أهمُّ عنوان يقابلك وأنت فـي زنجبار هو التسامح وقبول الآخر، فإذا اتجهت إلى المساجد وجدتَها ملأى بالمصلين من أعمار مختلفة، ولكلِّ مذهب مساجده؛ فهناك مساجد للإباضية وهم الأقلية، وهناك مساجد للشافعية وهو المذهب السائد فـي زنجبار، وهناك مساجد وحسينيات للشيعة، وكلهم (ظاهريًّا على الأقل) فـي تناغم وانسجام يُحسدون عليه، ولا يفرق بينهم شيء كما هو واقع فـي دول أخرى.
وإذن؛ فإنه يُحسب للسلاطين العُمانيين تركهم حرية اختيار المدرسة الفقهية لأيِّ شخص كما يريد، وإحضارهم إلى شرق إفريقيا علماء وفقهاء من اليمن وجزر القمر، وتعيينهم قضاة شرعيين يمثلون السلطة، وعدم فرضهم مذهبهم على الناس لا بالسيف ولا باللسان، بل إنهم -أي العمانيين فـي شرق إفريقيا- انغلقوا على أنفسهم ولم يسمحوا لمعتقداتهم الشخصية بالتمدد خارج ذواتهم، وهذه حقيقة تاريخية لا يشوبها شك؛ ولهذا فإنّ الأصوات المنصفة تذكر لهم ذلك بكلّ تقدير واحترام، وهي أصوات بدأت ترتفع الآن فـي الشرق الأفريقي كله، بعد الهجمة الشرسة التي رافقت الانقلاب فـي يناير 1964، والتي اجتهدت لشيطنة العُمانيين وإلصاق كلِّ العيوب والتهم بهم. وفـي هذه الجزئية لنا مثل بسيط؛ ففـي زيارتنا -أنا وسيف وسليمان رفـيقَيْ الرحلة، ومعنا مرافقنا- لبيت ومأتم أحمد بن النعمان الكعبي مبعوث السيد سعيد بن سلطان لأمريكا، استوقفنا رجلٌ وتجاذب معنا أطراف الحديث فقال: «إنّ ظروف زنجبار سيئة، وإنّ الحال لن ينصلح لأنّ الناس الطيبين طردناهم»، وكان يشير بالطبع إلى الحُكم العُماني. وكلامٌ كهذا لم يكن أحدٌ يجرؤ على التفوّه به أبدًا قبل عدة سنوات لأنّ الشحن ضد العُمانيين كان على أشده، وهم الذين خسروا أموالهم ومزارعهم وقصورهم وبيوتهم التي استولى عليها الانقلابيون ثم باعوها لمستثمرين، ووصل الأمر بأن تُنشد أناشيد تنادي بذبح العرب (وهي تعني العُمانيين بالطبع)، وزُرِعَ الحقدُ فـي النشء الجديد عبر المناهج الموجهة ضد العرب، وألصقت بهم ألقابٌ مهينة، مع تهديدات بـ«حلق لحاهم بموسى دون ماء»، وأنا هنا أقتبس الجملة حرفـيًّا. ومن الطرائف فـي هذا الشأن ما حكاه لي الزميل المخرج الإذاعي حمد بن سعيد الحبسي أنه شارك وهو طفل فـي احتفالات مدرسته باليوم الوطني التنزاني، وكان ممّا ينشده الطلبة مع الرقصات الشعبية: «chaka – chinja – ukiona muwarabu»، وترجمتها هي: «شد الحيل.. شد الحيل.. إذا رأيتَ عربيًّا فاذبحه».. وكلمةُ شد الحيل هي تقريبية من عندي لتقريب معنى كلمة «mchaka»، إذ ليس لها معنى معين مثل كلمة «يودان دان»، وكانت هذه الأهزوجة تؤدى مع رقصات الهرولة، أي أنها حماسية بما يعني «شدوا الهمة يا رجال لقتل العرب»، فترد المجموعة بصوت عالٍ: «اذبح.. اذبح». يقول حمد: إنّ والده كان من بين الحضور فـي المقاعد، وتصادف أنّه (حمد) يردد المقطع ويشير بيده إلى رقبته ناظرًا إلى أبيه الذي أخذته ابتسامة من سخرية ما يشاهد.
