جريدة الرؤية العمانية:
2025-02-02@20:03:33 GMT

"دولة الأغنياء على أنقاض الفقراء"

تاريخ النشر: 2nd, February 2025 GMT

'دولة الأغنياء على أنقاض الفقراء'

 

 

علي بن سالم كفيتان

أرسلَ لي أحد الإخوة الأعزاء نسخة إلكترونية من كتاب "النباهة والاستحمار" للمُفكِّر الإيراني الدكتور علي شريعتي، وفي الحقيقة أنها كانت محاضرة ألقاها هذا المفكر الكبير في قاعة أرشاد بالعاصمة الإيرانية طهران، وتحوَّلت لاحقًا إلى كتابٍ، وتُرجِمَ إلى عدة لغات منها العربية؛ لما حوته من أفكار عميقة عن استخلاف الإنسان في الأرض.

ولا أخفيكم أنني لم أستطع النوم تلك الليلة، حتى أتممت الكتاب، لما شدني فيه من قراءات غير معهودة لدينا كعرب ومسلمين، لواقع الغرب، من منطلق صراع البشر الأزلي، وتدافع الحضارات، وفرض أنماط حياة لتقييد العقل الإنساني وفق مُحددات تقوم على الاستهلاك وتعظيم سُلطة المال. وهذا بدوره يؤسِّس لما أشار إليه المؤلف بتأسيس دولة الأغنياء على أنقاض الفقراء، وهذا ما نراه اليوم قائمًا في عالمنا، في ظل توحُّش سُلطة المال وقضمها للساسة عبر إدخال الحكومات في دهاليز المال، والنظر إلى العالم من ثقب تساؤل: كم تملك.. كم تسوى؟!            

إن انسياق الأنظمة المُعتدلة التي حافظت على ثباتها لعقود وهرولتها خلف هذا المنعطف الخطير يسوقها إلى الزوال- كما يشير شريعتي- إذ يرى أن استخلاف الإنسان في الأرض يتجرَّد من النظرة الإقصائية البسيطة التي يقوم عليها العالم اليوم، إلى تحرير التفكير والإبداع بعيدًا عن قيود السُلطة الجشعة للمال، والتي تجعل من الإنسان نحلةً شغالة في مملكة الغرب الظالمة، في الوقت الذي تنتظر فيه الملِكَة المُتوَّجة في الخلية كل عام سباق الذكور لتلقيحها، لتموت بعدها على أعتاب تلك المملكة. يقول الكاتب: "لماذا لم تتعلم الذكور من سعيها لهلاكها كل عام؟". طبعًا الجواب حاضر، وهو أنَّ هذه هي سُنن الطبيعة ونواميس الكون في الموت والحياة والميلاد والشيخوخة، التي لا يُمكن مُناقشتها أو حتى السماح بالتفكير فيها، إلّا من واقع إطار رسم للعالم القديم لا يمكنه الخروج عنه، ومن خرج جُيِّشَت ضده الجيوش والأساطيل، ومُنع عنه صنبور المال، وفُرِضَت عليه العقوبات، وعُزل عن البشرية، حتى يتوب إلى الغرب وسلطته المُتجبِّرة. لذا بِتنا نرى كل ما هو تقليدي ومُحافِظ في حضارتنا الإسلامية ضربًا من التخلف والرجعية، بينما تجاربهم هي الأكثر إلهامًا، وحضارتهم هي الأكثر بريقًا، وإنسانهم هو الأقدر على صناعة الفارق. يقول شريعتي أيضًا: "لقد مارسوا ضدنا أبشع الحملات الدعائية لتقديمنا في ثوبٍ رثٍ وبشر متوحِّشين يجب إقصاؤهم من الكون".

