفرون، وجميعهم من المدنيين. كان قد أصيب بجروح في الكبد والطحال والأمعاء، وكان جزء من معدته بارزا من صدره. وكنت في غاية السعادة حين رأيته ينجو. لكننا كنا نرى مرضى مثله كل يوم، ومعظمهم لم يكونوا سعداء الحظ.
كانت معظم الحالات التي عالجناها من النساء والأطفال، ولكن المزعج بصفة خاصة كان الأطفال المصابين بإصابة واحدة، هي رصاصة في الرأس، فقد كان واضحا تمام الوضوح أن تلك نتيجة لنيران قناصة متعمدة. ويشعر الفلسطينيين بأنهم يتعرضون لإبادة جماعية، وقد خلص خبراء حقوق إنسان تابعون للأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى عديدة إلى أن تصرفات إسرائيل قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، ومن الصعب منازعتها في هذا.
لقد عملت في مناطق صراع عديدة ولكنني لم أر قط مثل هذا القدر من الموت والدمار بين المدنيين. لا شك أن هذا كان مختلفا نوعيا عن أي حرب أخرى، سواء الآن أو في العقدين الماضيين.
وحتى في حال صمود وقف إطلاق النار، وهو ما يبدو مشكوكا فيه بشكل متزايد نظرا لأفعال دونالد ترامب الأخيرة، فسوف يستغرق الأمر سنوات لإعادة بناء غزة، سواء ماديا أو اجتماعيا. ولكن أملي العميق هو أن يحصل الفتى عامر، وغيره من أمثاله، على فرصة في مستقبل لائق وإنساني.
عندما رجعت قافلة السيارات بنا في سبتمبر الماضي، كان في نفسي إحساس طاغ بالذنب لأنني أستطيع العودة إلى حياة يسيرة بينما يمضي ملايين إلى الفراش جائعين، لا يعرفون هل سيتمزقون إربا بين العشية وضحاها. ثم حل شعور عميق بالخزي والحرج بسبب أن حكومة المملكة المتحدة، حكومة حزب العمال التي كنت أدعمها، رفضت إدانة إسرائيل بسبب جرائم الحرب التي ارتكبتها ولا تزال تواصل إمدادها بالأسلحة. قد تتطلب السلطة السياسية تنازلات ومقايضات من وراء الكواليس، ولكن هناك خطوطا أخلاقية حمراء لا ينبغي تجاوزها أبدا، مهما كانت التكلفة السياسية. وفي رأيي أن الإبادة الجماعية في غزة هي الاختبار الجوهري للشجاعة الأخلاقية للقادة في القرن الحادي والعشرين، وقادتنا حتى الآن فشلوا في هذا الاختبار. ربما توقف القصف الآن، لكن محاسبة الذين ارتكبوا تلك الجرائم ضرورة ليست أقل إلحاحا.
نظام محمود طبيب جراح يعمل متطوعا في المنظمات الإنسانية بعد تقاعده.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: کثیر من
إقرأ أيضاً:
محيطات الأرض بالكامل كانت خضراء يوما ما
في دراسة نشرتها دورية "نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن"، قدّم باحثون يابانيون حُجة دامغة على أن محيطات الأرض التي تبدو اليوم زرقاء، كانت في الماضي السحيق ذات لون أخضر.
ويعتقد الباحثون أن ذلك حصل في العصر الأريكي، وهو من العصور الجيولوجية السحيقة، حيث امتد من 4031 إلى 2500 مليون سنة مضت، وهي فترة خلت فيها أجواء الأرض ومحيطاتها من غاز الأكسجين، وظهرت فيها أيضًا أولى الكائنات الحية التي تُولّد الطاقة من ضوء الشمس، والتي استخدمت عملية التمثيل الضوئي اللاهوائي، مما جعلها قادرة على القيام بذلك في غياب الأكسجين.
ويقول البروفيسور سيدريك جون، أستاذ ورئيس قسم علوم البيانات للبيئة والاستدامة، جامعة كوين ماري في لندن، في تصريحاته الخاصة للجزيرة نت: "يعود سبب ظهور المحيط باللون الأزرق، في الوقت الحالي، إلى تفاعل ضوء الشمس مع الماء..
ويضيف جون أنه "من المعروف أن ضوء الشمس يحتوي على جميع الألوان، وعند وصوله إلى المحيط يمتص الماء الألوان المختلفة بشكل مختلف، على سبيل المثال، يمتص الماء الألوان الأحمر والبرتقالي والأصفر بسرعة أكبر، وعند الغوص في المحيط يتغلغل الضوء الأزرق في أعماق المحيط ويتشتت، وبالتالي فإن تشتت الضوء الأزرق الذي يعود إلى أعيننا هو ما يجعله أزرق".
