سودانايل:
2025-04-07@06:58:25 GMT

العودة إلى سنار

تاريخ النشر: 2nd, February 2025 GMT

العودة إلى سنار
( البحث عن هوية و دور حضاري للسودان )

د. الفاتح كامل

و ما زلنا نحلم بالعودة ...
تشكل قصيدة محمد عبد الحي العودة إلى سنار ، تجسيداً لتكثيف الجانب الاسطوري في الشعر العربي المعاصر ، و هي محاولة من جملة محاولات عربية كان بدر شاكر السياب أحد أبرز الوجوه فيها ، و إن أتت العودة إلى سنار الأكثر رسوخاً في إيقاظ الوعي القومي ، و الأعمق تماسكاً من الناحية البنائية للنص .


ينتمي محمد عبد الحي لمدرسة الغابة و الصحراء ، . و هي أحد أساليب الواقعية في الشعر السوداني المعاصر التي حاولت التوفيق بين طبيعة السودان العربية و الأفريقية ، لذلك وجد عبد الحي ضالته في سنار و التي تعتبر النموذج الأعلى للشخصية السودانية ، حيث شكلت الحضن الطبيعي للعربية و نقطة الوصل الهامة مع التراث الأفريقي ، فدكتور عبد الحي و الذي ضرب مغامراً في الأرض و الأفكار وجد أخيراً أنه ترك الكنز وراءه و بين يدي وطنه .
( يا أبا يزيد ماذا أخرجك عن وطنك ، قال طلب الحق ، قال الذي تتطلبه قد تركته ببسطام ، فتنبه أبا يزيد ورجع إلى بسطام و لزم الخدمة حتى فتح له )
بدأ عبد الحي النص بصورة ضبابية ، حيث لم تكن الملامح قد وضحت بالنسبة له خلال رحلة أسفاره الطويلة
كانت مصابيح القرى
على التلال السود و الأشجار
تطفو و تدنو مرة و مرة تنأى تغوص
في الضباب و البخار
تسقط مثل التمر الناضج
في الصمت الكثيف
بين حد الحلم الموحش
و إبتداء الإنتظار
و لكن بدأت أخيراً تزول ملامح الضبابية و تتضح الرؤية ، و إن لم تكن متكاملة
و إرتفعت من عتمة الأرض
طيور النار
و الملاحظ في شعر عبد الحي ، سعي محموم لإعادة الأسطورة الأفريقية في جسد النص ، فمحاولة إحياء الروح القديمة في سنار الرمز و المدينة و بعثها في جسد السودان ، بدت له في إعادة أرواح أجداده ، و قضية الموت و البعث في المفهوم الأفريقي ، شكلت لبعض الأدباء السودانيين هاجساً و ملاذاً وجدوا فيه ظلاً وارفاً يحمل بعض الحلول لقضاياهم الفكرية المتشابكة
الليلة يستقبلني أهلي أرواح جدودي تخرج من
فضة أحلام النهر و من
ليل الأسماء تتقمص أجساد الأطفال
تنفخ في رئة المداح
و تضرب بالساعد
عبر ذراع الطبال
حاول محمد عبد الحي ، إستعادة الحلم الأول و إستكشافه من خلال واقع صعب ، حيث الجدل ما زال قائماً حول هوية السودان الحضارية
الليلية يستقبلني أهلي
أهدوني مسبحة من أسنان الموتى
إبريقاً جمجمة
و مصلى من جلد الجاموس
رمزاً يلمع بين النخلة و الأبنوس
لغة تطلع مثل الرمح
من جسد الأرض
و عبر سماء الجرح
و بعث الروح في الجسد المتآكل ، كانت تأصيلاً جسده عبد الحي برموزه شديدة الواقعية و الأكثر قرباً للروح السودانية
و كانت الغابة و الصحراء
إمرأة عارية تنام
على سرير البرق في إنتطار
ثورها الإلهي الذي يزور في الظلام
و الذي سيعيد إليها القها و حيويتها ، و يتضح من خلال السرد بالنص الشعري إلحاح عبد الحي للعودة إلى سنار ، حيث أخذ يصرخ و يعبر في أكثر من موقع و بطريقة أقرب للهستيرية حاجته لمثل تلك العودة ، ذلك الحلم و الهاجس الذي ظل معشعشاً في مخيلته طيلة سني هجرته
سأعود اليوم يا سنار ، حيث ينمو
تحت ماء الليل اشجار
تعرى في خريفي و شتائي
ثم تهتز بنار الأرض ، ترفض لهيباً
أخضر الريش لكي
تنضح في ليل دمائي
ثمراً أحمر في صيفي ، هذا يا جسد
احلامه تصعد في
الصمت نجوماً في سمائي
و لكن هل وجد عبد الحي راحته التي ينشد بالعودة إلى سنار ، أم عاد إليها بروحه المتصارعة و ذاته المشتتة التي تبحث عن يقين في الهوية
بدوي أنت
لا
من بلاد الزنج
أنا منكم ، تائه عاد يغني بلسان
و يصلي بلسان
حيث لا هو بالزنجي المحض ، و لا هو بالعربي الخالص . و لكأني هنا المح مشكلة عبد الحي الذاتية بجانب شعوره القومي العام . حيث الصراع الداخلي الذي يعاني منه ، بين ثقافة غربية مكتسبة و عربية متأصلة . لكن الشيء الذي ربما لم يلحظه عبد الحي أنه إستطاع المزج بين هاتين الثقافتين مزجاً رائعاً خلاقاً
من بحار نائيات
لم تنر في صمتها الأخضر أحلام
المواني
كافراً تهت سنيناً و سنينا
مستعيراً لي لساناً و عيونا
هذه الغربة الذاتية التي شعر بها عبد الحي في غربته الفعلية عن وطنه أو غربة وطنه من جهة ثانية ، عن جذور حضارته بعثت في شعره حنيناً جارفاً جعلته يضرب في أوتار شديدة الحساسية
من ترى يمنحني
طائراً يحملني
لمغاني وطني
عبر شمس الملح و الريح
العقيم
لغة تسطع بالحب القديم
و دخل عبد الحي سنار بعد إلحاح شديد لفتح أبواب المدينة لينام مثلما ينام طفل الماء في الحصى المبلول و ليقبل بكل ما في سنار القديمة من مظاهر
اليوم أقبل فيك يا سنار أيامي بما
فيها من العشب الطفيلي الذي يهتز تحت غصون أشجار
البريق
اليوم أقبل فيك أيامي بما فيها من
الرعب المخمر في شراييني و ما فيها
من الفرح العميق
اليوم أقبل فيك كل الوحل و اللهب
المقدس في دمائك ، في دمائي أحنو
على الرمل اليبيس كما حنوت على
مواسمك الثرية بالتدفق و النماء
و لينشد في مواقف الرضا و القبول كما أنشد مالارمي في قصيدته الرائعة على ضريح
ادغار الان بو
و أقول يا شمس القبول توهجي في
القلب
صفيني و صفي من غبار داكن
لغتي غنائي
و يلجأ محمد عبد الحي للتشكيل ، حيث لا إنفصام بين الفنون لتوصيل الرسالة المبتغاة ، و يجسد في النص هرم عظيم يحتوي على كنوز سنار ـ فنحن أحفاد مروي ، نبته و البجراوية ـ هذا الهرم يقوم على قاعدة هي الكتاب ، الأساس لهذه الحضارة المُلهمة و الأساس لكل حضارة ، عندما كنا أصحاب تدوين حتى على جدران المعابد إلتصقنا بجسد الحضارة و عندما فارقنا التدوين إبتعدنا عن الأمم الحية . هل هذا ما قصده عبد الحي الذي سبق برؤاه الجميع ؟
سنار
تسفر في
بلاد الصحو جرحاً
أزرقـاً قوساً ، حصانـا
اسود الاعراف ، فهداً قافزاً في
عتمة الدم ، معدناً في الشمس ، مئذنة
نجوماً في عظام الصخر ، رمحاً فوق مقبرة
كتاب
و لعل ختام القصيدة ، قراءة القراءة الأكثر روعة و خصوصية
الشمس تسبح في نقاء حضورها
و على غصون القلب عائلة الطيور
و لمعة سحرية في الريح ، و الاشجار
تبحر في قداستها الحميمة و تموج في
دعة و لاشيء نشاز ، كل شيء مقطع
و إشارة تمتد من وتر
إلى وتر على قيثارة الأرض العظيمة
و تظل العودة إلى سنار فكراً سياسياً ناضجاً ، ما أحوج السودان إليه في هذه الفترة التي تتناوشه فيه ضروب الزمان . و تظل العودة إلى سنار إبداعاً متجدداً و نموذجاً أعلى لدور السودان المفترض في تعميق الإتصال و الإرتباط بين التراثين العربي و الأفريقي. رغم تأكيد عبد الحي أن الجوهر الديني للوجود الإنساني هو أصل الملامح المتعددة للإنسان و أفعاله . فمحاولة إضفاء الروح الإنسانية العامة الخالدة على القصيدة كما رمى عبد الحي لا يقلل أبداً من قيمة النص الجوهرية كأساس قومي يرتكن إليه أبناء السودان جميعاً في هذه الفترة من تاريخه ، لإحياء دور السودان الحضاري في محيطيه العربي و الإفريقي بل مثالاً للتعايش و التسامح الديني الحضاري لشعوب العالم كافة .  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: العودة إلى سنار محمد عبد الحی

