الجزيرة:
2024-11-24@19:22:39 GMT

حزب الله وإسرائيل.. محفزات المواجهة ومثبطاتها

تاريخ النشر: 21st, August 2023 GMT

حزب الله وإسرائيل.. محفزات المواجهة ومثبطاتها

تبادلت إسرائيل وحزب الله مؤخرا التصعيد اللفظي في أعقاب سلسلة من التوترات التي نشبت بين الجانبين على الحدود، فقد هدد وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت بإعادة الدولة اللبنانية إلى "العصر الحجري" في حال باغت حزب الله إسرائيل بعمل عسكري، وهو ما استدعى أن يرد أمين عام حزب الله حسن نصر الله بتهديد مماثل.

وقد جاءت التهديدات المتبادلة إثر ما اعتبرته تل أبيب سلسلة من "الاستفزازات" أقدم عليها حزب الله، تمثلت في نصب خيام لمقاتليه داخل منطقة "مزارع شبعا، التي تدعي إسرائيل أنها جزء لا يتجزأ من أرضها "السيادية"، في حين يعدها اللبنانيون أرضا محتلة.

ويدعي جيش الاحتلال أن "استفزازات" حزب الله باتت تشمل تسيير دوريات لمقاتليه على تخوم المستوطنات اليهودية التي تقع على الحدود، بشكل غير مسبوق، فضلا عن السماح للمواطنين اللبنانيين بالاشتباك مع قوات الاحتلال التي تعكف على تدشين تحصينات هندسية على الحدود.

كما تحمل إسرائيل حزب الله المسؤولية عن إطلاق عشرات الصواريخ من جنوب لبنان إلى مستوطنات شمال فلسطين، حتى لو كانت منظمات فلسطينية تقف وراء هذا الإطلاق، على اعتبار أن أي تنظيم فلسطيني ليس بوسعه الإقدام على ذلك دون الحصول على الضوء الأخضر من الحزب.

ويزعم الإسرائيليون أن حزب الله يقف خلف عملية التفجير التي وقعت قبل 6 أشهر بالقرب من مفترق "مجيدو"، شمال إسرائيل التي نفذها شخص تسلل من لبنان وقتلته قوات الاحتلال أثناء محاولته العودة إلى الحدود. وتحاجج إسرائيل بأن حزب الله وقف قبل عام ونصف خلف إطلاق عدة مسيّرات انتحارية صوب منصات استخراج الغاز الإسرائيلية في حوض المتوسط، حيث أسقطها سلاح الجو الإسرائيلي قبل بلوغها الهدف.

لا رغبة إسرائيلية في التصعيد

لكن التهديدات التي أطلقها غالانت لا تعبر -في الحقيقة- عن رغبة أو مصلحة إسرائيلية في التصعيد ضد حزب الله. فقد جاءت بالأساس لردع حزب الله عن الإقدام على عمل عسكري ضد إسرائيل، بعد أن لاحظ جيش الاحتلال انتشار عناصر وحدة "الرضوان" التي تمثل قوات النخبة لدى حزب الله على طول الحدود، بعد أن أجروا مناورة عسكرية تم توثيقها إعلاميا.

وتجاهر النخبة العسكرية الإسرائيلية بالتخوف من أن يستخدم حزب الله وحدة "الرضوان" في تنفيذ عملية توغل بري مباغتة يسيطر في إطارها على مستوطنات في شمال إسرائيل ضمن عملية عسكرية واسعة.

في الوقت ذاته، تقر تل أبيب أن تهديدات غالانت، تأتي لمحاولة إقناع حزب الله بألا يستخلص استنتاجات "خاطئة" بأن الوقت المناسب لمهاجمة إسرائيل، ولا سيما في أعقاب إقرار جيش الاحتلال بتراجع كفاءته بسبب تعاظم مظاهر رفض الخدمة العسكرية في أوساط قوات الاحتياط احتجاجا على التعديلات القضائية.

كما تقف اعتبارات داخلية أيضا خلف تهديدات غالانت، حيث تشعر حكومة بنيامين نتنياهو بحرج شديد إزاء الانتقادات الواسعة من المعارضة والنخبة الإعلامية في تل أبيب التي تحملها مسؤولية تهاوي قوة الردع الإسرائيلية بسبب مواصلتها غض الطرف عن "استفزازات" حزب الله وعدم الرد عليها.

