د. رامي المنشاوي يكتب :الأميرة المليكة فاطمة بنت بري ...فخ الأولياء وفتنتهم
تاريخ النشر: 3rd, February 2025 GMT
بين المريد والشيخ :
لاحظ المريد صمت الشيخ ،متأملا لفراغ أمام خلوته ومادا ببصره كأنما يتابع أمرا لم يره سواه ،وقد أخذ صدر المريد يعلو ويهبط جراء حراك الشهيق والزفير لمرات ومرات ،وكان الشيخ بين الفينة والفينة يبتسم مرة ثم يعدل من حركة رقبته مرة أخرى بينما تتدلى المسبحة من يده اليمنى.
لا يدري المريد كم من الوقت قد مر ،فقد احترم صمت شيخه إلى أن قطع الشيخ صمته طارحا على المريد تساؤلا : أتعرف معنى العجب ياولدي ؟ "بضم العين"
فأجاب المريد : العجب من الاعجاب والفخر والافتخار .
فقال الشيخ: أو تدري أن العجب في عمل المعروف والخير ينقص من أجر صاحبه ؟
قال المريد الفتى :لكن الشخص يفرح بفعله كي يداوم فعل الخير مرات ومرات وهذا الفرح يكون بينه وبين نفسه لا بينه وبين الناس .
فقال الشيخ :هذا فخ العابد ياولدي ..أن يعجب صانع المعروف بفعله ،فتغتر نفسه وتزهو فيحدث الاستدراج .
قال المريد :وكيف يحدث هذا ؟
قال الشيخ: هل كان قارون عابدا ناسكا في بدايته أم كان عاصيا ؟
رد الفتى:كان عابدا
فقال الشيخ:ثم وقع في العجب ثم الزهو ثم الاستدراج :" ( قال إنما أوتيته على علم عندي )" ،وهكذا فعل السامري أحد عباد بني اسرائيل وصاحب الكرامة والعطية التي تحولت فيما بعد إلى نقمة عليه.
فسأل المريد متعجبا :ولكن كيف تتحول الكرامة والعطية إلى نقمة بعد العبادة والاخلاص فيها ؟
فرد الشيخ : إنما كرامة الصالحين يا ولدي مثل الرزق ،والرزق منه المال ، والمال قد يفسد البعض ،انظر لقول الله "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) وهذا ما حدث للسامري .
وكيف حدث للسامري ياشيخي ؟ كان هذا سؤال المريد الفتى
فأجاب الشيخ :كان السامري صاحب كرامة ،ولتسأل نفسك لماذا كان هو الأوحد من بني اسرائيل الذي رأي جبريل عليه السلام ودابته التي تمشي بعد شق البحر ثم أخذ أثرا من أثر ملاك الله ؟
وضع المريد يده على رأسه ثم قال :" لابد أنه تفرد على قوم موسى بصلاحه فمنحه وأعطاه الله كرامة كشف الحجب فرأي عالم الملائكة؟ والدليل أنه الأوحد الذي رأي الملاك جبريل وقبض التراب الذي مر عليه .
