إعمار غزة.. والأمن القومي المصري والأردني
تاريخ النشر: 2nd, February 2025 GMT
أشهَرَ الرئيس ترامب رؤيته لحلّ الكارثة الإنسانية التي أحدثها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، بتهجير الفلسطينيين (2.25 مليون أو معظمهم) إلى الأردن، ومصر ودولٍ عربية أخرى، لتسكينهم وتوفير مقوّمات الحياة لهم كخطوة يمكن أن تكون "طويلة الأمد"، مؤكّدًا اتصاله بالملك الأردني عبدالله الثاني، وعزمه الاتصال بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وقد تحدّث إليه بالفعل بعد ذلك.
خطورة هذا الموقف من حيث الشكل أنه يخرج من رئيس أكبر دولة في العالم، مؤثّرة في السياسة الدولية والشرق الأوسط، ورئيس دولة تدّعي الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترامها لإرادة الشعوب، وتمنح نفسها "الأهلية" لتكون شرطيًا لحماية القانون الدولي والسلم والأمن الدوليين!
موقف الرئيس ترامب يتقاطع بطبيعة الحال مع موقف ورؤية اليمين الصهيوني المتطرف في إسرائيل المحتلة، والذي يعبّر عنه بوضوح وزير الأمن القومي المستقيل إيتمار بن غفير المرحّب بتصريحات ترامب، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي اعتبر موقف ترامب عظيمًا وتفكيرًا من خارج الصندوق، مبديًا حرصه على تنفيذ الفكرة مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.
تداعيات وخطورة رؤية ترامبدعوة الرئيس ترامب لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، تُلقي بظلالٍ وتداعيات خطيرة أخلاقيًا وسياسيًا ومنها:
إعلان أنّ تهجير الفلسطينيين، بهدف تحقيق أهداف سياسية تحت ذريعة إنسانية، يعدّ شكلًا من أشكال التطهير العرقي، فهي دعوة تسعى لتوظيف معاناة المدنيين والكارثة الإنسانية التي تسبّبت فيها إسرائيل بأسلحة أميركية، لتحقيق هدف التخلّص من الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، في محاكاة لعقلية الاستيطان الإحلالي الذي نشأت عليه الولايات المتحدة ذاتها قبل إسرائيل، حيث جرى التخلّص من السكان الأصليين (الهنود الحمر) في أميركا عبر إبادة نحو 50 مليونًا منهم. إنكار وجود الشعب الفلسطيني ناهيك عن حقه في تقرير مصيره، وهو موقف يمثّل روح الموقف الإسرائيلي؛ فمن المعلوم أن رؤية اليمين الصهيوني المتطرف الحاكم بقيادة نتنياهو قائمة على رفض الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، ورفض فكرة الدولة الفلسطينية، والسعي لضم الضفة الغربية وتهويد القدس والمسجد الأقصى، واحتلال قطاع غزة بالقوة العسكرية وتهجير سكّانه، مدخلًا لإنهاء القضية الفلسطينية.هذا الموقف يشكّل موقفًا لدولة إسرائيل المحتلة وليس موقفًا فقط لحكومة اليمين المتطرف، فقد تبنّى الكنيست/ البرلمان الإسرائيلي تشريعًا (قانون أساس)، عرف بقانون القومية اليهودية صدر عام 2018، يَعْتبر الفلسطينيين أقلية وليسوا شعبًا أو قومية، ولا يحق لهم حق تقرير المصير، في وقت يدعم فيه الاستيطان في الضفة الغربية كقيمة وطنية.