إعلانويقول المؤلف الرئيسي للدراسة تارو ماتسيو، الباحث من جامعة ناغويا في اليابان في تصريح خاص للجزيرة نت "منذ ظهور البكتيريا الزرقاء، ازدادت أكسدة بيئة سطح الأرض تدريجيا، بما فيها المحيطات".
وكشفت عمليات المحاكاة الحاسوبية التي قام بها الباحثون في جامعة ناغويا، أن الأكسجين المُنبعث من عملية التمثيل الضوئي المبكرة أدى إلى تركيز عالٍ من جزيئات الحديد المؤكسد بما يكفي لتحويل مياه السطح إلى اللون الأخضر.
وجاء اكتشاف اخضرار المحيطات في الماضي السحيق، من خلال ملاحظة المياه المحيطة بجزيرة إيو جيما البركانية اليابانية، والتي تتميز بصبغة خضراء مرتبطة بنوع من الحديد المؤكسد، كما تزدهر الطحالب الخضراء المزرقة في المياه الخضراء المحيطة بالجزيرة.
وذكرت الدراسة أنه وقبل ظهور عملية البناء الضوئي والأكسجين، احتوت محيطات الأرض على الحديد المُذاب المُختزل (الحديد المُترسب في غياب الأكسجين)، حيث أدى الأكسجين المُنطلق من ظهور عملية البناء الضوئي في العصر الأريكي إلى تأكسد الحديد في مياه البحر.
ويقول جون في تصريح خاص للجزيرة نت "إن السبب الرئيسي الذي أدى الى أن تأخذ مياه المحيطات اللون الأخضر، يعود إلى وجود أشكال مختلفة من الحديد المؤكسد، إذ إن وجود مواد كيميائية مختلفة، مثل الحديد، يُغير طيف امتصاص الماء".
ويقول ماتسيو "بعد ظهور البكتيريا الزرقاء، وهي من أقدم الكائنات الحية على كوكب الأرض، وتتميز بقدرتها على إجراء التمثيل الضوئي، كما تلعب دورًا رئيسيًا في إنتاج الأكسجين في الغلاف الجوي وتحسين جودة المياه، بدأت المياه الضحلة بالتأكسد خلال العصر الأريكي، محولةً الحديد المؤين إلى هيدروكسيد الحديد، الذي ترسّب بعد ذلك".
إعلانوعندما يبقى هيدروكسيد الحديد عالقًا في المياه السطحية، فإنه يمتص كلًّا من الأطوال الموجية الزرقاء والحمراء (بواسطة هيدروكسيد الحديد والماء، على التوالي)، بينما يُشتّت الضوء الأخضر بكفاءة، ونتيجة لذلك، بدت المحيطات خضراء خلال هذه الفترة الانتقالية بين حالتي الاختزال والتأكسد.
هل يمكن أن يتغير لون المحيطات مجددًا؟ويقول جون "إذا تغيرت التركيبة الكيميائية للمحيط، فسيتغير لونه أيضًا، لكن من غير المرجح أن يحدث هذا قريبًا"
ويعلق ماتسيو "وفقًا لدراسة نُشرت في دورية "نيتشر" عام 2023، يمكن أن يتغير لون المحيطات تدريجيًا على مدار فترات زمنية جيولوجية، بالإضافة إلى ذلك، قد تتكرر تفاعلات الأكسدة والاختزال استجابة للتغيرات البيئية، حيث إنه معروف أن ظواهر محلية مثل "المد الأزرق" تُحفزها عمليات الأكسدة والاختزال هذه.
علاوة على ذلك، تشير دراسة أخرى نُشرت في "نيتشر جيوساينس" إلى أن حالة أكسدة سطح الأرض قد تنخفض خلال الـ5 مليارات سنة القادمة بسبب زيادة الإشعاع الشمسي، مما قد يُحفز تفاعلات أكسدة واختزال واسعة النطاق -وبالتالي، تغيرات في لون المحيط – مرة أخرى.
ويقول البروفيسور سيدريك جون "إذا تغيرت التركيبة الكيميائية للمحيط، فسيتغير لونه أيضًا، لكن من غير المرجح أن يحدث هذا قريبًا، فالتركيب الكيميائي للمحيطات مستقر نسبيًا، لذا يتطلب حدوث بعض التغييرات المهمة".