رغم أن الطرفين لا يرغبان في مواجهة شاملة، فإن تعقيد الحسابات الداخلية لهما، وقراءة أحدهما سلوك الآخر بشكل خاطئ قد يورطهما في هذه المواجهة

وتشير كل الدلائل إلى أن إسرائيل تحاول احتواء ما تعتبره استفزازات حزب الله وتتجنب خوض مسار يفضي إلى اندلاع مواجهة عسكرية معه خشية الضرر غير المسبوق الذي سيلحق بجبهتها الداخلية وعمقها المدني بسبب طابع الترسانة الصاروخية التي يحوزها الحزب، كما يقدر الجيش الإسرائيلي.

وحسب التقديرات الإسرائيلية، فإن ترسانة حزب الله الصاروخية تمتاز بأربع سمات أساسية. فالحزب يحوز عددا ضخما من الصواريخ نسبيا، يصل حسب تقديرات جيش الاحتلال إلى 200 ألف صاروخ، وهو ما يمنحه القدرة على إطلاق 6 آلاف صاروخ في اليوم الأول من الحرب. فضلا عن أن الكثير من هذه الصواريخ ذات مدى بعيد، يمكّنها من ضرب أية بقعة داخل إسرائيل. كما أن عددا كبيرا منها يحمل رؤوسا متفجرة ثقيلة، قادرة على إلحاق ضرر بالغ في العمق الداخلي الإسرائيلي.

لكن أخطر سمات ترسانة حزب الله الصاروخية، حسب التقدير الإسرائيلي، تكمن في حقيقة أن عددا غير قليل منها ذو دقة إصابة عالية، يسمح بتوجيهها لضرب أهداف بعينها، وهذا ما يتيح للحزب استهداف مرافق وبنًى عسكرية ومدنية ذات قيمة إستراتيجية.

هذه النوعية الأخيرة من الصواريخ قادرة على تقليص الكفاءة القتالية لسلاح الجو الإسرائيلي من خلال ضرب القواعد الجوية ومنظومات التحكم والسيطرة التابعة له، فضلا عن استهداف مرافق مدنية حيوية، مثل: منصات استخراج الغاز، محطات تحلية المياه، محطات توليد الكهرباء، ومؤسسات سيادية ذات قيمة رمزية، مثل مبنى وزارة الحرب في تل أبيب.

ونظرا إلى أن الكثير من صواريخ حزب الله تجمع بين المدى الطويل والرأس المتفجر الثقيل فإن قدرة منظومات الدفاع الجوي على اعتراضها ستكون متدنية، مما يقلص من قدرة هذه المنظومات على تأمين العمق الإسرائيلي.

في الوقت ذاته، فإن دوائر صنع القرار في تل أبيب تعي أن الظروف الداخلية التي تمر بها إسرائيل تقلص من قدرتها على تحمل تبعات مواجهة شاملة مع حزب الله. فتعاظم الاستقطاب السياسي والتشظي المجتمعي نتاجَ الانقسام الذي فجرته خطة التعديلات القضائية بات يؤثر على قدرة إسرائيل على تحمل تبعات مواجهة عسكرية مع طرف خارجي.

فتآكل الشرعية الداخلية الذي تعاني منه حكومة نتنياهو في أعقاب رفض قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي للتعديلات القضائية يجعل من خوض مواجهة عسكرية مخاطرة كبيرة، ولا سيما في حال لم يتمكن الجيش من تحقيق حسم عسكري واضح فيها.

ونظرا لإقرار قيادات الجيش الإسرائيلي علنا بتراجع الكفاءة والجاهزية العسكرية بعد عزوف قطاعات واسعة من قوات الاحتياط عن الخدمة العسكرية فإن فرص الفشل في تحقيق الأهداف العسكرية في هذه المواجهة ستكون كبيرة.

وقد حذر غيورا آيلاند، الذي شغل في السابق منصب رئيس مجلس الأمن القومي السابق وقائد شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي أواخر الأسبوع الماضي، من أن يفضي اندلاع مواجهة عسكرية كبيرة في ظل تراجع كفاءة الجيش وجاهزيته للحرب إلى تهديد وجود إسرائيل ذاتها.

