ترجمة: بدر بن خميس الظفري -

مهما كانت الحقيقة حول «ديب سيك» (DeepSeek)، فإن القطاع التكنولوجي في الصين يسبق الغرب بسنوات ضوئية من حيث الاستراتيجية والاستثمار، وللمرة الأولى، لم يكن دونالد ترامب مبالغًا في تصريحاته. إنّ وصول روبوت محادثة صيني منخفض التكلفة يُدعى «ديب سيك» لمنافسة ChatGPT «تشات جي بي تي» يُعدّ حقًا بمثابة جرس إنذار.

إنه جرس إنذار لعمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وجرس إنذار لوول ستريت، وجرس إنذار لأي دولة متقدمة تسعى إلى دخول سباق الذكاء الاصطناعي.

كل ذلك صحيح حتى لو لم يكن «ديب سيك» بالضبط كما يُروَّج له. ولكن إذا كان منتجًا حقيقيًا، فإن الصينيين قد نجحوا في تطوير ذكاء اصطناعي عالي الجودة يمكن استخدامه بحرية وبتكلفة زهيدة، وهذا أمر مذهل، في عام 1957، صُدمت الولايات المتحدة عندما نجح الاتحاد السوفييتي في إطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء. واليوم، تفاجأت بنفس القدر مع ظهور «ديب سيك». حقًا، يمكن اعتبار هذا لحظة «سبوتنيك» جديدة.

بالتأكيد، هناك من يشكك في قدرة شركة صينية ناشئة على تحقيق ما أنفقت عليه شركات التكنولوجيا الأمريكية مليارات الدولارات بميزانية محدودة. وقد يكون هؤلاء المشككون على حق، لكن ذلك لا يغيّر الصورة الكبرى وهي أن تهديد الصين لهيمنة الغرب التكنولوجية حقيقي، وأن السباق للفوز في الذكاء الاصطناعي سيكون بنفس ضراوة سباق الفضاء في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وربما أكثر شراسة. الصين تملك نفوذًا اقتصاديًا أكبر مما امتلكه الاتحاد السوفييتي في أي وقت مضى.

في بدايات نهضتها الاقتصادية السريعة، كانت الصين تُعدّ موقعًا مناسبًا للشركات الأمريكية والأوروبية للاستعانة بمصادر خارجية للإنتاج. كان العمال الصينيون يتقاضون أجورًا منخفضة، ونقل التصنيع إلى الخارج كان يعني أرباحًا أعلى. الفكرة كانت أن جميع الجوانب المتقدمة، مثل: تصميم المنتجات والبحث والتطوير، ستظل في الغرب، بينما يقتصر دور الصين على التجميع في مقاطعة «غوانغدونغ». وكان الاعتقاد السائد أن النظام الماركسي-اللينيني في الصين سيخنق أي إبداع يمكن أن يؤدي إلى ابتكار أفكار ومنتجات جديدة.

لكن هذا التصور أثبت أنه بسيط للغاية، ففي عام 2023، قدمت الصين عددًا من براءات الاختراع يفوق ما قدمه بقية العالم مجتمعًا. وتخرّج الجامعات الصينية في المتوسط أكثر من 6000 دكتور في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات شهريًا، أي أكثر من ضعف العدد في الولايات المتحدة. وكما يُظهر «ديب سيك»، تمتلك الصين مجموعة متزايدة من العقول اللامعة القادرة على التفكير خارج الصندوق عندما يُسمح لها بذلك، كما كان الحال بالتأكيد في تطوير الذكاء الاصطناعي والبطاريات الليثيوم-أيون والمركبات الكهربائية.

الولايات المتحدة تدرك تهديد الصين لهيمنتها، والحد من القوة الاقتصادية لبكين أصبح قضية يتفق عليها الحزبان في واشنطن، لذلك ظلت الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الواردات الصينية خلال ولايته الأولى قائمة خلال فترة جو بايدن، بل تمت زيادتها. وقبل أسبوع واحد من مغادرة بايدن منصبه، فرض قيودًا جديدة على تصدير الرقائق الإلكترونية المتطورة المصنعة في الولايات المتحدة لمنع دول مثل الصين من الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، كما قدم قانون «خفض التضخم» الذي أقره بايدن لمنح إعانات مالية لتشجيع إنتاج المنتجات الصديقة للبيئة داخل الولايات المتحدة.