الموقف الأميركي لترحيل الفلسطينيين، يُعفي إسرائيل وحكومة بنيامين نتنياهو من المسؤولية عن تدمير 80% من قطاع غزة، وقتل وجرح نحو 160 ألف فلسطيني، ويُشجّعهم أيضًا على تكرار التجربة في الضفة الغربية لتهجير نحو 2.5 مليون فلسطيني إلى الأردن لصالح المشاريع الاستيطانية وضم الضفة الغربية، طالما أن أكبر دولة في العالم توفّر لهم الحماية والدعم. فرص نجاح فرضية التهجيرهناك تحدّيات مهمة تقف أمام هذه الفرضية، وهي:
إعلان رفض قوى وفصائل المقاومة كافّة فكرة التهجير قطعًا، فهي تعني إنهاء القضية الفلسطينية؛ فالفلسطيني الذي سيخرج من باب السياسة لن يعود وفق التجربة الإسرائيلية، وسيحل مكانه مستوطن بشكل مباشر، وهذا سيفتح الباب أمام إسرائيل لضم الضفة واحتلال غزة وتهويد القدس والمسجد الأقصى المبارك. طوفان عودة النازحين الفلسطينيين، وبمئات الآلاف من وسط وجنوب قطاع غزة إلى مدينة غزة ومحافظة شمال القطاع، منذ ساعات الفجر الأولى من يوم 27 يناير/ كانون الثاني 2025، بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، يشكّل ردًا عمليًا من الشعب الفلسطيني على الرئيس ترامب ودعوته لترحيلهم، فالفلسطيني يفضّل العيش في خيمة وعلى أكوام الدمار الذي أحدثه الاحتلال الإسرائيلي بأسلحة أميركية على الخروج من أرضه ووطنه التاريخي. التهجير إلى مصر والأردن يشكّل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي العربي ولأمن مصر والأردن على وجه التحديد، فإسرائيل، حسب رؤيتها، تريد ترحيل الصراع من أرض فلسطين وعليها، إلى مصر والأردن للتخلّص من العبء الديمغرافي الفلسطيني، الذي يشكل أكبر تحدٍ لشرعية إسرائيل المحتلة لأرض فلسطين التاريخية، ومن ثمّ البناء على مقاربة أن الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين، وهو ما يرفضه الفلسطينيون والأردنيون تاريخيًا.وهذا ما أكّده، ردًا على دعوة الرئيس ترامب، وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، وبيان وزارة الخارجية المصرية، وموقف الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي وصف اقتراح ترامب بأنه "ظلم لا يمكن أن تشارك فيه مصر"، مؤكّدًا أن تهجير الفلسطينيين "سيؤثّر سلبًا على الأمن القومي المصري والعربي".
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن تهجير الفلسطينيين سيصطحب معه استمرار مقاومتهم للاحتلال الإسرائيلي من خارج حدود فلسطين التاريخية انطلاقًا من الدول العربية المجاورة، وهو ما لا تريده القاهرة وعمّان اللتان تربطهما اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وهذا سيخلق، لو حصل افتراضًا، أزمة بين الفلسطينيين ومصر والأردن، وسيؤثّر بطبيعة الحال على اتفاقيات السلام مع إسرائيل، الأمر الذي أشار له الرئيس السيسي في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد معركة طوفان الأقصى مباشرة، ردًا على مساعي وزير الخارجية الأميركي بلينكن، في حينه، لتهجير الفلسطينيين من غزة.
إذن رفض التهجير فيه مصلحة فلسطينية وعربية مشتركة؛ فهو يحمي القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، ويشكّل حماية للأمن القومي المصري والأردني والعربي، ويكبح شهية إسرائيل في التوسّع نحو لبنان وسوريا والأردن ومصر حسب رؤية اليمين الصهيوني المتطرف الذي يروّج لفكرة الأرض الموعودة وإسرائيل الكبرى.
إعلانارتباطًا بذلك فإن دور الدول العربية، وخاصة مصر والأردن، يصبح ضروريًا وملحًا لإنفاذ اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومن ثمّ إدخال المساعدات الإغاثية، والمبادرة بشكل عاجل لعقد قمّة عربية وإسلامية لمناقشة ملف إعمار غزة لضمان استقرار الوجود الفلسطيني، وسحب الذريعة من أمام نتنياهو واليمين المتطرف والرئيس ترامب، الذين يبررون فكرة التهجير بذرائع "إنسانية" مدّعاة، وهو في حقيقته ليس له علاقه بالإنسانية، بقدر ما هو هدف سياسي لتمكين إسرائيل من ضم الضفة الغربية واحتلال غزة وتهويد القدس والمسجد الأقصى المبارك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الشعب الفلسطینی الضفة الغربیة الرئیس ترامب مصر والأردن قطاع غزة موقف ا
إقرأ أيضاً:
تهجير الفلسطينيين من غزة جريمة طبقتها إسرائيل قبل أن ينظّر لها ترامب.. كتاب جديد
الكتاب: التهجير القسري الإسرائيلي للفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967 (قطاع غزة دراسة حالة)الكاتبان: إلهام جبر شمالي وإبراهيم أكرم حمد
الناشر: مركز فينيق للأبحاث والدراسات الحقلية فينيق غزة ـ فلسطين 2025
عدد الصفحات: 340 صفحة
ـ 1 ـ
يعدّ الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين من أسوأ أنواع الاستعمار. فليس هو توسعا لدولة على حساب أخرى، تعود إثره وبعد انتزاع الدولة المستعمرة لحق تقرير المصير إلى مساحتها الأصلية. وإنما انتزاع للأرض من أهلها وإحداث لكيان جديد مستمد من الأساطير تحت عنوان إيجاد وطن قومي لليهود الذين يعيشون في الشتات وإحلال لشعب مكان آخر. فيُجلب المهاجرون اليهود من كل أصقاع العالم مقابل طرد السكان الأصليين الفلسطينيين ليعيشوا تغريبتهم في الشتات عبر سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والفرض التهجير القسري. وقبل قيام هذا الكيان الغاصب تولت عصابات يهودية كبالماخ و الهجاناه كإرجون وبيتار وشتيرن وبلماح والمستعربين، بتواطؤ من الاحتلال البريطاني، تفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها الأصليين لصالح إنشاء مستوطنات يهودية، وإحداث تغييرات ديموغرافية وجغرافية تعزز سيطرتها على الأرض.