فرد الشيخ :هذا صحيح يا ولدي وكانت الكرامة استدراجا له فوقع في العجب ومنه صنع تمثال العجل الذي له خوار ،فانتهى به الحال للهلاك والكفر .واعلم يا ولدي أن عالم الأولياء عالم مليء بالاستدراج والامتحان فادع الله دوما ياولدي أن يجعلك من عبيد الإحسان لا عبيد الاختبار...إلى هنا توقف الحديث بين الشيخ ومريده
فائدة عن أحد الصالحين
"قال أحد الصالحين ويدعى" محمد الوصيف" وكان رجلا زاهدا لا زوجة له ولا ولد ،ابتلي بمرض عضال في جسده ،نشهد له بالصلاح فكان لا يفارق المساجد ويؤدي فرائض الله في أوقاتها وخاصة الفجر وقيل عنه أنه كان يسير في الليل يضع مظروفا به بعض المال بين أبواب دور مناطق "دحديرة صبري بمدينة طنطا " ،وروى عنه بعد وفاته أنه كان يجبر خواطر العباد محبا لأولياء الله مريدا وتلميذا للسيد أحمد البدوي فكانت له خلوة بمنطقة درب الابشيهي يبتعد فيها عن اخوته ويقوم الليل فيها ،هكذا بعد أن قمت بتتتبع أثره وخبره بعد وفاته ،قال هذا الرجل "ان ابناء ابليس لعنهم الله وكذلك بعض الجن والمردة يجوبون سماء الله وأرضه فهم مدربون على رؤية هالة الانسان وطاقته ،وهذه الهالة يابني لا تزيد ولا تتوهج إلا بنقاء القلب والعمل الصالح والتقرب لله باخلاص ويشترط فيها صفاء الظاهر والباطن،فيجتمع المردة والجن المؤذي لا المؤمن برسائل الله السماوية مع اتباع ابليس وسبطه لعنهم الله ،يخبرون بعضهم البعض ما رأوه من عباد في الأرض علت طاقة نورهم وصلاحهم ،فتكون المهمة لهذا السبط هي استدراج هذا العبد وجره للدرك الأسفل مخافة أن يرتقى في مراتب الولاية ،فيباهي الله مخلوقاته بهذا العبد النوراني...."
العابدة الأميرة فاطمة بنت بري .
لقت الأم رهقا في أمر وليدها ،قطعت أميالا من شمال العراق إلى بغداد ،أخبرها الناس في السوق أن حكيما قبطيا من انطاكيا ورد إلى بغداد يفحص العلل ويداوي بأدوية افرنجية لم يروها الناس من قبل ،فارتحلت إلى بغداد ،كان الطبيب القبطي روميا ،بدت بشرته تحت شمس بغداد ككبد الطفل الذي يفحصه ،قلبه بيده يمينا ويسارا وفحص قلبه بأن وضع أذنه على صدره ،أخبر المترجم أن يقول للأم أن مصدر العلة والمرض مجهول ،الطفل ذو الأربع سنوات يرقد كالعصا متيبسا لا يحرك أطرافه ..عادت الأم مرة أخرى ،وتدوالت النسوة في شمال العراق خبر الطفل الذي لم يفلح الأطباء في علاجه وإيجاد سببا لعلة عدم حراك أطراف جسده ،فتنامى الخبر إلى مسامع فتيات وعاملات السيدة الأميرة فاطمة بنت بري ،أرادت واحدة منهن أن تتقرب من خلوة الأميرة العابدة ،كانت الأوامر من الأميرة صاحبة المال ورؤوس الأبل والتجارة الرائجة أن خلوتها لا يقربها أحد فهي تود ان تتخلص من الدنيا عبر هذه الخلوة متفرغة للعبادة ،وقد تشجعت الفتاة وطرقت الباب على السيدة الأميرة صاحبة الحسب الموصول بآل نعيم .وقد اندهشت الخادمة لسماح الأميرة السيدة لها باقتحام خلوتها ،ويقال إن الخادمة فزعت لرؤية هالة من نور قد أحاطت بالاميرة ،فانخلع قلب الفتاة ثم حكت للأميرة قصة الطفل المريض ،فطلبت الأميرة من الخادمة أن تحضر الطفل وأمه في الغد .
وصل الخبر إلى مسامع نسوة المدينة ،اخبر من يعلم من لا يعلم ،الجميع اجتمع أمام قصر الأميرة العابدة فاطمة بنت بري ،ثم دخلت الأم بصحبة الوليد حملته بين يديها ،شقت جموع الرجال والنسوة اقتربت من الباب ثم ولجت ،كانت الأميرة كما يحكي عنها أهل شمال العراق ،يستحيل أن يكون هذا الجمال بشريا "إن هذا إلا ملك كريم" ،انسدال الشعر بلون الليل ،حمرة في الخدين كأنما ثمرة كروم قد وضعت يزينها خال الحسن ،هذا التناسق في تفاصيل الجسد ،العين وسحرها ،الوصية الأولى لشيخ فاطمة ومؤدبها "أن تقتضب في الحديث مخافة أن يقع محدثها في أسرها ".