ذكر شريعتي أنَّ إبقاء المُتعلِّم جاهلًا وأخرسَ وأعمى، يُعدُ خطرًا كبيرًا على النظام الذي يُشرعن هذا النوع من السلوك الإقصائي الفظ؛ فالإنسان إذا أُشبِع بالعلم لا يُعد الجوع عنده أولوية، بينما الجهل يقود في أحيان كثيرة للسعي خلف اللُقمة، من الولادة وحتى الموت. لذلك فإنَّ النافذة التي يُطل من خلالها الشباب المتعلمون في عالمنا ليست هي النافذة التي كانت قبل 50 عامًا؛ إذ إنهُم لم يأتوا من الكهوف التي حبستهم فيها أنظمة مُتجبِّرة وظالمة لقرونٍ، وهم ليسوا الثوَّار الحُفاة الذين انفجروا من شدة الطغيان ودفعوا أثمانًا باهظة ليُحدِثوا تغييرًا، وقد رحلوا قبل أن يشاهدوا نتيجته. بينما يتغنَّى اليوم من كانوا على حواف الثورة كلاجئين وهاربين ومُستسلمين وخانعين قبضوا الثمن، بأنهم هُم من قادوا التغيير وصنعوا الفارق. ولا شك ان الجيل الجديد يمثل نُسخة مُحدَّثة سيصعب التعامل معها عندما تنفجر، ومهما مجَّدنا أجدادنا الحُفاة وقدرتهم على الصمود والقفز في النار، فإن الأجيال الحالية مُتحفِّزة وتفهَم كل ما يجري حولها من "استحمار الأنظمة" كما يقول شريعتي.

يرى علي شريعتي أن المجتمعات التي تُريد أن تختار مستقبلها، أمامها طريقان؛ الأول: طريق الرسمالية والقدرة والصنعة الغربية، والثاني: طريق الفكر والعقيدة. ويتساءل: ماذا عمل بنا الغرب نحن المسلمين نحن الشرقيين؟ لقد احتقر ديننا وأدبنا وفكرنا وماضينا وتاريخنا وأصالتنا، واستصغر كل شيء لنا، إلى الدرجة التي أصبحنا فيه نحن نهزأ بأنفسنا!! أما الغربيون فقد فضَّلوا أنفسهم وأعزوها ورفعوها، ثم بدأنا نقلدهم في كل الأطوار والحركات والسكنات والمناسبات، فصرنا نُمجِّد لُغتهم ونتفاخر بشهاداتنا القادمة ونفتخر بتعلُّم أبنائنا في دولهم وإجادتهم للُغاتهم في مُقابل نسيان اللغة العربية، وتراجع قِيَمهم الدينية والاجتماعية.

وفي المقابل، نرى أنَّ هناك المُتمسِّكون بطريق الفكر والعقيدة، وهُم قِلة في عالمنا، وهؤلاء يُصنِّفهم الغرب والسَّاسة التابعون لهم بالخطر الداهم؛ حيث نراهم اليوم ينبعثون من تحت الأنقاض في غزة بكامل عتادهم غير آبهين بالفَقْد في سبيل العقيدة، وهم من يُلهم ملايين الشباب المسلم في العالم اليوم، ويؤسِّس لعالم إسلامي قادم للواجهة برِداءٍ مُختلف، فهل ستعي الأنظمة ذلك أما ستمارس أسلوب الاستحمار؟!

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

سوريا بين الشرق والغرب

كُسرت سوريا خلال العقد الماضي، وكُسر دورها الإقليمي مع تحول أرضها إلى ساحة يتصارع فيها الخصوم الإقليميين والدوليين.. هرب الأسد وطويت معه تحالفات ظلت راسخة لعقود خلت.. لم تعد رياح الشرق تهب وحدها اليوم على سوريا، بل رياح دافئة آتية من الخليج العربي وأخرى أقل دفئا تأتي من الضفة المتوسطية الأخرى.

وإذا كانت القطيعة من الشرق القريب (إيران) تمثل هدفا استراتيجيا لسوريا الجديدة، فإن القطيعة مع الشرق البعيد (روسيا، الصين) ليست كذلك.

روسيا، الصين

ليست العلاقة السورية ـ الروسية مجرد علاقة محصورة ببعد اقتصادي فقط أو سياسي ـ دبلوماسي فقط، بل هي علاقة استراتيجية عميقة منذ الاتحاد السوفيتي وحتى الآن، باستثناء تسعينيات القرن الماضي، حين كانت موسكو مشغولة بترتيب بيتها الداخلي.