التهجير أسلوب متأصل في السياسة الإسرائيلية لجأت إليه حكوماتها المختلفة بطرق متعدّدة. وهذا بديهي. فبواعثه قائمة في جذور الفكر الصهيوني الذي يبني تصوره للذات اليهودية انطلاقا من النظرة الدونية للآخر التي تتضمنها عقيدة الأغيار أو غير اليهود والتي تبيح أغلب مذاهبها قتلهم واستباحة أعراضهم وممتلكاتهم.يحلّل الكتاب "التهجير القسري الإسرائيلي للفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967 (قطاع غزة دراسة حالة)" للباحثين إلهام جبر شمالي وإبراهيم أكرم حمد السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالتهجير القسري للفلسطينيين. فيوضّح الأبعاد التاريخية والقانونية لممارسات التهجير. ويبحث في التداعيات السياسية والقانونية لهذه السياسات على حقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في تقرير المصير. ويتتبع جذور حركة التهجير القسري، عبر المراحل الزمنية المختلفة معولا على منهج وصفيٍ تحليليٍ ، يعرض اللوائح والقوانين الإسرائيلية المتعلقة بالتهجير و آثارها متخذا من التهجير القسري في قطاع غزة أنموذجا ليكشف كيفية تنفيذ إسرائيل لسياساتها بما في ذلك أفعال الإبادة الجماعية التي تصاعدت منذ السابع من أكتوبر 2023.
ـ 2 ـ
يحاول البحثان التبسط في عرض مفهوم التهجير القسري عبر تعامل المجتمع الدولي والمؤسسات القانونية معه في الأطوار المختلفة. فقد ظهر مفهوم "الجرائم ضد الإنسانية" بنهاية الحرب العالمية الثانية وأشير إلى التهجير باعتباره أحد الأفعال المشكلة له. ثم جرى استعماله بعدئذ من قبل المحكمة الجنائية لنورمبرغ التي نشأتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة كبار مسؤولي ألمانيا النازية. فأشار نظامها إلى مجموعة من الأفعال التي تصنّف ضمن الجرائم ضد الإنسانية. فعدّ النفي والترحيل، عملين غير إنسانيين. وأسس لفكرة تجريم عمليات نقل السكان المدنيين من مناطق سكناهم بصورة غير مشروعة وقسرية وترحيلهم، لكنه لم يقدّم تعريفا للنفي والإبعاد، وإنما اقتصر على ذكره بما هو عمل إجرامي ضد الإنسانية. ثم جاء نظام المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة عام 1993 ليبلور قواعد القانون الدولي الجنائي ومنه تجريم التهجير القسري وحظر إبعاد المدنيين، وعدّه أحد أخطر جرائم العصر.
ـ 3 ـ
على مستوى لوائح الأمم المتحدة وضمن ما يُعهد لها من ضبط للقواعد القانونية الدولية تمت المصادقة على اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949 من قبل المؤتمر الدبلوماسي لوضع اتفاقيات دولية لحماية ضحايا الحروب. وتعدّ، بمعية البروتوكولين الإضافيين الملحق بها، النواة الأولى الحقيقية لتجريم التهجير القسري للمدنيين خلال النزاعات المسلحة. فقد جاء في مادتها 49 [يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه] ثم [ لا يجوز لدولة الاحتلال أن تحجز الأشخاص المحميين في منطقة معرضة بشكل خاص لأخطار الحرب، إلا إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية]. ثمّ [لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها].
