السائل والمُتعفف.. بين الكريم والبخيل
تاريخ النشر: 2nd, February 2025 GMT
ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
كُل إنسان يبحثُ عن السعادةِ بلا استثناء وفي كل مراحل عمره، فيغتنم لشخصه في المقام الأول قبل غيره اللذائِّذ والمباهِج في إطار حقه المشروع ليُسعد بها نفسه بصرف النظر عن مستواه المعيشي، فمنها ما هو دنيوي مادي كالطعام والشراب والشراء والاحتفال والسفر وغيرها من المباحات، ومنها ما هو أُخروي معنوي كالعبادة والصدقة والعطاء لما تعود به من مسرةٍ على النفس، وقد يجمع المرء بين الحُسنيين وتلك حوزة سامية لا تتأتى إلا لقلَّةٍ منزورةٍ اختبرت المفهوم الحقيقي للتعامل مع شؤون الدنيا والدين، وبلغ بها فهم السعادة في عيون الآخرين مبلغ السعي الدائم إليه، وهو ما بدأنا نلحظ تقهقُرهِ مؤخرًا عند النسبة الغالبة من الناس بما في ذلك الأغنياء لتسلُّط الثقافة المادية.
يُركز بعض الناس اهتمامهم على شؤونٍ صغيرة يبدو أنها لا تليق بالمنظر العام وربما توحي لهم أو للناظر لها بشيءٍ من التعاسة كالسائِل المُعدم والبائع المُتعفف على جنبات الطريق وقارعتهِ، وقد يستعظمونها أحيانًا لاختلاط مفاهيم القوانين التنظيمية عليهم مع الشرع ومبادئ الحلال والحرام علمًا بأن الأصل في الأشياء الحل والإباحة ما لم يرد نص تحريم أو نهي أو إجماع كراهة، وعليه فلابد من فهم الفرق بين السائل الذي لم نُؤمر بإعطائهِ كرهًا حين أمِرنا بعدم نهرهِ تعاطفًا "وأما السائل فلا تنهر" وبين البائع البسيط المُتعفف الذي عزت عليه كرامته مد يده لتبقى عليا، وهما يرسلان لنا الإشارات الربانية في لُغتهما الصامتة بوجوب فهم ما خفي وراء معنى "وأما بنعمةِ ربكَ فحدِّث".
يتفق الجميع بأن البخل من أكثر الصفات الإنسانية قُبحًا وأكثر الخصالِ ذمامةً، إذ يتَّسم البخيل بكراهية الناس له وصولًا إلى حد انعدام الأصدقاء ونفور الجميع من حوله وختامًا إلى وحدة وعزلةٍ شبهِ تامةِ، على عكس الموسر المُنفق الذي يجد سعادتهُ في إسعاد غيره لا سيَّما المُحتاجين لعطائه، فتزداد غِبطتُه كلما ازداد كرمًا وبذلًا في علاقةٍ طرديةٍ بين الإنفاق والسعادة؛ حيث اكتشفت روحه مكامن البِّر لما يعود به عليها من لذةٍ وبهجة، وهو دون أدنى شكٍ مُحبٍ لغيره وربما أكثر من حبهِ لنفسه، بيد أننا لن نجد المُدعين والمتصنعين للكرم من المُحسنين على المُتملقين والكادحين من أبناء قومهم ومُجتمعهم إلا ما حدثت أفواههم وفاخرت به ألسنتهم، لأنهم أقرب للبخل والشح منهم للكرم والسخاء وسوف يسوقون من الحُجج والمُبررات والذرائع ما يصطنعون منها لأنفسهم حائلًا قانونيًا يحول دونهم ودون الإنفاق وهم بذلك فرحون، بل سيُنظِّرون ويحدثون حيثما تسنَّى لهم بسلبيات تلك الفئة المُعسرة المُبلسة.
في الواقع نحنُ من يتحكم بالعطاء أو المنع والأمر كله يعود لنا فإن أعطينا المتسول باستمرار قد يُستنسخ وتزداد أعدادهم والعكس صحيح وإن رددناه فبرحمةٍ ولينٍ، ولكن سيبقى هناك سائلون وهم موجودون في كل المُجتمعات حتى الفقيرة المُدقعةِ منها، ومن البديهي هنا أن تتدخل الكثير من المفاهيم والقِيم الأخلاقية والإنسانية، فنحن مأمورون بموجب ديننا بتحري الصدقةِ واين يضع المرء ماله وما ينفق، ولعل "الأقربون أولى بالمعروف" ولكن الحذر كل الحذر من زلَّات الجِنان وحصائد اللسان واعتبار كل متسولٍ نصاب أو كذاب حتى لا يقع أحدنا في المحظور ثم يُحاسب بجريرة أقوالهِ قبل أفعاله.