ويخشى نتنياهو وغالانت أن يفضي الفشل العسكري إلى تشكيل لجان للتحقيق في أسبابه تنتهي إلى تحميلهما مسؤوليته وتسدل الستار على مستقبلهما السياسي.

حسابات حزب الله

وفي المقابل، فإن نمط سلوك حزب الله على طول الحدود لا يشي بالضرورة برغبة في اندلاع مواجهة شاملة مع إسرائيل. فنشاطاته العسكرية تعكس رغبة في تصعيد "محدود وحذر" يرمي إلى تأكيد حقوق لبنان في "مزارع شبعا"، ويحسّن من مكانة الحزب الداخلية والإقليمية عبر إبراز دوره في تآكل قوة الردع الإسرائيلية.

وسيمثل شروع لبنان في التنقيب عن الغاز في المياه الاقتصادية التي منحها إياها اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، ورقة ضغط على حزب الله، الذي سيخشى تحميله مسؤولية حرمان لبنان من موارد الطاقة في حال استهدفت إسرائيل حقول الغاز اللبنانية في إطار أية مواجهة مستقبلية معه.

لكن، رغم أن الطرفين لا يرغبان في مواجهة شاملة، فإن تعقيد الحسابات الداخلية لهما، وقراءة أحدهما سلوك الآخر بشكل خاطئ قد يورطهما في هذه المواجهة. فما يعده حزب الله تصعيدا محدودا، يمكن أن يدفع نتنياهو -المأزوم داخليا- إلى الرد بقوة تحت ضغط اتهام المعارضة له بالتقصير والتفريط في قوة الردع الإسرائيلية، ويحدث عندئذ ما يحذر منه الطرفان.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: مواجهة عسکریة جیش الاحتلال حزب الله تل أبیب

إقرأ أيضاً:

مفاوضات لبنان وإسرائيل: قراءة في تطورات المشهد

خرج المبعوث الرئاسي الأمريكي عاموس هوكشتاين، يوم الأربعاء (20 تشرين الثاني/ نوفمبر)، "مبتسما" و"متفائلا" عقب اجتماع عقده مع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، المفاوض عن الدولة اللبنانية وحزب الله، في بيروت.

جاء هذا اللقاء بعد إحراز تقدم في مفاوضات وقف إطلاق النار بين حزب الله و"إسرائيل". وكان هوكشتاين قد عاد إلى بيروت إثر رد إيجابي من الطرف اللبناني على مسودة مقترحات أمريكية للتسوية قدمتها السفيرة الأمريكية في لبنان قبل أيام.

في اليوم التالي، توجّه هوكشتاين حاملا هذه الأجواء الإيجابية إلى "إسرائيل" لمناقشة تطورات الملف من الجانب الإسرائيلي، هناك التقى وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، حيث عقد معه مباحثات وصفتها وسائل الإعلام الإسرائيلية بـ"البنّاءة". ونقلت قناة "كان" العبرية عن مصادر أن "90 في المئة من بنود مسودة وقف إطلاق النار في لبنان تم التوافق عليها".

ومع ذلك، تبقى نقطتان عالقتان تحولان دون اكتمال الاتفاق، أولا، رفض لبنان أن تحتفظ "إسرائيل" بحرية التحرك في الأجواء والأراضي اللبنانية في حال الزعم بانتهك الجانب اللبناني الاتفاق، بينما يحاول هوكشتاين وفق تقارير إعلامية إدراج بند "حق الدفاع عن النفس" للطرفين كصيغة بديلة ليوافق عليها الجانب اللبناني؛ الذي يسعى كذلك للحصول على ضمانة أمريكية تحول دون بدء "إسرائيل" أي اعتداء على لبنان حال إبرام الاتفاق.

أما النقطة الثانية فتتعلق بآلية الرقابة على تنفيذ الاتفاق، حيث يختلف الطرفان بشأن عضوية الدول في فريق مراقبة تطبيقه. يرفض الجانب اللبناني وجود بريطانيا وألمانيا في الفريق، مفضلا دولا عربية مثل مصر، بينما تفضل "إسرائيل" اقتصار الفريق على الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، مع استبعاد أي دولة عربية.