وانطلاقا من هذه النصوص المختلفة يحاول الباحثان تجاوز الفراغ المفهومي وصياغة مفهوم دقيق للتهجير القسري للمدنيين. فيعرفانه بكونه ممارسة مرتبطة بالتطهير وبإجراءات تعسفية قهرية تقوم به حكومات أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعة عرقية أو دينية معينة، وأحيانًا ضد مجموعات عديدة بهدف إخلاء أراض معينة لنخبة بديلة، أو فئة معينة، وهو ما سارت عليه المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية. ويؤكدان اندراج مثل هذه الأعمال ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية.
ـ 4 ـ
اتخذ التهجير القسري في قطاع غزة ما بعد طوفان الأقصى مظاهر كثيرة. أولها إعادة احتلال القطاع وجعله تحت القصف المكثف الذي كان يتم تحت عنوان ملاحقة المقاومة بينما كان في حقيقة الأمر تدميرا ممنهجا لكل مكونات البنية التحتية ومقومات للحياة المدنية والخدمات الأساسية بما في ذلك الطرقات والمدارس والأسواق والمستشفيات وقوارب الصيد بحيث أضحى ما يزيد عن ثمانين بالمائة من المباني غير صالح للسكن. واستهدف الصحفيين والطواقم الطبية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" بشكل مكثّف لإرهاب موظفيها. وكان الهدف غير المعلن هو إبادة أكبر قدر من الغزاويين وإرغام من يبقى منهم حيا على ترك أرضه. فيكون التغيير الديموغرافي الناجم عن التهجير القسري في قطاع خطوة نحو تهويد الأرض وتصفية القضية الفلسطينية..
والتهجير أسلوب متأصل في السياسة الإسرائيلية لجأت إليه حكوماتها المختلفة بطرق متعدّدة. وهذا بديهي. فبواعثه قائمة في جذور الفكر الصهيوني الذي يبني تصوره للذات اليهودية انطلاقا من النظرة الدونية للآخر التي تتضمنها عقيدة الأغيار أو غير اليهود والتي تبيح أغلب مذاهبها قتلهم واستباحة أعراضهم وممتلكاتهم. ثم جاءت المرحلة الاستعمارية التي تميّزت بروز فكرة الأنا الناشئة عن النزعات القومية التي ظهرت في الدول الأوروبية خلال القرن التاسع عشر. فقد أذكت المنافسة الصناعية بينها استعمار الدول بحثا عن المواد الأولية. ولمنح نهب ثروات الشعوب بعدا إنسانيا نبيلا تم تطويع الدين وتصوير الحركة الاستعمارية باعتبارها حماية للدول وجلبا للحضارة لها.
واستغلت الصهيونية هذا السياق لعقد صفقة مع الأوروبيين مدارها على ترك اليهود لأوروبا المنزعجة باستمرار من وجودهم فيها وسيطرتهم على محركات الاقتصاد هناك مقابل حصولهم على فلسطين باعتبارها "وطنا قوميا" لهم. وشرعت في تزييف الحقائق بالاستناد إلى ذرائع دينية وتاريخية لا صلة لها بالواقع واستدعت مقولات تزعمها المعتقدات اليهودية كالأرض الموعودة، وجبل صهيون، وشعب الله المختار. وأشاعت شعار [أرض بلا شعب لشعب بلا أرض]. وأسست إستراتيجيتها كلّها على فكرة نفي الفلسطيني وإلغاء وجوده من أرضه.
ـ 5 ـ
يسهم استمرار العدوان الإسرائيلي ـ منذ 7 أكتوبر 2023 ـ في تعميق معاناة الشعب الفلسطيني. ولئن مثل عدوانها في الماضي عملا على تفكيك وحدة الفلسطينيين المادية والجغرافية للأراضي فإن عدوان مرحلة ما بعد طوفان الأقصى اتخذ في غزة شكلا جديدا. فبدا جليا أن إسرائيل لا ترمي إلى ملاحقة عناصر حماس أو استرجاع الرهائن بقدر ما تتخذ من حربها تعلة للتسريع من تهجير الفلسطينيين قسريا وتطهير غزة عرقيا، بحيث لا تجعل سلطة حماس عاجزة عن ممارسة السيادة الفعلية على أراضي القطاع وعلى موارده الطبيعية فحسب وإنما تجعل الحياة نفسها غير قابلة للاستمرار. وهذا من شأنه أن يدفع السكان إلى النزوح القسري ويمثل أخطر تهديد وجودي للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية.