أخرجت الأميرة العابدة الأم من دهشتها بقولها :"ضعي الولد هنا "مشيرة إلى سجادة صغيرة وضعت في وسط رواق القصر ،نزلت الأميرة على ركبتيها واقتربت من الصبي ،دمعت عيناها ،نظرت للأم قائلة :"يكرم لأبيه الشهيد " صرخت الأم الله اكبر ،لا يعلم بهذا الأمر إلا الأم فقط ،هي لا تزال وافدة جديدة في المدينة ،لا أحد يعلم عن زوجها الشهيد شيئا ،أخبرت من تعرفهم أن زوجها تاجر يسافر بلاد الله مخافة أن تكون مطمعا لرجال شمال العراق ،وضعت السيدة فاطمة بنت بري يدها على قلب الصبي قرأت ايات من القرآن ،ثم كانت تبكي لحال الصغير ،انتابت الصبي شهقة ثم تقيأ ناهضا فسندته الأميرة بصحبة بعض خادمات قصرها ،وأحضرت عودا من سعف النخيل ومررته على قدم الصبي ثم ضربته سبع ضربات خفيفة ،دبت الحركة في ساق الصغير وقدمه ،لم تصدق الأم ما رأته ،اطلقت صيحة الفرح في كل الأرجاء ،خرجت أمام الجميع بصحبة وليدها وهو يسير على قدميه ،مستندا بعض الأمر على أمه ،جرت السيدة فاطمة بصحبة الخادمة ،تناولت الابريق ساعدت الخادمة الأميرة على الوضوء ،أغلقت باب خلوتها ،خرت ساجدة باكية تشكر الله ،انتحبت ثم بكت ثم علا صوتها مناجية لله ....
مرت سويعات هي لا تدري ،انتصبت جالسة ،ربما بقى على الفجر بعض الوقت ،ازاحت غطاء رأسها ،فبانت خيوط الليل منسوجة ومنسدلة على ظهرها تستريح بجوارها في الغرفة ،تنفست ثم احست بحاجتها للنظر من النافذة ،توقفت لكنها احست بحركة خفيفة في الحجرة ،سمعت الصوت وقد انكرته لكنها استدارت لترى صاحب الصوت
ـ السلام على مولاتي واميرتي ؟
ردت فاطمة بنت بري في ثبات :"من أنت وكيف دخلت إلى هنا وباب الغرفة مغلق ؟
فقال الغاسق في الليل :"نحن لا تحجبنا جدران أو بنايات أيتها السيدة المليكة والأميرة أميرتي .
قالت بنت بري :"أميرتك ...أخبرني من أنت ؟
قال الغاسق في الليل :" إنما أنا أمير من رهط الجن يسكن شمال العراق وقد جئتك تبايعك قبيلتي ومملكتي كافة أن نكون خدما لك وتباعا لأمرك يا ولية الله ؟ وسنهديك هدية .
تساءلت بنت بري :أي هدية ؟
قال الغاسق في الليل :سر علم الحرف الذي برع فيه كبار الأولياء وبعض اسرار هاروت وماروت .
قالت بنت بري :وما هي قوتكم ؟
قال الغاسق :قوتنا لا يمكن وصفها أو حدها بمقدار ايتها السيدة العابدة ،واننا نرجو أن تنزلي إلى السوق لهداية الناس ومتابعة أحوال تجارتك فإن رعاة االابل خاصتك يهملونها في الصحراء .انت لا تدرين قدر نفسك ولا ذاتك ،جميع شمال العراق يتحدث عن كرامتك لشفاء الصبي .