كما لا يمكن اعتبار البائع البسيط متسولًا عندما يفترشُ لنفسهِ مُقتعدًا عفيفًا، وتلك المرأة الضعيفة بائعةُ الماء وذلك الطفل السارح على قدميه ببضاعته المُزجاة وملامح الكهولة باديةٍ على مُحياه، والذين ابوا مد ايديهم للناسِ إلحافًا اعطوهم ام منعوهم، بل هم يبيعون فهل نُخطئهم ونَصِمهم بتشويه المنظر العام أو ندرجهم ضمن قائِمة المتسولين وهم ليسوا كذلك لمجرد عدم تحصلهم على تراخيص مسجلة تجاريًا لما يقومون به؟! "ما لكُم كيف تحكمون" حين يختلط الأمر على البعض في عدم التفريق بين المتسول والبائع وهم لم يقعوا في الحرام فعلًا ولم يستكرهوا احدًا، ومحاولة ازدرائهم بمسمياتٍ قانونية لإيقاع العامة في وهم الإقناع لمجرد شكوكٍ غلبت على التراحم بتعميم جريمة النصب على كل متسولٍ دون استثناء، او عدم تحصل ذلك البائع على ترخيصٍ لمزاولة العمل فهو مُخالف وجبت مُقاطعته في حين أحل الله البيع، وعليه فإن من واجبنا الأخلاقي سؤال أنفسنا عمن اوصلهم لهذا الحال وهل هم سعداء بذلك وما يقومون به، أم أُجبروا عليه في عرصاتِ الفاقةِ والحاجة؟!
جاءت القوانين المدنية والتجارية للتنظيم وهذا أمر حسنٌ جدًا لا يُنكره عاقل ولم تُأصل لنشر الحزن والتعاسة، ولكن مع الإشارةِ إلى عدم أغفال سماحة مبادئ الشريعة التي تنظر إلى الإنسانية من اوسع ابوابها وقبل القوانين الوضعية التي يَتنكر بحجَّتها الموسر المُمتنع عن الإنفاق على المعسرين والمُترفع عن المساكين.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
موقف مصري جامع ضد التهجير.. ولكن!!
منذ اللحظات الأولى التي طرح فيها الكيان الصهيوني ومعه الإدارة الأمريكية السابقة مشروع ترحيل أهل غزة أو جزء كبير منهم إلى مصر، كان هناك موقف وطني مصري جامع ضد هذا المخطط.
ورغم ظهور بعض الليونة في الأيام الأولى من السيسي الذي لم يمانع في تهجير أهل غزة من حيث المبدأ على أن لا يكون ذلك إلى مصر بل إلى صحراء النقب (خلال مؤتمره الصحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتس في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، ورغم الشكوك في حينه عن احتمالات قبوله لفكرة التهجير ضمن اتفاق أوسع يشمل دولا أخرى نظير إسقاط الديون المصرية كما حدث عقب حرب الخليج، وربما ضخ استثمارات أخرى لتنشيط الاقتصاد المصري، إلا أن ذلك الموقف الضبابي اختفى ليحل محله رفض واضح، ربما كان السبب فيه المؤسسة العسكرية والأمنية التي تدرك خطورة التهجير على الأمن القومي المصري، وعلى القضية الفلسطينية نفسها.
لم يكن الرفض مقتصرا على النظام الحاكم، ولا أحزاب الموالاة، بل تعداه إلى المعارضة في الداخل، والخارج، كما أصدرت جماعة الإخوان المسلمين بيانا في السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2023 بعنوان "معا صفا واحدا في مواجهة الضغوط ورفض التهجير"، أكدت فيه رفضها مع كل القوى الشعبية والسياسية لسيناريو التهجير، واعتباره خطّا أحمر، ووصفت الموقف المصري الرسمي والشعبي بأنه إجماع وطني نادر، ودعت مؤسسات الدولة (البرلمان والجيش والأزهر والقوى الوطنية والأحزاب والنقابات) للقيام بدورها في حراسة هذا الموقف.. وقد جدد الإخوان موقفهم مؤخرا ردا على تصريحات ترامب ، كما عبرت الحركة المدنية عن رفضها للتهجير في مؤتمرها مساء الجمعة.