علاقة سوريا مع الغرب لا يمكن عزلها عن إسرائيل، وهنا تبدو الصعوبة على المستوى البعيد وليس القريب، إذ كما يبدو يتجاهل الشرع وإدارته أي حديث عن التوغل الإسرائيلي في عمق الأراضي السورية وقصفها لقواعد الجيش السوري، ضمن براغماتية سياسية لا تريد خلق مخاوف مع الولايات المتحدة، وفي ظل أوضاع لا تسمح لسوريا بفعل أي شيء حيال التوغلات الإسرائيلية.وبهذا المعنى، لم يكن التدخل العسكري الروسي عام 1016 في سوريا، نابعا من منافع اقتصادية قد تحصل عليها روسيا، بقدر ما كانت نابعة من مصلحة استراتيجية كبيرة في الحفاظ على بلد ما يزال جزءا من الفلك الروسي بمعايير الحاضر، وليس بمعايير الحرب الباردة السابقة.

مع هروب الأسد وسقوط النظام، تغير وجه سوريا وتغير معها خطابها وتوجهها السياسي، بطريقة تشكل قطعا تاريخيا مع المراحل السابقة.

غير أن علاقة سوريا الجديدة مع روسيا ليست محكومة بصراع طائفي مغلفُ بغطاء أيديولوجي حدي كما هول الحال مع إيران، فما يربط دمشق بموسكو محصور بالبعد الجغرافي السياسي ليس إلا، لا توجد فيه خلفيات أيديولوجية أو طائفية، ولا توجد فيه أثقال شخصية، على الرغم من دعم بوتين القوي لنظام الأسد.

في ممارسة البراغماتية السياسية تحضر الجغرافية السياسية دائما إذا ما كانت معزولة أو خالية من أية ممارسات إثنية أو طائفية تهدد المصال المباشرة بين الطرفين.

في ضوء هذه الخلفية، يمكن قراءة زيارة الوفد الروسي برئاسة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف إلى دمشق، كانعكاس لمصالح استراتيجية محضة تُعبر عن رغبة صناع القرار في الكرملين في عدم خسارة سوريا نهائيا.

مصالح بدت مفهومة عن حكام سوريا الجديدة الذين أكدوا لـ بوغدانوف على ضرورة احترام روسيا سيادة سوريا وسلامة أراضيها، ودور روسيا في إعادة بناء الثقة مع الشعب السوري، من خلال تدابير ملموسة، مثل التعويضات وإعادة الإعمار والتعافي.

يخطئ البعض حين يتصور أن سوريا يمكن أن تدير ظهرها بالكامل إلى روسيا كما هو الحال مع إيران، فطبيعة موقع سوريا المحاذي لإسرائيل، وطبيعة الشعب السوري المفعم بالقومية والمسكون بهاجس القضية الفلسطينية، لا يسمح لها أن تكون جزءا من الفلك الأميركي على الطريقة السعودية والمصرية والأردنية، وهذا ما تدركه المؤسسة السياسية الأميركية.

لسوريا مصلحة في إعادة ترتيب علاقتها بروسيا والصين للاستفادة منهما في موازنة علاقاتها الدولية أولا، وللاستفادة منهما في الدعم الاقتصادي، خصوصا إعادة الإعمار، ناهيك أن المؤسسة العسكرية السورية تاريخيا وإلى الآن ذات عقيدة روسية، ومعداتها روسية، وتدريب ضباطها على الخبرة الروسية، وبالتالي، فإن عملية التوجه العسكري نحو الغرب ستكون مكلفة جدا، وذات أمد طويل حتى تُقطف ثمارها.

الولايات المتحدة وأوروبا

إذا كان إعادة ترتيب العلاقة بين سوريا وروسيا مسألة غير ملحة بالنسبة لدمشق، فإن إعادة ترتيب العلاقة مع الغرب الأميركي والأوروبي تبدو مسألة ملحة جدا، بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة، وبسبب الحصول على الشرعية الدولية لحكام سوريا الجدد، وبسبب الاستفادة من الغرب في بناء سوريا جديدة اقتصاديا وسياسيا.