دخل العجب قلب فاطمة بنت بري ،لم تنجح في معرفة هوية ذلك الوافد الذي شق جدار الغرفة ولم تمنعه الحجب .منحها الكتاب المطلسم ،تناست نصيحة مؤدبها وشيخها الأول ألا تلتفت ،وأن الملتفت لا يصل .انشق الجدار فتبدد الوافد من المكان ،سمعت فاطمة في نفسها صوتا يدعوها أن تزيد تمكينها في الأرض ،سولت لها نفسها أمرا ،أن تتناول الكتاب وتقرأ صفحاته ،علم الحرف ،ذلك العلم الذي علمه الله لآدم ،سر التمكين في الأرض ،بسطة التمكين على بعض المخلوقات ،جرت فاطمة بنت بري على مصاغها ،ارتدت ما كانت زهدته ،سمعت في نفسها صوتا غريبا هذه المرة :"أنت ستتحقين تمكينا أكثر أنت صالحة ...أن لك أن تظهرين بين العوام "
غفت فاطمة وقد تكاسلت أن تؤدي فريضة الفجر ،رأت في نومها رجالا يفوق عددهم عشرات الألوف يكسون صحراء العراق بخيولهم ،وجدتهم ينحنون لها ،يسجدون للمليكة الجديدة بنت بري ،كانت الجموع تهتف باسمها ،وتملكها الزهو في وقفتها بينما قامات بني الجن منحنية أمامها .جاء الغاسق الذي التقاها في غرفتها ،أخبرها ان تتبعه ليريها مملكتهم التي جعلوها لها وأمروها على رهطهم وملكهم ،أدخلها إلى سرداب أسفل نهر دجلة ،ثم همس -الذي لا تعرفه -في أذنها :"إن معركتك الحقيقية مع من ينافسونك في الولاية ويعتقدون أنهم اولياء للملك الأكبر وأصحاب سر معه ،اخبري فتياتك أن يجوبوا في المدن والبلدان ويجمعوا لك أخبار الصالحين ممن ذاع صيتهم ....إن المليكة لا يجب أن ينافسها أحد أو يعلو على سرها نفر ". استفاقت من نومها ..تردد عبارة واحدة ..انا بنت بري فمن يعلوني ..وقد صرخت لتجمع كل الفتيات والخادمات والرجال ،أمرتهم أن يجوبوا البلدان ليعرفوا أين الرجال الصالحون الذين ذاع صيتهم ،فنادت على الجارية أن تناولها بعض المصاغ ،فسمعت صوتا في أذنها ،”لا حاجة لك بعالم البشر مدي يديك في الهواء تنالين ما تودين ،وإن هديتنا لك أيتها الأميرة فرسا تمتطيه بلا سرج أو رباط فقط تمتطيه وتقولي في أذنه وجهتك فسيسر إلى وجهتك وليشهد معجزتك وكرامتك كل شمال العراق ..إن الفرس ينتظرك بالخارج إنه من بني رهطنا أمرناه أن يتمثل في صورة الجواد ……..
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: شمال العراق قال الشیخ فی الأرض فی اللیل
إقرأ أيضاً:
الصرخةُ.. سلاحُ الوعيِ الذي أرعبَ الأساطيلَ
حينَ صرخَ الشهيد القائد السيدُ القائدُ حسين بدر الدين الحوثي ـ رضوانُ الله عليه ـ في وجهِ المستكبرين، لم تكنْ صرخةً عبثية، ولا شعارًا لحظيًّا، بل كانت استبصارًا قرآنيًّا عميقًا لطبائعِ الصراعِ، واستشرافًا استراتيجيًّا لمآلاتِ الهيمنةِ الأمريكية.
لم يكنْ مجردَ هتافٍ، بل إعلانُ تموضعٍ حضاريٍّ في معسكرِ المستضعفين، وبدايةُ مشروعٍ قرآنيٍّ متكاملٍ يواجهُ الهجمةَ العالميةَ بكلِّ أدواتِ المواجهةِ الممكنةِ: النفسيةِ، والعسكريةِ، والسياسيةِ، الاقتصاديةِ، والثقافيةِ.
الصرخةُ كفعلٍ عسكريٍّ ونفسيٍّ:
قال رضوان الله عليه: «دعوا الشعبَ يصرخْ في وجهِ الأمريكيين، وسترون أمريكا كيف ستتلطف لكم… هي الحكمة، ألسنا نقول: إن الإيمانَ يماني، والحكمةُ يمانية؟».
