صدمة «DeepSeek».. خبراء يتحدثون لـ«الأسبوع» عن مفاجأة الذكاء الاصطناعي ونتائجه
تاريخ النشر: 3rd, February 2025 GMT
- زياد عبد التواب: يكسر احتكار الذكاء الاصطناعي ويشعل المنافسة بين القوى الكبرى
- أشرف مفيد: التطبيق الجديد منخفض التكلفة وكفاءة عالية وسيغير الهيمنة الأمريكية
- الدكتور محمود منصور: بكين نجحت في توفير النموذج المثالي، نسبيًا بشكل مجاني
أحدثت نماذج متقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي، طرحتها شركة «DeepSeek» الصينية، صدمة كبيرة للشركات الأمريكية والأوروبية وكيانات آسيوية مرتبطة بها، وفق تأكيدات خبراء ومختصين تحدثوا لـ«الأسبوع»، من بينهم خبير صناعة المعلومات، الدكتور محمود منصور، حيث تعتمد هذه النماذج على تقنيات تحاكي الذكاء البشري عبر معالجة بيانات ضخمة.
يوضح، منصور، أنه بـفضل هذه النماذج، أصبح بإمكان الأنظمة التفاعل بذكاء مع البشر، وحل المشكلات الرياضية والرد على الأسئلة المنطقية، إلا أن هذه النماذج، التي تعتمد على طاقة حسابية هائلة، تكلف الشركات مبالغ ضخمة من الأموال لتشغيلها، ما يجعل بعض النماذج مثل، شات جي بي تي، باهظة التكلفة مقارنة بالنموذج الصيني منخفض التكاليف.
وقال إن نماذج الذكاء الاصطناعي تتعامل مع قواعد بيانات كبيرة جدًا فكرية، أدبية، فنية، وعلمية، وتقوم بتحليل المعلومات بناءً على المعطيات الممنوحة لكل نموذج، وجميعها مبنية على ما يُسمى: واجهة الذكاء الاصطناعي، مثل شات جي بي تي، جيمناي، كوبيلت، ثم النموذج الصيني، ديب سيك.
أشار منصور إلى أن نموذج الذكاء الاصطناعي مثل ديب سيك يتعلم ويخزن البيانات، ثم تأتي مرحلة التعلم العميق التي تعتمد على خوارزميات تحاكي الخلايا العصبية للإنسان، والمنافسة بين هذه النماذج تعتمد على قدرتها في محاكاة النموذج العصبي في دماغ الإنسان، لكي تبدأ في التفاعل مع المستهلكين، وتقديم الحلول المنطقية المطلوبة للإجابة عن الأسئلة المنطقية.
ويشير إلى أن جميع النماذج، باستثناء الصيني، ديب سيك، تستهلك طاقة كبيرة، بأموال كثيرة، لتشغيل الأجهزة ومراكز البيانات الضخمة، لذا، فإن الاشتراكات الخاصة بالمستهلكين تكون كبيرة نسبيًا، ولا أقصد هنا النماذج المجانية، بقدراتها المحدودة جدًا، والمعرضة للهلوثة عند تقديم الإجابات، عبر إعطاء معلومات غير منطقية.
ونبّه الدكتور منصور إلى أن الصين نجحت في توفير النموذج المثالي، نسبيًا، بشكل مجاني، مع قدرته على معالجة 14 تريليون بارامتر، وهي قدرة حاسوبية قوية جدًا، بتكلفة بسيطة، وجعلوه مفتوح المصدر، ومتاحًا لكل من يرغب في تطوير النموذج وتحسينه، على عكس النماذج الأمريكية المغلقة والمدفوعة.
يعدد منصور المكاسب التي ستعود على الناس من الذكاء الاصطناعي، حيث يشير إلى أن هناك وظائف من المتوقع أنها ستختفي، في مجالات المحاماة وأنواع الطب، ومن يمكنهم الاستمرار هم من يستطيعون توظيف الذكاء الاصطناعي لخدمة أعمالهم، مثل المبرمجين، الذين سيستفيدون من تحسين وتسريع أعمالهم بطرق غير مسبوقة.