لكن علاقة سوريا مع الغرب لا يمكن عزلها عن إسرائيل، وهنا تبدو الصعوبة على المستوى البعيد وليس القريب، إذ كما يبدو يتجاهل الشرع وإدارته أي حديث عن التوغل الإسرائيلي في عمق الأراضي السورية وقصفها لقواعد الجيش السوري، ضمن براغماتية سياسية لا تريد خلق مخاوف مع الولايات المتحدة، وفي ظل أوضاع لا تسمح لسوريا بفعل أي شيء حيال التوغلات الإسرائيلية.

ما يهم الحكم الجديد في سوريا، هو تقديم خطاب مطمئن للغرب على ثلاثة مستويات:

الأول، سوريا لن تكون منصة عداء لكل الدول الإقليمية بما فيها إسرائيل (على الأقل نظريا في هذه المرحلة)، باستثناء إيران التي ستكون خارج المشهد السوري.

إذا كانت لسوريا الجديدة مصلحة استراتيجية في الانفتاح على الغرب، وفي المقدمة الولايات المتحدة، فإن من مصلحتها أيضا أن تواظب على علاقات قوية مع روسيا والصين، كتوازن بين الشرق والغرب، تفرضه طبيعة الصراع العربي ـ الإسرائيلي من جهة، ومقتضيات المصالح السورية من جهة أخرى.ثانيا، حكم داخلي رشيد، يسمح لجميع المكونات بالمشاركة السياسية دون إقصاء لأحد، مع حريات سياسية واقتصادية، وتحقيق مستوى معيشي معقول.

ثالثا، لا مكان في سوريا الجديدة للتيارات الإسلامية الراديكالية، وإنما تقديم خطاب إسلامي معتدل متصالح مع قيم الديمقراطية والليبرالية السياسية والاقتصادية، مع ضوابط لليبرالية اجتماعية لا تؤدي إلى استياء مجتمعي لدى الأقليات.

وإذا كانت لسوريا الجديدة مصلحة استراتيجية في الانفتاح على الغرب، وفي المقدمة الولايات المتحدة، فإن من مصلحتها أيضا أن تواظب على علاقات قوية مع روسيا والصين، كتوازن بين الشرق والغرب، تفرضه طبيعة الصراع العربي ـ الإسرائيلي من جهة، ومقتضيات المصالح السورية من جهة أخرى.

وضمن هذه المعادلة بين الشرق والغرب، تجد دمشق أولويتها وامتداها الطبيعي ضمن محيطها العربي، ليس في البحث عن شرعية عربية فحسب، بل أيضا من أجل الحصول على دعم مالي واقتصادي وسياسي عربي يسمح لها بإعادة بناء نفسها داخليا.

وليس صدفة أن يكون الحضور السعودي والقطري والتركي هو الأكثر قوة في المشهد السوري الجديد.

مقالات مشابهة

  • عاجل | لوبينيون الفرنسية عن رئيس الجزائر: مستعدون لتطبيع العلاقة مع إسرائيل في نفس اليوم الذي ستكون فيه دولة فلسطينية
  • بالفيديو| "اليوم" ترصد تطورات وظائف المستقبل التي تنتظر الخريجين 
  • «ديب سيك» دليل على أنّ الغرب يخسر سباق الذكاء الاصطناعي
  • النزاهة تسترد مطلوبًا بقضايا إضرار المال العام من دولة الكويت
  • سوريا بين الشرق والغرب
  • انطللق مسابقة بورسعيد للقرآن الكريم اليوم.. تشارك بها 33 دولة
  • "دولة ناشئة" في غزة.. سياسي إسرائيلي يقدم خطة اليوم التالي
  • رقعة حرب واحدة استعاد فيها الجيش زمام المبادرة بشكل كامل بينما تنهار المليشيا
  • الغرب وكأس الشرق الأوسط المقدسة