لكن في بعض القطاعات، قد يكون الأوان قد فات. الصين بالفعل أكبر مُصدّر للسيارات الكهربائية في العالم، ما دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى فرض تعريفات وقائية. البطاريات الليثيوم-أيون التي تصنعها المصانع الصينية أصبحت تكلفتها أقل بسبع مرات لكل كيلوواط/ساعة مما كانت عليه قبل 10 سنوات. لم يكن ينبغي أن يكون مفاجئًا للولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى أن تقسيم الجهد العالمي، حيث تقوم الصين بالأعمال اليدوية منخفضة التكلفة بينما يحتفظ الغرب بالتكنولوجيا المتقدمة، سيكون ذا جاذبية محدودة لبكين. وبدلًا من الاكتفاء بإنتاج الأحذية والألعاب وأجهزة التلفزيون، قامت الصين بجهد متعمد لدخول القطاعات التكنولوجية المتقدمة.

بالطبع، لهذه الاستراتيجية حدودها. هناك من يرى أن النموذج الاقتصادي الصيني سيصبح في النهاية غير متوافق مع نظامه السياسي، وأن المطالب بالديمقراطية ستجبر الحزب الشيوعي على تقليل القمع، كما أن الصين ليست بمنأى عن المشكلات الاقتصادية، إذ تعمل العديد من شركاتها الحكومية بخسائر، فيما انفجرت فقاعة سوق العقارات لديها.

ورغم ذلك، من الواضح أن المعركة على التفوق في الذكاء الاصطناعي تزداد سخونة. ترامب يعتقد أن بعض المنافسة من الصين ليست أمرًا سيئًا بالنسبة لقطاع التكنولوجيا الأمريكي، وهو محق. تراجعت قيمة أسهم شركات التكنولوجيا في وول ستريت بعد ظهور خبر «ديب سيك»، لأنه أثار التساؤلات حول جدوى الاستثمارات الضخمة في الشركات الأمريكية، لكن توافر نماذج منخفضة التكلفة سيؤدي إلى تسريع استخدام الذكاء الاصطناعي. ورغم المخاطر الواضحة، على الخصوصية والأمن والوظائف، فإن هناك فوائد محتملة أيضًا.

يقول كير ستارمر إنه يريد أن تصبح بريطانيا «قوة عظمى في الذكاء الاصطناعي»، ويجب أن يصبح تحقيق هذا الهدف أسهل مع انخفاض تكاليف التطوير. ولكن الكلام سهل. لم تظهر القطاعات التقنية المتقدمة في الصين من العدم، ولم يكن استحواذها على سوق السيارات الكهربائية منخفضة التكلفة محض صدفة. مثل دول شرق آسيا الأخرى قبلها، اتبعت الصين نهجًا استراتيجيًا حيال الصناعات التي أرادت أن تكون فيها منافسًا عالميًا، واستثمرت بكثافة في بنائها، وحمتها خلال مراحلها الأولى، وانتظرت بصبر النتائج. لم يكن هناك اعتقاد أعمى في قوى السوق، ولم يكن هناك نفور من دعم الصناعات الناشئة. الفرق بين الصين والمملكة المتحدة واضح وضوح الشمس.

لاري إليوت كاتب في صحيفة الجارديان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الذکاء الاصطناعی دیب سیک لم یکن

إقرأ أيضاً:

الجزائر في طليعة تبني الذكاء الاصطناعي في إفريقيا

تحدث وزير البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، سيد علي زروقي، خلال القمة الوزارية التي عقدت أمس ببرشلونة، على الاستثمارات الاستراتيجية والمبادرات الرئيسية التي اتخذتها الحكومة الجزائرية لتعزيز تبني الذكاء الاصطناعي والتمهيد له.