أيضًا، في مجال البحث العلمي، أثبت النموذج الصيني كفاءته الكبيرة في هذا المجال، حيث إنه قادر على البحث عن المصادر العلمية ودقتها، وهي ميزة غير متوفرة في باقي النماذج التي لا تقدم هذه الخدمة. بالإضافة إلى ذلك، يوفر النموذج الصيني إمكانيات للتدقيق اللغوي والبحث على الإنترنت بشكل مجاني، ومن ثم يجب تعلم الذكاء الاصطناعي بشكل عام، ثم التركيز على التفاصيل التي تتعلق بمجال عمل كل شخص.
خيارات ومكاسبمن جانبه، يرى الخبير في الذكاء الاصطناعي، أشرف مفيد، أن التطور الكبير في الذكاء الاصطناعي، كما يظهر في تطبيقات مثل «DeepSeek» الصينية، يعد تحولًا جوهريًا في مسار التكنولوجيا العالمية، يعكس صراعًا تكنولوجيًا بين الصين والولايات المتحدة، حيث قدمت الصين نموذجًا قادرًا على منافسة العملاقة التقنية الأمريكية بتكلفة منخفضة وكفاءة عالية.
أشار، مفيد، إلى أن هذا الصراع سيعيد تشكيل استراتيجيات الاستثمار في هذا القطاع، وسيسهم في تقديم خيارات متعددة للمستهلكين بأسعار منخفضة، مما يعزز تجربة المستخدم ويغير شكل التطبيقات التكنولوجية في الحياة اليومية، وكنت وما زلت على قناعة تامة بأن المنافسة في الذكاء الاصطناعي لا تعترف بالحدود.
وحول تقييمه لما يحدث وتأثيره اقتصاديًا وتكنولوجيًا، قال: أن الابتكار لا يحتاج دائمًا إلى استثمارات ضخمة بقدر ما يحتاج إلى رؤية واضحة وإرادة حقيقية، وما نشهده اليوم مع تطبيق «DeepSeek» يمثل تحولًا نوعيًا في مسار التكنولوجيا، إذ أثبت أن بإمكان النماذج البديلة أن تنافس بقوة، بل وتهدد عمالقة الصناعة الذين اعتبروا أنفسهم في مأمن من التغيير.
من الناحية الاقتصادية، هذا التطور سيؤثر بشدة على استراتيجيات الاستثمار في قطاع الذكاء الاصطناعي، حيث أصبح واضحًا أن القدرة على تقليل التكلفة مع تحقيق نتائج مماثلة، إن لم تكن أفضل، ستجبر الشركات الكبرى على إعادة التفكير في نماذج أعمالها، أما تكنولوجيًا، فإننا أمام مرحلة جديدة من الابتكار، حيث لم يعد التفوق مقصورًا على شركات بعينها، بل أصبح مرهونًا بالقدرة على تحقيق أقصى استفادة من الإمكانات المتاحة بأقل تكلفة وأعلى كفاءة.
وعن الاستفادة التي ستعود على مستهلكي التكنولوجيا، أوضح مفيد، أن المستهلك هو المستفيد الأول والأخير من هذه المنافسة المحتدمة، حيث تعني زيادة الابتكار مزيدًا من الخيارات، وأسعارًا أقل، وتجربة استخدام أكثر تطورًا. نحن أمام مشهد يعكس بوضوح أن التكنولوجيا لم تعد حكراً على مجموعة محددة من الدول أو الشركات، بل أصبحت ساحة مفتوحة لمن يملك الجرأة والرؤية.