لبنانيا، أكد أمين عام حزب الله، الشيخ نعيم قاسم، أن فريقه يسعى إلى وقف العدوان وحفظ السيادة اللبنانية بشكل كامل، وأشار إلى أن المقاومة ستواصل القتال في الميدان بالتزامن مع متابعة المفاوضات، مؤكدا استعادة حزب الله عافيته بعد تعرضه لضربات قاسية.

هدفت "إسرائيل" من خلال هذه العمليات الى أن تضغط على حزب الله الى الحد الأقصى فاستعملت أقصى ما تمتلك في جعبتها كما ونوعا، وجل ما تريده أن يذعن لها حزب الله في المفاوضات بفعل قوة هذه الضربات وآثارها الواقعية والمعنوية. إلا أن حزب الله رفض الخضوع لهذه الضغوط، وأصر على مواصلة المعركة، ليعيد ترميم هيكله القيادي العسكري والسياسي
في المقابل، تسعى "إسرائيل" إلى ضمان عدم قدرة حزب الله على تنفيذ عمليات عسكرية ضدها، مع الحفاظ على حقها في الرد في حال حدوث أي انتهاك من الجانب اللبناني، وفق تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، ووزير الخارجية جدعون ساعر.

في ظل هذه التطورات، تثار تساؤلات بين المراقبين حول أسباب إحراز هذا التقدم في المفاوضات بعد فترة طويلة من القتال الشرس وانعدام أفق الحل الدبلوماسي، ومدى جدية وواقعية التوصل إلى اتفاق شامل في نهاية المطاف.

استراتيجية "إسرائيل" في الضغط على المقاومة

لفهم خلفيات هذا التقدم، لا بد من التطرق إلى الوقائع الميدانية التي رسمت معالم المرحلة الحالية. ففي أيلول/ سبتمبر الماضي، تمكنت "إسرائيل" من تنفيذ سلسلة عمليات أمنية نوعية ضد حزب الله في لبنان خلال فترة زمنية قصيرة. تضمنت هذه العمليات تحييد عدد كبير من مقاتلي الحزب ومناصريه، واستهداف البنية القيادية السياسية والعسكرية، بما في ذلك الأمين العام السيد حسن نصر الله. كما شملت الضربات قصف مواقع استراتيجية، من بينها مخازن أسلحة، ومؤسسات مالية كـ"القرض الحسن"، بالإضافة إلى طرق الإمداد مع سوريا.

هدفت "إسرائيل" من خلال هذه العمليات الى أن تضغط على حزب الله الى الحد الأقصى فاستعملت أقصى ما تمتلك في جعبتها كما ونوعا، وجل ما تريده أن يذعن لها حزب الله في المفاوضات بفعل قوة هذه الضربات وآثارها الواقعية والمعنوية. إلا أن حزب الله رفض الخضوع لهذه الضغوط، وأصر على مواصلة المعركة، ليعيد ترميم هيكله القيادي العسكري والسياسي ويكمل عملياته ضد "إسرائيل".

وفي ظل استنزاف معظم أوراق الضغط الإسرائيلية، لم يبق أمامها سوى خيارين للتصعيد: القيام بعملية برية واسعة أو استهداف المدن والمدنيين.

فيما يتعلق بالعملية البرية، لا يبدو أن "إسرائيل" تسعى إلى احتلال فعلي ودائم لأراضي الجنوب اللبناني. يلفت معظم المراقبين إلى أنه لو كانت "إسرائيل" تهدف إلى ذلك، لما استعجلت في تنفيذ عمليات تفجير الأجهزة اللاسلكية واغتيال القادة بهذا الشكل، بل كانت ستؤجل هذه العمليات لتستخدمها كتمهيد لعملية برية شاملة، مما كان سيؤدي إلى إرباك حزب الله بشكل كبير ويسهل عليها السيطرة على أراضٍ في الجنوب. لكن يبدو أن هدف "إسرائيل" الأساسي لم يكن الاحتلال المباشر، بل ممارسة أقصى درجات الضغط على حزب الله لإبعاده عن دعم جبهة غزة في المرحلة الأولى، ومن ثم إجباره على تقديم تنازلات كبيرة في المفاوضات، تنازلات قد تكون غير قابلة للتحقيق في الظروف العادية.