ورغم المفارقة بين تجريم التهجير القسري والوقع على الأرض يواجه الفلسطينيون تحديات قانونية وسياسية معقدة تؤثر في تحقيق العدالة الدولية، يردها الباحثان إلى كون الاعتراف الأممي بفلسطين باعتبارها دولة قائمة الذات لا يزال غير كاف لتحقيق السيادة الفعلية في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وإلى التفاعلات الإقليمية والدولية التي أصبحت تدفع الحكام إلى أن يتغاضوا عن الانتهاكات الإسرائيلية خدمة لمصالحهم ولبقائهم في الحكم المرتبط إلى حدّ كبير بالولاء إلى اللوبي الصهيوني صاحب النفوذ العالمي.
أضف إلى ذلك تصاعد نفوذ اليمين الإسرائيلي واختفاء الأصوات الداعية للسلام مع الفلسطينيين والانقسام الداخلي الفلسطيني الذي بات يهدد المشروع الوطني الفلسطيني أو انتخاب دونالد ترامب ـ رئيس الولايات المتحدة سابقا ـ لفترة جديدة الذي يمثل تحديا كبيرا للقضية الفلسطينية بسبب سياساته الداعمة لإسرائيل.
بدا جليا أن إسرائيل لا ترمي إلى ملاحقة عناصر حماس أو استرجاع الرهائن بقدر ما تتخذ من حربها تعلة للتسريع من تهجير الفلسطينيين قسريا وتطهير غزة عرقيا، بحيث لا تجعل سلطة حماس عاجزة عن ممارسة السيادة الفعلية على أراضي القطاع وعلى موارده الطبيعية فحسب وإنما تجعل الحياة نفسها غير قابلة للاستمرار.ورغم التحديات الكثيرة شأن بقاء الاحتلال جاثمًا على أرض القطاع وتدميره لمقومات البقاء فيه وقضائه على الأساسيات الحيوية فيه وتوسيعه للمنطقة العازلة باقتطاع شريط أمني من أراضي القطاع لصالح تحقيق أمن مستوطنات الغلاف، يعوّل الباحثان على الموقف المصري الرافض لعملية التهجير ونشره لجيشه على الحدود مع فلسطين، والرفض الأردني الصريح لأي ضغوط خارجية. ولا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ الكتاب نشر قبل تصريح ترامب بسعيه إلى تهجير الغزاويين خارج القطاع والسيطرة عليه عسكريا و أحدث من تفاعلات.
ـ 6 ـ
ينتهي الباحثان إلى اقتراح جملة من التوصيات لمواجهة خطر التهجير القسري ودعم المبادرات الدولية والإقليمية للحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية الفلسطينية. فعلى المستوى الاجتماعي يؤكدان ضرورة إعادة إحياء المقاومة المجتمعية، وذلك عبر دعم المبادرات التي تسعى إلى الحفاظ على بقاء الفلسطينيين في أراضيهم، وتعزيز الوعي داخل المجتمع الفلسطيني حول أهمية مقاومة التهجير والتمسك بالأرض.
ولا يتسنى ذلك إلاّ بتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع ووضع الخطط لإعادة النازحين إلى أراضيهم الأصلية، واستعادة الكثافة السكانية في المناطق المتضررة. ويدعوان، على المستوى السياسي والدبلوماسي إلى تعزيز العمل لإعادة تفعيل القضية الفلسطينية وجعلها أولوية على أجندة المجتمع الدولي والتركيز على بناء تحالفات إقليمية ودولية لدعم الحقوق الفلسطينية، ومواجهة الرواية الإسرائيلية إعلاميا بإطلاق حملات عالمية تظهر حجم الجرائم المرتكبة في غزة وتسلط الضوء على الاحتلال الإسرائيلي المطول غير الشرعي للأراضي الفلسطينية، وتعزّز الدعم الإنساني والإغاثي لها، من خلال توفير الدعم الدولي لوكالة الأونروا لضمان استمرار خدماتها في القطاع، وإنشاء صندوق دولي لإعادة إعمار البنية التحتية المدمرة، وضمان استمرارية الحياة المدنية.
أما على المستوى الحقوقي والقانوني فيؤكدان ضرورة مطالبة المؤسسات الدولية بتفعيل قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بإنهاء الاحتلال، وبحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم ودعم تطبيق الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 ومساندة التحركات الفلسطينية أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لفتح تحقيقات في جرائم الإبادة الجماعية والتهجير القسري. ويجدان في الجهود القانونية الدولية المحاسبة إسرائيل، فرصة لدعم الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية وللضغط على المجتمع الدولي لتطبيق قوانين حماية المدنيين في النزاعات المسلحة بما فيهم الصحفيين والعاملين في الطواقم الطبية، والعمل على تطوير آليات الرصد وتوثيق الانتهاكات ضد العاملين في المجال الإعلامي والطبي.