لقد وعى الإمامُ القائدُ طبيعةَ الصراعِ ومفاتيحَه النفسية والسياسية والعسكرية، فحوّل شعار
«الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام» إلى سلاحٍ نفسيٍّ ووجدانيٍّ وميدانيٍّ، غيّر موازينَ الوعي في الأمة.
لقد أثبتتِ التجربةُ أنَّ الحربَ اليومَ لم تَعُدْ حربَ ميادينَ فقط، بل هي حربُ عقولٍ وأعصابٍ وإرادات.
ولأنّ أمريكا وحلفاءَها يدركونَ أن الهيمنةَ تبدأُ من كسرِ العزائمِ وتطويعِ النفوسِ، كانت الصرخةُ ـ بما تحملهُ من شحنةِ وعيٍ وعقيدةٍ وثبات ـ حربًا معاكسةً تضربُ في العمقِ النفسيّ للعدو، وتفكّكُ بنيتَهُ الإعلاميةَ والمعنويةَ.
فمنذ أن رفعت الصرخةُ، لم تستطعِ الدعايةُ الأمريكيةُ أن تُقنعَ الشعوبَ بعدالةِ مشاريعها، ولا أن تصِمَ أنصارَ الله بالإرهاب، رغمَ سيلِ التهمِ والتضليلِ، لأنها أمامَ جدارِ شعارٍ نقيٍّ، لا يشوبهُ تطرّفٌ ولا يَقبلُ مساومة.
أن بُنيةِ الشعارِ ومفاعيلهِ العسكريةِ والنفسيةِ على ساحةِ الصراعِ الكونيِّ، أهان الاستكبار العالمي في فضح هشاشة القبة الحديدية.
الصرخةُ ومعادلةُ الردعِ البحرية:
في خضمِّ معركةِ الفتحِ الموعود، تحوّل الشعارُ من هتافٍ إلى تكتيك، ومن صوتٍ إلى صاروخ.
أغلقتِ الموانئُ، توقّفَ ممرُّ إيلات، وارتبكتْ حاملاتُ الطائرات، وسُحقتِ الهيبةُ الأمريكيةُ في البحرِ الأحمرِ وخليجِ عدن. ولأولِ مرةٍ في التاريخ، تقفُ البوارجُ الأمريكيةُ عاجزةً عن حمايةِ السفنِ الإسرائيليةِ، وتضطرُّ لمواجهةِ طائراتٍ مسيّرةٍ يمنيةٍ وصواريخَ باليستيةٍ ومجنحةٍ، بعضها فرطُ صوتيّ، انطلقتْ باسمِ الشعارِ، وبروحِ المشروعِ القرآنيّ.
الصرخةُ ومنظومةُ الدفاعِ الجوّي والمعركةُ النفسية:
معركة الثقافة والمصطلحات:
حينَ تحوّلتْ المعركةُ إلى السماءِ، وإسقاط 18 طائرة “إم كيو 9” أمريكي،22 طائرة أمريكية نوع (MQ-9 ) والأف-١٥ والأف-١٦، وسجّلَ أرقامًا غيرَ مسبوقةٍ في التصدي لطيرانِ العدوّ، كانت الصرخةُ هي الموجهَ الأخلاقيّ والعقائديّ للمقاتلِ اليمنيّ. هذا المقاتلُ لا يقاتلُ بدافعِ الأجرِ أو الثأرِ، بل بدافعِ الإيمانِ بالله، والبراءةِ من أمريكا، والولاءِ لمحورِ الحقّ. ومن هنا، فإنّ شعارَ الصرخةِ ـ كما أشار السيد القائد عبد الملك الحوثي، يحفظه الله، أنّ “الشعار” ليس مجرّد هتاف، بل سلاحٌ ثقافيٌّ وسياسيٌّ وعسكريٌّ في وجه قوى الاستكبار.