لتحقيق هذا الهدف، اعتمدت "إسرائيل" تكتيكات برية محدودة، شملت اقتحام قرى لبنانية وتدميرها، مع توثيق هذه العمليات ونشر مقاطع فيديو تظهر الدمار وجنودها في تلك المناطق. هذا التوثيق كان يهدف إلى زيادة الضغط النفسي والمعنوي، ليس فقط على حزب الله، بل أيضا على الرأي العام اللبناني، لإحداث شرخ داخلي يدفع الحزب إلى التراجع. ومما يثير الانتباه أن "إسرائيل" أظهرت استعدادا للتضحية ببعض عناصرها من أجل التقاط هذه الصور والفيديوهات التي تخدم الحرب الإعلامية والنفسية.

وبعد انتهاء المرحلة الأولى من العدوان البري، وصل المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين في زيارة سابقة لاستكشاف ما إذا كانت هذه الضغوط قد دفعت حزب الله إلى التراجع. لم تلمس "إسرائيل" أي مؤشرات على رضوخ الحزب، ما دفعها إلى بدء المرحلة الثانية من العدوان. في هذه المرحلة، لجأت إلى تكثيف القصف واستهداف قرى جديدة، في محاولة لمواصلة الضغط وتعزيز مكاسبها الميدانية والنفسية.

في هذه الظروف، راهنت "إسرائيل" على ممارسة أقصى درجات الضغط على حزب الله بهدف إضعافه وإجباره على التفاوض وفق شروط مواتية لها. ركزت استراتيجيتها على محورين رئيسيين: الأول، تنفيذ ضربات أمنية متلاحقة ومؤثرة تهدف إلى شل قدرات الحزب. والثاني، تأليب الشارع اللبناني عليه عبر تحميله مسؤولية الدمار الذي حل بلبنان نتيجة قرار فتح جبهة الإسناد في الثامن من أكتوبر 2023. كانت "إسرائيل" تأمل أن تثمر هذه الضغوط، في ظل تفوقها الميداني الظاهر، في دفع الحزب إلى تقديم تنازلات كبيرة على طاولة المفاوضات.

انقلاب الوضع على "إسرائيل" بعد حالة التفوق

لكن، ثمة عاملان حالا دون تحقق الغاية الإسرائيلية؛ أولا، قدرة حزب الله على النهوض مجددا. فرغم الضربات الأمنية القاسية التي تلقاها، أظهر حزب الله قدرة لافتة على استعادة زمام المبادرة. ومن أبرز دلائل هذا التعافي الأرقام التي تعبر عن الخسائر الكبيرة التي يكبدها للجيش الإسرائيلي، حيث قُتل له أكثر من 100، وجرح أكثر من 1000، ودمر الحزب عشرات دبابات الميركافا وآليات أخرى، وأسقط عدة مسيرات من نوع هرمز في الأجواء اللبنانية.

كما استطاع حزب الله أن يضع خططا جديدة لقصف يومي لمواقع في الداخل الفلسطيني المحتل، يتراوح مداه الجغرافي بين كريات شمونة وجنوب حيفا ويصل إلى ضواحي تل أبيب، يستهدف مواقع عسكرية وأمنية إسرائيلية تتنوع وتتجدد كل فترة، بصواريخ متنوعة ومسيّرات انقضاضية لم تجد "إسرائيل" السبيل إلى التعامل معها حتى اليوم، بالإضافة إلى قصف يومي لعشرات المستوطنات التي طُلب من سكانها إخلاؤها لأنها أصبحت تحت مرمى القصف اليومي لحزب الله.

متغيرات سياسية في المشهد. أولا، وصل ترامب إلى البيت الأبيض، وهناك غموض يلف مشروع ترامب القادم، وبالتالي صعوبة في توقع أولوياته في الصداقة والعداء والحرب والسلم. ثانيا، هناك تصعيد عسكري نوعي "خطير" بين روسيا وأوكرانيا
في المقابل، لم تستطع إسرائيل بعد تنفيذ العمليات الأمنية النوعية، واستنفاد بنك الأهداف في فترة قصيرة تحقيق أي إنجاز نوعي، عسكري أو أمني، ضد حزب الله، مما جعل يفقدها التفوق الميداني رويدا رويدا، حيث تهبط أسهمها وترتفع أسهم حزب الله تدريجيا في المقابل.