وأكدت الجزائر، خلال القمة الوزارية التي عقدت بالموازاة مع المؤتمر العالمي للهاتف النقال، بمشاركة 14 وزيراً حضوريا و 12 وزيرا عن بعد، ممثلين عن 26 دولة، مرة أخرى، دورها الريادي في مجال الذكاء الاصطناعي في إفريقيا.

وذكر الوزير، في مداخلته، إنجازات الجزائر في هذا المجال، ومن بينها المدرسة الوطنية العليا للذكاء الاصطناعي. التي أُنشئت ضمن الرؤية الاستشرافية لرئيس الجمهورية، منذ أربع سنوات. قبل أن يصبح الذكاء الاصطناعي موضوعًا مركزيا على الصعيد العالمي.

بالإضافة إلى إطلاق أكبر مركز بيانات وحوسبة في المنطقة. والذي يعدّ بنية تحتية رئيسية لمعالجة البيانات الضخمة وتطوير التكنولوجيات الحديثة.

وكذا إنشاء مراكز تطوير المهارات “Skills Centers” وصندوق استثمار لتشجيع الذكاء الاصطناعي. التي ستدعم تعزيز المهارات والابتكار التكنولوجي في الجزائر.

كما أشار الوزير إلى مخرجات القمة الوزارية الأخيرة التي انعقدت على هامش المؤتمر الإفريقي للمؤسسات الناشئة. والتي أسفرت عن إعلان مشترك وخارطة طريق لتبني الذكاء الاصطناعي في إفريقيا.

كما أكد على أهمية اعتبار هذه الخارطة مرجعاً لأعمال المجلس الإفريقي للذكاء الاصطناعي. داعيًا إلى تعميقها واعتمادها على الصعيد القاري.

علاوة على ذلك، أكد زروقي على أن الجزائر تبقى الموقع المثالي لتنصيب الاستثمارات مستقبلا فيما يخص مراكز البيانات الضخمة.

مشيرا إلى أن هذه المكانة المتميزة تعتمد على بنى تحتية قوية للاتصالات وثروة رأس المال البشري ذي المهارات العالية. وتنافسية في الطاقة بفضل الموارد الوفيرة وموقع جغرافي مركزي.

مما يجعل الجزائر محورًا تكنولوجيًا لا غنى عنه في إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط.

وقد أشاد المشاركون بهذه المقاربة الاسشرافية، وفي هذا الصدد، ألح المدير العام لـ Smart Africa، لاسينا كوني، على أهمية الاعتماد على نتائج القمة الوزارية الإفريقية خلال المؤتمر الإفريقي للمؤسسات الناشئة.

مشيرا إلى أن هذه الأعمال يجب أن تكون أساسَ تطوير استراتيجيات الذكاء الاصطناعي للقارة.

وعلى هذا النهج تواصل الجزائر رسم المسار نحو تحول رقمي طموح وشامل في إفريقيا. من خلال وضع الابتكار وتكوين المواهب في صميم عملها.

حيث تعكس هذه الرؤية التحديات والفرص التي يطرحها مستقبل يتجه بحزم نحو الذكاء الاصطناعي.

إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور

مقالات مشابهة

  • الذكاء الاصطناعي تكلفة عالية على البيئة
  • أمازون تدخل سباق وكلاء الذكاء الاصطناعي بتأسيس فريق جديد
  • الخبرات النادرة والمعادلة الجديدة في الذكاء الاصطناعي
  • عندما يلتقي الذكاء الاصطناعي والعاطفي
  • الخوارزمية الأولى: أساطير الذكاء الاصطناعي
  • الصين ترفض بقوة قرار الولايات المتحدة فرض تعريفة جمركية إضافية على السلع المستوردة
  • الدماغ البشري يتفوّق على الذكاء الاصطناعي في حالات عدّة
  • حَوكمة الذكاء الاصطناعي: بين الابتكار والمسؤولية
  • لافروف: الغرب يتلاعب بالمبادئ الدولية ويشعل الصراعات
  • الجزائر في طليعة تبني الذكاء الاصطناعي في إفريقيا