وأوضح، مفيد، أنه مع شدة المنافسة، ستتحسن جودة الخدمات المقدمة للمستهلكين، كما سيؤدي الضغط المستمر إلى إطلاق منتجات أكثر تقدمًا بقدرات غير مسبوقة، مما يعزز تجربة المستخدم ويفتح آفاقًا جديدة أمام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية. وحول استفادة قطاع الإعلام من هذه التطورات، أوضح مفيد، أنه توقف طويلًا أمام هذا السؤال، ويرى أن ما يحدث اليوم ليس مجرد تطور تقني، بل هو إعادة تشكيل لأساليب إنتاج المحتوى الإعلامي.
وقال إن الصحافة، بوصفها مهنة البحث عن الحقيقة، تجد نفسها أمام فرصة تاريخية للاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات، ورصد الاتجاهات، وإنشاء محتوى أكثر دقة وعمقًا. أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة ستمنح الصحفيين القدرة على الوصول إلى المعلومات بسرعة غير مسبوقة، وستساعدهم في تقديم محتوى تفاعلي غني قادر على جذب الجمهور وإبقائه على تواصل دائم مع الأخبار.
وفيما أكد، مفيد، أنه في عالم أصبح فيه السرعة والدقة عنصرين حاسمين، فإن تبني هذه الأدوات لن يكون رفاهية، بل ضرورة لضمان استمرار الصحافة في لعب دورها المحوري في تشكيل الوعي العام، فقد أشار إلى تأثير الصراع التكنولوجي في المشهد الدولي، وأن الصين لم تعد مجرد منافس في مجال التكنولوجيا، بل أصبحت قوة قادرة على إحداث تغيير جذري في المعادلة الدولية.
وبين أنه لم يعد الذكاء الاصطناعي حكرًا على الشركات الأمريكية الكبرى، بل دخلت الصين بقوة وأثبتت أنها قادرة على تقديم بدائل ذات كفاءة عالية وتكلفة أقل. هذا سيؤدي إلى تصعيد المنافسة بين القوى الكبرى، وسيدفع الولايات المتحدة وأوروبا إلى إعادة النظر في استراتيجياتهما لضمان استمرار تفوقهما التكنولوجي.
وقال، مفيد: في تقديري، نحن أمام مرحلة جديدة من الصراع التكنولوجي، حيث لم يعد الأمر مجرد سباق على تطوير أفضل النماذج، بل أصبح معركة على النفوذ والسيطرة في عالم يعتمد بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي في كل جوانب الحياة. قد نكون على أعتاب تحول جذري في ميزان القوى، حيث ستفرض الصين نفسها لاعبًا أساسيًا، ولن يكون بالإمكان تجاهل تأثيرها في مستقبل التكنولوجيا العالمية.
المسكوت عنهيشير خبير التحول الرقمي وأمن المعلومات، المهندس زياد عبد التواب، عضو لجنة الثقافة الرقمية والبنية المعلوماتية بالمجلس الأعلى للثقافة، إلى أن تطورات "DeepSeek" في مجال الذكاء الاصطناعي فتحت المجال أمام الشركات الصغيرة والدول ذات الموارد المحدودة لدخول هذا المجال بثقل، نتيجة تكلفته المنخفضة وإمكاناته الكبيرة.
وقال عبد التواب: أصبح بإمكان هذه الشركات المنافسة في صناعة الذكاء الاصطناعي دون الحواجز التي كانت تضعها الشركات الكبرى في السابق. هذا التحول يمثل ثورة تقنية ستكون لها آثار كبيرة على اقتصاديات العالم، خصوصًا في الصراع التكنولوجي بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، ما يعزز التنافس على النفوذ في المستقبل.
ونبه إلى أن هذه التطورات في عالم الذكاء الاصطناعي غير مسبوقة تقنيًا، فتكلفة التطبيق الجديد لا تزيد عن 5% من التكلفة التي تصرح بها الولايات المتحدة الأمريكية لمثل هذه التطبيقات. كما أن الشركة القائمة بإصدار هذا التطبيق هي شركة ناشئة جديدة صغيرة تم إنشاؤها في عام 2023. تأثير هذا في المستقبل سيكون كبيرًا ببساطة لأن هذا يفتح المجال أمام الدول والشركات الصغيرة الدخول في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي بقوة وكثافة.