فهو يفضح الهيمنة الأمريكية، ويُعبّئ الأمة وعيًا ورفضًا للتبعية، ويُمهِّد لموقف عمليٍّ يُثمرُ في ميادين التصنيع العسكري والمواجهة.
ومن الشعار بدأت المسيرة، وبالشعار تستمر حتى تحرير القدس.
مكاسبُ الصرخةِ:
وضوحُ العدوِّ، وكشفُ العملاء، لقد كشفتِ الصرخةُ زيفَ الديمقراطيةِ الغربية، وأظهرتْ أنظمةَ التطبيعِ على حقيقتِها، وأسقطتِ الأقنعةَ عن وجوهِ التبعيةِ السياسيةِ والثقافيةِ والاقتصادية.
فضحتْ الحركاتِ التكفيريةَ التي تحرّكت في سورية وصمتتْ في فلسطين، وعرّتْ العقيدةَ القتاليةَ الغربيةَ التي لا تعرفُ الشرفَ ولا تعرفُ القدس وعندما نقضت أمريكا الفيتو في مجلس الأمن، طبقت الصرخة الفيتو في البحر الأحمر.
الصرخةُ والبراءةُ:
من شعائرِ الحجِّ إلى شعائرِ الجهاد من رميِ الجمراتِ في منى، إلى قصفِ السفنِ في بابِ المندب، تتجلّى الحكمةُ اليمانيةُ في أوضحِ صورِها. فالصرخةُ ليستْ إلا امتدادًا لشعيرةِ البراءةِ التي أُمرنا بها في التوبةِ:
(براءةٌ من اللهِ ورسولِه إلى الذين عاهدتم من المشركين).
وكما نرمي الجمراتِ إعلانًا للعداءِ مع إبليس، نرمي الصواريخَ والمسيراتِ براءةً من الشيطانِ الأكبر، لقد جاءَ هذا الشعارُ متّصلًا بشعائرِ الله، تمامًا كالرجمِ في مِنى، حيثُ يرمي الحجيجُ الشيطانَ رمزًا للبراءة والمواجهة، وهكذا هي الصرخة، رجمٌ للشيطانِ الأكبرِ أمريكا، وقطعٌ لعهدِ التبعية، وإعلانُ سخطٍ دائمٍ في وجهِ الطغيان.
إنها صلةٌ إيمانيةٌ باللهِ تجعلنا أقوياء، وتجعلُ عدوَّ اللهِ ضعيفًا ومرتبكًا أمام ثباتنا.
الصرخةُ والقضيةُ المركزية:
حينَ ارتبطَ الشعارُ بفلسطين، دوَّى في أصقاع الكوكب لتصبح صرخة عالمية.
عندما ارتبطتِ الصرخةُ، شعارُ المشروعِ القرآني، بالقضيةِ المركزيةِ للأمةِ ـ فلسطين ـ تحوّلتْ من مجرّدِ شعارٍ يمنيٍّ إلى صرخةٍ أمميةٍ تتردّدُ في مساجدِ طهران، وساحاتِ بغداد، وجبالِ لبنان، وأزقةِ غزّة، ومدنِ الجنوبِ الأفريقي، وبلدانِ أميركا اللاتينية.
لقد أصبحتِ الصرخةُ رايةً تحتمي بها قلوبُ المحرومينَ، ويتسلّحُ بها كلُّ مستضعفٍ في وجهِ الطغاةِ والمحتلين.
فحيثُ وُجِدَ الظلمُ، يجبُ أن تُرفَعَ الصرخة، وحيثُ وُجِدَ الاستكبارُ، لا بدّ أن يُسمَعَ صوتُ البراءةِ في وجهِه.
وهكذا، لم تعُد الصرخةُ ملكًا لجغرافيا محددة، بل صارتِ الميثاقَ الثوريَّ للأحرار، والدستورَ الأخلاقيَّ للمقاومين، والبوصلةَ التي تُشيرُ دومًا إلى القدسِ، مهما حاولَ المطبّعونَ تشويهَ الطريق.