ثانيا، رغم الانقسام الحاد داخل لبنان بشأن التعامل مع الواقع الحالي، لم تحدث اضطرابات أمنية كبرى أو صراعات داخلية تُجبر حزب الله على تسريع التفاوض خشية فقدان السيطرة الداخلية. حاولت "إسرائيل" استغلال هذه النقطة عبر تكتيكات تهدف إلى خلق توتر داخلي لزيادة فرص حصول صراع داخلي لبناني ضد حزب الله، مثل استهداف مناطق مدنية في بيروت وأحيانا مناطق خارج نطاق الصراع المباشر، دون تحقيق أي مكاسب عسكرية أو أمنية حقيقية، لكن سعيا إلى زيادة الضغط الشعبي اللبناني ضد حزب الله.

في المقابل، رد حزب الله على هذه الاعتداءات باستهداف تل أبيب الكبرى، ما أكد مرة أخرى تعافيه الميداني ونجاحه في فرض قواعد اشتباك جديدة. هذا الرد لم يقتصر على الجانب العسكري، بل قطع الطريق أمام "إسرائيل" في محاولاتها لزيادة الضغط الشعبي اللبناني عليه، وأعاد تثبيت معادلة الردع التي تأثرت سابقا بفعل العمليات الأمنية الإسرائيلية.

إذن، من الناحية الميدانية، بدأت "إسرائيل" تفقد تفوقها تدريجيا ولم تعد تحقق إنجازات نوعية. يُلاحَظ أنها تجد صعوبة في تثبيت وجودها في القرى اللبنانية التي تدخلها، مكتفية بتدميرها واستغلال الفيديوهات المصورة كوسيلة للضغط النفسي والمعنوي على حزب الله. لكن هذه المحاولات لم تؤتِ ثمارها بشكل كبير داخل الساحة اللبنانية، خاصة مع وجود تناغم ملحوظ بين حزب الله والدولة اللبنانية، ممثلة برئيس مجلس النواب نبيه بري، ما يضفي شرعية إضافية على موقف الحزب.

في المقابل، ما زال حزب الله قادرا على فرض معادلات جديدة على الأرض، مثل استهداف تل أبيب الكبرى، ما يعكس قدرته على التعامل مع الوضع القائم. إضافة إلى ذلك، كلما تقدمت "إسرائيل" داخل الأراضي اللبنانية، ترتفع كلفة العدوان البري عليها، خاصة مع احتمال تنفيذ حزب الله عمليات نوعية تخشاها "إسرائيل"، مثل أسر الجنود، فمثل هذه العمليات كفيلة بإحداث تغيير جذري في مسار الصراع وإضعاف الموقف الإسرائيلي بشكل كبير.

تحولات السياسة الدولية وأثرها على الصراع في لبنان

وبعيدا عن الميدان، ثمة كذلك متغيرات سياسية في المشهد. أولا، وصل ترامب إلى البيت الأبيض، وهناك غموض يلف مشروع ترامب القادم، وبالتالي صعوبة في توقع أولوياته في الصداقة والعداء والحرب والسلم. ثانيا، هناك تصعيد عسكري نوعي "خطير" بين روسيا وأوكرانيا، بعد استعمال أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى لضرب أهداف داخل روسيا واستعمال صواريخ أمريكية متطورة سابقا، مقابل تهديدات روسية مرتفعة بعد إجراء تعديلات على عقيدتها النووية.

لم يعد الصراع محصورا في غزة وجنوب لبنان، بل صار صراعا استراتيجيا متعلقا بالمصالح الطاقوية والتجارية للدول الكبرى، وإيقاعه ليس منفصلا عن إيقاع الحروب الأخرى. لذلك، إن توقف الحرب في لبنان -لو حصل- قد لا يعني انتهاء الصراع نهائيا بين حزب الله و"إسرائيل" أو بين إيران وأمريكا، بل ربما انتهاء جولة من جولاته
وبالتالي، هناك غموض في عملية انتقال السلطة في أمريكا من الديمقراطيين إلى الجمهوريين، وفي برنامج الجمهوريين بعد استلامهم السلطة. فقد تكون التسوية في الشرق الأوسط مصلحة مشتركة لكل من الإدارتين، خاصة مع وجود أنباء عن تفويض ترامب لهوكشتاين، ومع تصعيد عسكري غربي ضد روسيا، ومع قناعة جمهورية راسخة بأولوية إيقاف الصعود الصيني الذي يشكل الخطر الأكبر على أمريكا حسب تصورهم. وقد تكون هدنة مؤقتة إلى أن يصل ترامب إلى السلطة، فتُعطي إنجازا لإدارة بايدن، ويُترك لترامب إعادة تعريف الصراع سياسيا وعسكريا حسب رؤيته، بعيدا عن إرهاصات تعامل إدارة بايدن مع الصراع على مدى الفترة السابقة.