وأشار إلى أن الإنجاز الصيني بدد العوائق أو الحواجز التي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية إبرازها للعالم بأن الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى مراكز بيانات كبيرة ويستهلك كمية كبيرة جدًا من الطاقة، ولكن هذا الإصدار الجديد بهذه التكلفة المنخفضة وبهذه الإمكانيات البسيطة في إطار التجهيزات الفنية يفتح الباب على مصراعيه أمام الجميع لدخول بقوة في عالم الذكاء الاصطناعي.
وعن دلالة هذه الخطوة، قال عبد التواب: من المعروف أن أكبر لاعبين في مجال الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم هما الولايات المتحدة الأمريكية في المركز الأول والصين في المركز الثاني. وهذا الإصدار وإصداره في هذا التوقيت بالذات له دلالة اقتصادية وسياسية كبيرة. فالصراع يقترب من المواجهة الكبيرة في ظل الحرب الغربية على تطبيق "تيك توك" الصيني وما أحدثه في العالم كله من حالة هلع ورعب من التطبيق بزعم أنه يقوم بالاستيلاء على البيانات الشخصية الموجودة على الهواتف المحمولة.
المفاجأة، بحسب عبد التواب، كانت أنه بعد ذلك بعد أشهر ظهرت دعاوى لقيام إحدى شركات التكنولوجيا الكبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية بشراء هذا التطبيق. إذاً فالأمر ليس تكنولوجيا بحتًا ولكنه جزء من الصراع السياسي والصراع الاقتصادي بين الدولتين الكبيرتين.
وعن مستقبل الصراع، قال عبد التواب: أتصور أنه مشابه للتأثير دخول الصين في مجال تصنيع الأجهزة التقنية الخاصة بشبكات المعلومات والهواتف المحمولة. فقبل ظهورها في الأسواق كانت الغلبة للغرب وكان يستطيع أن يضع الأسعار التي يريدها ويقوم بالسيطرة على هذه الشبكات عبر العالم كله. ولكن بعد ظهور شركة هواوي انقلبت الآية، فخفضت الولايات المتحدة الأمريكية من أسعار تلك المنتجات لتستمر في المنافسة مع شركة هواوي وغيرها من الشركات الصينية المتقدمة في صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وقال: ربما إطلاق هذا التطبيق وبعده أيضًا بيومين جاءتنا الأخبار عن إطلاق شركة علي بابا الصينية لتطبيق آخر للذكاء الاصطناعي. إذاً فالأمر في المستقبل القريب سوف يتغير كثيرًا. لن تكون السيطرة لدولة واحدة، ولكن هذا التنوع والاختلاف في الدقة وفي التكلفة المطلوبة وتجهيزات الفنية المطلوبة لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي سيعيد ضبط كافة الصراع وتوازنها مرة أخرى. وربما يسمح بدخول لاعبين جدد إلى الساحة ويشجعهم على الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتطوير أنظمة فنية خاصة بهم.
اقرأ أيضاًوكيل النواب يحذر من التحديات التي تواجه استخدام الذكاء الاصطناعي «فيديو»
أبو الغيط يفتتح دائرة الحوار العربية حول الذكاء الاصطناعي في العالم العربي:
معرض الكتاب يناقش «تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الإعلام» لـ رباب عبد الرحمن
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: الذكاء الاصطناعي احتكار الذكاء الاصطناعي الاستثمار في الذكاء الاصطناعي الصراع الاقتصادي الصراع السياسي الولایات المتحدة الأمریکیة فی مجال الذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی فی فی الذکاء الاصطناعی النموذج الصینی هذه النماذج غیر مسبوقة عبد التواب فی عالم إلى أن
إقرأ أيضاً:
حَوكمة الذكاء الاصطناعي: بين الابتكار والمسؤولية
يشهد العالم اليوم تطورا مُتسارعا في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت تطبيقاته تتغلغل في مختلف القطاعات، من الرعاية الصحية إلى التعليم والصناعة والخدمات المالية وغيرها من القطاعات. ومع هذا التوسع الهائل، تتزايد الحاجة إلى وضع أطر تنظيمية تضمن الاستخدام الآمن والمسؤول لهذه التقنية، وهو ما يُعرف بحوكمة الذكاء الاصطناعي.