خلال الأيام الماضية عاد مشروع التهجير للبروز بقوة مع تصريحات متتالية للرئيس الأمريكي ترامب، طلب فيها من مصر والأردن قبول تهجير أهل غزة إلى الدولتين، وهو ما لاقى حالة من الرفض العام في الدولتين على المستويين الرسمي والشعبي. ومع تجاهل الرئيس ترامب للرفض الرسمي المصري، وتكراره لمطلبه الذي بدا واثقا أنه سيجد طريقه حتما للتنفيذ بحكم ما قدمته الولايات المتحدة من معونات! وجد النظام المصري نفسه في وضع خطير، فعاد لاستخدام ورقة المظاهرات الديكورية التي ترتبها الأجهزة الأمنية؛ كانت المرة الأولى في المظاهرات التي دعا لها النظام يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أي بعد أسبوعين فقط من الطوفان، وهي المظاهرات التي خرجت عن السيطرة بتوافد شباب غاضب إلى ميدان التحرير وهتافهم المزدوج ضد العدوان الإسرائيلي والاستبداد المصري، وهذا ما دفع النظام لتعديل خطته هذه المرة بالدعوة إلى مظاهرات أمام معبر رفح على بعد أكثر من 300 كيلومتر من القاهرة، ما يعني أن المشاركين فيها سيمرون ذهابا وعودة عبر نقاط تفتيش عسكرية عديدة، وعقب الحصول على تصاريح أمنية رسمية، وهذا لن يتيسر إلا لمن تم حشدهم بشكل نظامي عبر أحزاب الموالاة، ما يعني ضمان عدم خروجهم عن النص، وعدم اندساس معارضين وسطهم.
رفض التهجير هو موقف وطني جامع في مصر، يتجاوز الخلافات السياسية والمناكفات الحزبية باعتباره خطرا على الأمن القومي المصري، وعلى القضية الفلسطينية، ويسهم في تصفيتها، وهو لا يعد اصطفافا خلف أحد، إنما اصطفاف خلف قضية، ولكن تعامل النظام المصري مع الخطر خاصة لجهة دعوته إلى ما أسماه اصطفاف وطني هو تعامل هزلي، يبتذل فكرة الاصطفاف الوطني.
فهذا النظام ورغم موقفه العلني ضد الحرب والتهجير إلا أنه منع طيلة شهور الحرب الخمسة عشر أي مظاهرات لرفض العدوان، والتعبير عن التضامن مع أهل غزة، وتدخل بعنف لقمع وقفات محدودة على سلالم نقابة الصحفيين خلال شهر رمضان الماضي، في وقت كانت المظاهرات الحاشدة تعم العواصم والجامعات العالمية الكبرى، كما أنه اعتقل أعدادا كبيرة من المشاركين في مظاهرة تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ولا يزالون رهن الحبس الاحتياطي حتى اليوم. وقبل يومين فقط رفض التصريح للحركة المدنية بتنظيم وقفة رمزية محدودة العدد أمام السفارة الأمريكية في القاهرة غدا الاثنين، وهو ما يضيف شكوكا حول صدق نواياه.
ما يطمئننا حقيقة إلى فشل خطة ترامب للتهجير هو موقف أهل غزة أنفسهم الرافضين للتهجير، فحتى من قبل ترامب رفضوا خطة تهجير رعتها الأمم المتحدة منتصف الخمسينات، وتظاهروا ضدها، ورفضوا مشاريع التهجير في كل المفاوضات السابقة بدءا من كامب ديفيد وحتى الآن، وحين كشف الكيان الصهيوني عن خطته العملية للتهجير بعد اجتياحه الأخير لغزة قاوم أهلها بكل قوة. ورغم أن كثيرين منهم ظلوا في الشمال تحت القصف، لكن آخرين اضطروا للمغادرة إلى الجنوب، إلا أنهم تشبثوا بآخر النقاط داخل غزة، وأعلنوا رفضهم للتهجير خارجها، وما إن لاحت لهم الفرصة للعودة للشمال لم يتأخروا دقيقة واحدة، فحملوا ما استطاعوا من أمتعتهم، وعادوا في مشهد تاريخي تابعناه جميعا بكل فخر، لقد عادوا إلى ركام بيوتهم، لينصبوا خيامهم عليها حتى تبدأ عمليات إعادة الإعمار، كانت عودتهم الكثيفة هي خير رد على ترامب الذي لم يتوقف عن طلبه من مصر والأردن لقبول خطته. وكان أحدث اتصال مع السيسي أمس السبت، ومن المؤكد أنه جدد الطلب خلال اتصاله، ورغم أن البيانين الرسميين المصري والأمريكي لم يشيرا إلى ذلك، إلا أن الإعلام الأمريكي مثل موقع أكسيوس أكد أن قضية التهجير كانت حاضرة.
يتعامل الرئيس الأمريكي ترامب بكل جلافة مع رؤساء الدول، ولديه قناعة انه يعطي أوامر للتنفيذ المباشر دون أي مناقشة أو تحفظ، وهذا يعني أنه سيواصل ضغوطه لتحقيق رؤيته الخاصة بغزة، وإذا كانت القوى الوطنية من خارج السلطة قد عبرت عن رفضها المبدئي للتهجير كما أسلفنا، فهي مطالبة بالاستمرار، بل وتعزيز هذا الموقف من ناحية، ومراقبة أداء السلطة تجاه تلك الضغوط من ناحية أخرى.
x.com/kotbelaraby