على أية حال، ورغم عدم وضوح الرؤى على الصعيد السياسي مع وضوح الميداني، لا يمكن فصل انتقال السلطة من الديمقراطيين إلى الجمهوريين عن مسار الصراع في المنطقة، فقد تكون الحكاية تكتيكا أمريكيا للمناورة في إطار انتقال السلطة، أو قناعة إسرائيلية بعدم القدرة على تحقيق إنجازات حقيقية في لبنان بعد استنفاد كل أدوات الضغط والحرب.

إذا كانت الأولى، أي وجود ميل أمريكي نحو تسوية الوضع، ستكون المقاومة قد استغلت هذه المعطيات لتحويل الضغط على "إسرائيل"، خاصة نتنياهو، وبالتالي تخفف من الضغط اللبناني الداخلي لأن حزب الله ظهر هذه المرة كالطرف الذي يسعى إلى تسوية معقولة، وفي حال عرقلت المفاوضات ستكون "إسرائيل" هي الجهة المسؤولة قطعا؛ لأن هوكشتاين خرج مسرورا من لبنان ورآه الشعب اللبناني والعالم، فلم تعد المقاومة تتحمل أي مسؤولة إزاء استمرار العدوان على لبنان في عين الداخل اللبناني وحتى عند الأمريكي.

أما في حال كان رضوخا إسرائيليا لواقع الميدان في جنوب لبنان، فيجب التنبه جيدا إلى أن "إسرائيل"، وبعكس ما يعتقده الكثير من العرب، لا تستطيع أن تلعب خارج الملعب الأمريكي، وبأن الأخير هو الذي يضبط إيقاع الصراع وليس "إسرائيل"، لذلك عندما تريد أمريكا من "إسرائيل" أن توقف الحرب فإنها ستقف، وعندما تريد أن تؤجلها ستتأجل من جهة الإسرائيلي.

لم يعد الصراع محصورا في غزة وجنوب لبنان، بل صار صراعا استراتيجيا متعلقا بالمصالح الطاقوية والتجارية للدول الكبرى، وإيقاعه ليس منفصلا عن إيقاع الحروب الأخرى. لذلك، إن توقف الحرب في لبنان -لو حصل- قد لا يعني انتهاء الصراع نهائيا بين حزب الله و"إسرائيل" أو بين إيران وأمريكا، بل ربما انتهاء جولة من جولاته، وهكذا يبقى الوضع إلى أن تستطيع المقاومة إسقاط مشروع شرعنة وتطبيع الوجود الإسرائيلي في المنطقة، أو يستطيع الأمريكي والإسرائيلي إنهاء حالة المقاومة في المنطقة.

مقالات مشابهة

  • سيراميكا بالقوة الضاربة في مواجهة حرس الحدود
  • إسرائيل: إصابة 7 مستوطنين إثر هجوم صاروخي استهدف حيفا
  • ‏الجيش الإسرائيلي: حزب الله أطلق 200 مقذوفا من لبنان باتجاه إسرائيل الأحد
  • اشتباكات عنيفة بين “حزب الله” والجيش الإسرائيلي في بلدة يارون
  • ما مصلحة إيران في عرقلة المفاوضات بين لبنان وإسرائيل؟
  • حزب الله يستخدم نسخة مقلدة من صاروخ إسرائيلي متطور في مواجهة إسرائيل
  • العثور على جثة الحاخام الإسرائيلي المختفي في الإمارات.. وإسرائيل تعلق: "الحادث إرهابي"
  • ‏مصدر عسكري أوكراني: أوكرانيا فقدت أكثر من 40% من الأراضي التي سيطرت عليها في منطقة كورسك الروسية
  • نجم ليجانيس يتحدى ريال مدريد قبل المواجهة المرتقبة معا.. تصريحات نارية
  • مفاوضات لبنان وإسرائيل: قراءة في تطورات المشهد