إن التحدي الرئيس الذي تواجهه الحكومات والمؤسسات يتمثل في إيجاد توازن بين تشجيع الابتكار التكنولوجي من جهة، وضمان الامتثال للمبادئ الأخلاقية والقانونية التي تحمي الأفراد والمجتمعات من المخاطر المحتملة من جهة أخرى. وقد عرفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) حوكمة الذكاء الاصطناعي بأنها «مجموعة من السياسات والإجراءات والمعايير القانونية التي تهدف إلى تنظيم تطوير واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بطريقة مسؤولة وشفافة، مع ضمان احترام القيم الإنسانية وحماية الحقوق الأساسية».
ووفقا لتوصية منظمة اليونسكو بشأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لعام 2021، فإن الحوكمةَ الفعالةَ للذكاء الاصطناعي ينبغي أن تستند إلى مبادئ الشفافية والمساءلة والأمان لضمان تحقيق الفائدة للمجتمع دونَ المساس بالحقوق الفردية. تهدفُ هذه الحوكمة إلى ضمان العدالة والشفافية وحماية البيانات واحترام حقوق الإنسان في جميع مراحل تطوير واستخدام هذه التقنيات. وتبرز أهمية الحوكمة في ضوء المخاطر المحتملة للذكاء الاصطناعي، مثل التحيز الخوارزمي وانتهاك الخصوصية والتأثير على سوق العمل، الأمر الذي يستدعي وضع تشريعات صارمة لضمان عدم إساءة استخدام هذه التقنية.
وفي سياق الجهود الدولية لتنظيم الذكاء الاصطناعي، صدر التقرير الدولي حول سلامة الذكاء الاصطناعي في يناير 2025 عن المعهد الدولي لسلامة الذكاء الاصطناعي (International AI Safety Report)، الذي شارك في إعداده 30 دولة من بينها منظمات دولية بارزة مثل هيئة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث تناول الحالة الراهنة للفهم العلمي المتعلق بالذكاء الاصطناعي العام، وهو ذلك «النوع من الذكاء الاصطناعي القادر على تنفيذ مجموعة واسعة من المهام». وقد هدف التقرير إلى بناء فهم دولي مشترك حول المخاطر المرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي المتقدم، مع تقديم تحليل شامل للوسائل العلمية والتقنية المتاحة لإدارتها والتخفيف منها بفعالية، وتوفير معلومات علمية تدعم صانعي القرار في وضع سياسات تنظيمية فعالة. وعلى الرغم من الفوائد العديدة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي العام، فإن التقرير يحذر من المخاطر المتزايدة المرتبطة باستخدامه.