غير أنّ الأمر -على ما يبدو ولله الحمد- قد تغيّر الآن؛ ففـي النهاية لا يصح إلا الصحيح، }فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ{. وبالمنطق؛ فإنّ زائرًا مثلي لمدة قصيرة لا تتجاوز أسبوعًا واحدًا لا يمكن أن يتأتى له الغوص فـي الأعماق الاجتماعية الغائرة، ولكن الكتاب قد يُقرأ من عنوانه كما يقال؛ فهناك عُمانيون ما زالوا يعيشون فـي زنجبار ويمارسون تجارتهم بكلِّ حرية، وهناك مدارس لتحفـيظ القرآن تتبع للعُمانيين، وثمة جمعيات خيرية نشطة جدًا، وكلها قوى عُمانية ناعمة تعمل بشكل إيجابي، واستطاعت إزاحة الصورة السلبية عن العُمانيين لدى كثير من الأفارقة.
واقعيًّا ليس هناك إحصاء دقيق لعدد العُمانيين فـي زنجبار أو فـي الشرق الأفريقي كله، وكلُّ ما نعرفه أنهم متوزعون بين تنزانيا وكينيا وأوغندا ورواندا وبوروندي وزائير وجزر القمر، وأغلبهم قد تقطعت بهم سبل العودة إلى وطنهم الأصلي؛ لأنّ الجيل العُماني الذي هاجر من عُمان لم يعُد موجودًا فـي إفريقيا الآن، والجيلُ الثاني المولود فـي المهجر فـي سبيله للاختفاء أيضًا، ولم يبق إلا الأحفاد، وتجد بعضهم يحاول التمسك بأصوله وجذوره، وبعضهم يعرف أسماء القبائل العُمانية والمناطق التي يرجع أصله إليها، ولكنه مقطوع الصلة بعُمان، وقد حدث لي وأنا خارج من مسجد «فروضاني» أن رأيتُ عُمانيًّا لا تُخطئه العين يبيع الفُشار (الفرّاخ)، فسلّمتُ عليه، فإذا هو يتحدّث باللهجة العُمانية، لكنه لا يعرف أصله من أيِّ ولاية فـي عُمان، وقال إنّ جده هاجر إلى زنجبار وإنّ أباه وأمه مولودان فـيها. ومثل هذا كثيرون، ومنهم الشباب الذين يعملون فـي استقبال فندق «مزينجاني» الذي نزلنا فـيه؛ فهناك «خايفـي» وهناك «رمضاني» وغيرهم ممن يحملون قبائل عُمانية.
ثمة من العُمانيين من يرّحب بك أيما ترحيب ويرى نفسه جزءًا منك بالدم والإحساس؛ وهناك منهم من ينظر إليك بنوع من الغضب لإحساسه بأنه أُهمل؛ وثمة من يعتقد أنّ باستطاعتك مساعدته سواء للعودة إلى عُمان أو فـي معيشته هناك؛ وهناك من يغضب إذا سألتَه هل أنت عُماني؟ فـيرد عليك بغضب: لا. لأنه يظن أنه «إنسانٌ للفرجة فقط» كما قال لي أحدهم.
أثناء زيارتنا لزنجبار أرسل لي الصديق سليمان بن سعيد الوهيبي رسالة عن تجنيس إحدى دول الخليج أكثر من ستة لاعبين استعدادًا لكأس الخليج لكرة القدم، فرددتُ عليه: «الأولى بعُمان أن تفعل ذلك؛ فالمواهبُ عُمانية الأصل منتشرة بكثرة فـي إفريقيا، وبما أنّ الدولة اتجهت إلى التجنيس وإلى إعادة الجنسية، فمثل هؤلاء هم الأولى». وهناك مقترحات كثيرة يمكن أن تقوم بها الدولة لدعم هؤلاء الذين تقطعت بهم السبل بما يجعلهم قوة عُمانية حقيقية إضافة إلى كونهم قوة ناعمة.
خرجنا من المطار، فإذا هناك مجموعة كبيرة من العُمانيين جاءت لتستقبل ضيوفها من الأهل والأصدقاء؛ واتصل سيف بمرافقنا وهو شاب لطيف من أصول عُمانية اسمه أحمد بن عمر المزروعي، الذي رافقنا طوال رحلتنا إلى زنجبار.
زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الع مانیین فـی زنجبار الع مانی ع مانیة حمد بن ع مانی
إقرأ أيضاً:
رفض عربي قاطع للتهجير
◄ بيان عربي مشترك: لا لتهجير الشعب الفلسطيني.. وتأكيد قيام الدولة الفلسطينية على كامل ترابها الوطني
◄ تأكيد الدور المحوري لـ"الأونروا" والرفض القاطع لأية محاولات لتجاوزها أو تحجيم دورها
◄ الترحيب بمساعي مصر لاستضافة مؤتمر دولي لإعادة إعمار غزة
◄ دعم جهود التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين والمشاركة الفاعلة في مؤتمر تسوية القضية الفلسطينية
القاهرة- الوكالات
أكد اجتماع مصري عربي مشترك على مستوى وزراء الخارجية استمرار الدعم الكامل لصمود الشعب الفلسطيني على أرضه وتمسكه بحقوقه المشروعة وفقًا للقانون الدولي، وتأكيد رفض المساس بتلك الحقوق غير القابلة للتصرف؛ سواءً من خلال الأنشطة الاستيطانية، أو الطرد وهدم المنازل، أو ضم الأرض، أو عن طريق إخلاء تلك الأرض من أصحابها من خلال التهجير أو تشجيع نقل أو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم بأي صورة من الصور أو تحت أي ظروف ومبررات، بما يهدد الاستقرار وينذر بمزيد من امتداد الصراع إلى المنطقة، ويقوض فرص السلام والتعايش بين شعوبها.
الاجتماع الذي عُقد بدعوة من جمهورية مصر العربية، بالقاهرة، شاركت فيه كل من المملكة الأردنية الهاشمية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، ودولة قطر، وجمهورية مصر العربية، إضافة إلى أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عن دولة فلسطين وأمين عام جامعة الدول العربية.
وقال بيان صادر عن الاجتماع إن الدول المجتمعة أعربت عن ترحيبها بالتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وتبادل الرهائن والمحتجزين، والإشادة بالجهود التي قامت بها كل من جمهورية مصر العربية ودولة قطر في هذا الصدد، والتأكيد على الدور المهم والمقدر للولايات المتحدة في إنجاز هذا الاتفاق، والتطلع للعمل مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتحقيق السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، وفقًا لحل الدولتين، والعمل على إخلاء المنطقة من النزاعات.
وأكد المجتمعون دعم الجهود المبذولة من قبل الدول الثلاثة لضمان تنفيذ الاتفاق بكامل مراحله وبنوده، وصولًا للتهدئة الكاملة، والتأكيد على أهمية استدامة وقف إطلاق النار، وبما يضمن نفاذ الدعم الإنساني إلى جميع أنحاء قطاع غزة وإزالة جميع العقبات أمام دخول كافة المساعدات الإنسانية والإيوائية ومتطلبات التعافي وإعادة التأهيل، وذلك بشكل ملائم وآمن، وانسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل والرفض التام لأي محاولات لتقسيم قطاع غزة، والعمل على تمكين السلطة الفلسطينية لتولي مهامها في قطاع غزة باعتباره جزءًا من الأرض الفلسطينية المحتلة إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية، وبما يسمح للمجتمع الدولي بمعالجة الكارثة الإنسانية التي تعرض لها القطاع بسبب العدوان الإسرائيلي.
وشدد بيان الاجتماع الطارئ على تأكيد الدور المحوري الذي لا يُمكن الاستغناء عنه وغير القابل للاستبدال لوكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين «الأونروا»، والرفض القاطع لأية محاولات لتجاوزها أو تحجيم دورها.
وأكدت الدول المجتمعة أهمية تضافر جهود المجتمع الدولي للتخطيط وتنفيذ عملية شاملة لإعادة الإعمار في قطاع غزة، بأسرع وقت ممكن، وبشكل يضمن بقاء الفلسطينيين على أرضهم، خاصةً في ضوء ما أظهره الشعب الفلسطيني من صمود وتشبث كامل بأرضه، وبما يُسهم في تحسين الحياة اليومية للفلسطينيين من سكان القطاع على أرضهم، ويعالج مشكلات النزوح الداخلي، وحتى الانتهاء من عملية إعادة الإعمار.
وأعرب المجتمعون عن الترحيب باعتزام جمهورية مصر العربية بالتعاون مع الأمم المتحدة، استضافة مؤتمر دولي لإعادة إعمار قطاع غزة، وذلك في التوقيت الملائم، ومناشدة المجتمع الدولي والمانحين للإسهام في هذا الجهد.
وناشد الاجتماع المجتمع الدولي في هذا الصدد- لا سيما القوي الدولية والاقليمية، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة- بدء التنفيذ الفعلي لحل الدولتين؛ بما يضمن معالجة جذور التوتر في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال التوصل لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية؛ بما في ذلك تجسيد الدولة الفلسطينية على كامل ترابها الوطني وفي سياق وحدة قطاع غزة والضفة الغربية؛ بما في ذلك القدس الشرقية، وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، وخطوط الرابع من يونيو لعام 1967.
وشدد البيان كذلك على دعم جهود التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين والمشاركة الفاعلة في المؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين برئاسة المملكة العربية السعودية وفرنسا، والمُقرر عقده في يونيو 2025.