فمن الناحية الأمنية، قد يُستغل الذكاء الاصطناعي في تنفيذ هجمات سيبرانية متقدمة أو في تسهيل عمليات الاحتيال الإلكتروني، من خلال إنتاج محتوى مزيف (Fake content) يصعب تمييزه عن الحقيقي. كما أن هناك مخاطر اجتماعية تتمثل في إمكانية تعميق التحيزات الموجودة في البيانات التي تُستخدم في تدريب هذه الأنظمة. إضافة إلى ذلك، مخاوف تتعلق بفقدان السيطرة على أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة، حيث يمكن أن يؤدي التطور المتسارع لهذه الأنظمة إلى سلوكيات غير متوقعة قد يصعب التحكم بها. أما على المستوى الاقتصادي، فإن الذكاء الاصطناعي قد يتسبب في اضطرابات كبيرة في سوق العمل، حيث يؤدي إلى استبدال العديد من الوظائف التقليدية بالأنظمة الآلية، ففي قطاع خدمة العملاء مثلا، تعتمد الشركات الكبرى مثل أمازون وجوجل على روبوتات الدردشة (Chatbots) لتقديم الدعم الفني والتفاعل مع العملاء بكفاءة عالية، مما يقلل الحاجة إلى الموظفين البشريين.
أما في مجال التصنيع والتجميع، فقد أصبحت الروبوتات الصناعية تقوم بمهام الإنتاج بدقة وسرعة تفوق القدرات البشرية، كما هو الحال في مصانع تسلا وفورد التي تستخدم أنظمة مؤتمتة لتنفيذ عمليات اللحام والتجميع، مما يقلل التكاليف ويرفع كفاءة الإنتاج. ومع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي، يُتوقع أن يمتد تأثيره إلى المزيد من القطاعات.
ومع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات، أصبح من الضروري تبني استراتيجيات وحلول لمواجهة تحديات فقدان الوظائف التقليدية. ويُعد إعادة تأهيل القوى العاملة من أهم هذه الحلول، إذ يجب الاستثمار في برامج تدريبية تُمكن الموظفين من اكتساب مهارات رقمية وتقنية جديدة، مثل تحليل البيانات وتطوير البرمجيات، مما يساعدهم على التكيف مع متطلبات سوق العمل المتغير. إلى جانب ذلك، يمثل تعزيز ريادة الأعمال والابتكار حلا فعالا، حيث يُمكن تشجيع إنشاء مشاريع صغيرة ومتوسطة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مما يخلق فرص عمل جديدة.
كما يعد تبني نموذج العمل الهجين ضرورة مُلحة، إذ يُمكن دمج الذكاء الاصطناعي مع القدرات البشرية بدلا من الاستبدال الكامل، مما يعزز الإنتاجية مع الحفاظ على دور العنصر البشري. كما أن تطوير الأطر القانونية والتنظيمية يعد خطوة مهمة، حيث ينبغي صياغة قوانين تضمن الاستخدام العادل والمسؤول للذكاء الاصطناعي، وتحمي العمال من التمييز الناتج عن الأتمتة. بالإضافة إلى ذلك فإن التعليم المستمر يُسهم في تأهيل القوى العاملة الوطنية لمواكبة التحولات في سوق العمل، حيث ينبغي تعزيز ثقافة التعلم المستمر لضمان قدرة القوى العاملة على التكيف مع المتطلبات المستقبلية للتكنولوجيا المتقدمة. وغيرها من الاستراتيجيات الجديدة لدمج الإنسان مع الآلة في بيئة العمل.
من جانب آخر، هناك مخاطر تتعلق بالخصوصية، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل كميات كبيرة من البيانات الشخصية، مما يزيد من احتمالات انتهاك الخصوصية وسوء استخدام المعلومات. ولتقليل هذه المخاطر، من الضروري تبني مجموعة من الاستراتيجيات التقنية والتنظيمية التي تعزز شفافية وأمان أنظمة الذكاء الاصطناعي. ومن أبرزها، تطوير تقنيات تتيح فهما أعمق لآليات اتخاذ القرار لدى الذكاء الاصطناعي، مما يسهل عملية المراجعة والمساءلة. بالإضافة إلى ذلك، تبرز أهمية تعزيز الأمن السيبراني عبر تصميم بروتوكولات حماية متقدمة لمواجهة التهديدات المحتملة.
كما يجب العمل على تصفية البيانات وتقليل التحيز لضمان دقة وعدالة أنظمة الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرارات. ومن أجل حماية بيانات المستخدمين، يتوجب استخدام تقنيات التشفير القوية وآليات الحماية الحديثة التي تضمن الامتثال لمعايير الخصوصية. بالإضافة إلى ضرورة الحفاظ على دور الإنسان في عمليات اتخاذ القرار، لضمان عدم الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي في الأمور الحساسة، مما يقلل من المخاطر المحتملة الناجمة عن التحكم الذاتي للأنظمة. إن التطور السريع لهذه التقنية يتطلب نهجا شاملا يجمع بين البحث العلمي والسياسات التنظيمية والتقنيات المتقدمة لضمان الاستخدام الآمن والمسؤول لهذه الأنظمة، بحيث تتحقق الفائدة المرجوة منها دون التعرض للمخاطر المحتملة.
وقد اعتمدت العديد من الدول سياسات مُتقدمة لتنظيم الذكاء الاصطناعي، حيث اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوات رائدة في هذا المجال عبر قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي الذي دخل حيز التنفيذ عام 2024م والذي يُعدُ أول إطار قانوني شامل يهدف إلى تَنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي وفق معايير صارمة تحمي الخصوصية وتحد من التحيز الخوارزمي. وفي المقابل، تبنت الولايات المتحدة الأمريكية نهجا يعتمد على توجيهات إرشادية لتعزيز الشفافية والمساءلة، مع منح الشركات حرية الابتكار ضمن حدود أخلاقية محددة. أما الصين، فقد ألزمت الشركات التقنية بمراجعة وتقييم خوارزميات الذكاء الاصطناعي المُستخدمة في المنصات الرقمية، لضمان الامتثال لمعايير الأمان السيبراني.
عليه فإنه يُمكن الإشارة إلى مجموعة من التوصيات والمُبادرات التي يُمكن أن تُسهم في تعزيز حوكمة الذكاء الاصطناعي بشكل فعال، ومن أبرزها: وضع أطر قانونية مَرنة تُتيح تطوير الذكاء الاصطناعي دون عرقلة الابتكار، مع ضمان حماية حقوق الأفراد والمجتمع وتعزيز الشفافية والمساءلة من خلال فرض معايير تضمن وضوح كيفية عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي، وإتاحة آليات لمراجعة القرارات التي تتخذها هذه الأنظمة وتعزيز التعاون الدولي لإنشاء منصات مشتركة لمراقبة تطورات الذكاء الاصطناعي وتبادل المعلومات بين الدول حول المخاطر المحتملة وتشجيع البحث والتطوير المسؤول عبر دعم الأبحاث التي تركز على تطوير تقنيات ذكاء اصطناعي أكثر أمانا واستدامة وتعزيز تعليم الذكاء الاصطناعي الأخلاقي من خلال دمج مقررات حوكمة الذكاء الاصطناعي في مناهج المؤسسات الأكاديمية والتعليمية، لضمان وعي المطورين الجدد بالمسؤوليات الأخلاقية المترتبة على استخدام هذه التقنية.
إن حوكمة الذكاء الاصطناعي تُشكل ركيزة أساسية لضمان تحقيق أقصى الفوائد من هذه التقنية، مع الحد من المخاطر المرتبطة بها. وبينما يستمر الابتكار في التقدم بوتيرة غير مسبوقة، فإن المسؤولية تقتضي وضع سياسات وتشريعات تنظيمية تضمن الاستخدام العادل والمسؤول لهذه التقنيات، بما يتوافق مع القيم الأخلاقية والقوانين الدولية. ويُعد تحقيق التوازن بين الابتكار والمسؤولية التحدي الأكبر الذي يواجه الحكومات وصناع القرار، لكن من خلال التعاون الدولي ووضع سياسات متقدمة، يمكن بناء مستقبل مستدام للذكاء الاصطناعي يعود بالنفع على البشرية جمعاء.
عارف بن خميس الفزاري كاتب ومتخصص في المعرفة