إقرأ أيضاً:

صالحة الصالحة

منذ صباح الأمس وحتى ساعات صباح اليوم، الشعب السوداني مشدود، بسبب بدء الجيش عملية إستعادة آخر مناطق تواجد للمرتزقة بجنوب غرب العاصمة (منطقة صالحة). بفضل الله ومن ثم عزيمة الرجال عادت صالحة الصالحة لضل الوطن، بعد عملية عسكرية لا تقل ضراوة عن عمليات تحرير الإذاعة والمصفاة والقصر. وعودة الصالحة تعني بالنسبة للمرتزقة إلقاء النظرة الأخيرة لدولة العطاوة، وضياع الحلم، وتعني لدولة (٥٦) العودة بكامل العنفوان، وتعني لتقزم حمدوك انقطاع رجاء العودة لخرطوم ود اللمين حتى ولو على ظهر (حمار النوم). وتعني للإسلاميين التحكر في سويداء قلب الشعب. وتعني لحواضن التمرد دق إسفين مع حواضن دولة (٥٦). وتعني للاجئ دول الجوار العودة القسرية. وتعني للجيش اكتمال هلال العاصمة. وتعني لمواطن العاصمة تنفس الصعداء. وتعني لبقية ولايات جوار العاصمة فتح جميع الطرق معها. وخلاصة الأمر رسالتنا للشارع السودان أن أشكروا الله على نظافة العاصمة من مرتزقة عربان الشتات. ولئن شكرتم الله حق شكره، وعدًا عليه الزيادة في كردفان ودارفور.

د. أحمد عيسى محمود
عيساوي
السبت ٢٠٢٥/٤/٥

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • علاقة غير شرعية انتهت بأشلاء جثته في الديب فريزر.. ماذا حدث لرجل أعمال الحي الراقي؟
  • جريمة الحي الراقي.. أسرار العثور على جثة مقطعة داخل فريزر
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • رعب في الحي الراقي.. العثور على جثة مسن مقطعة إلى أجزاء داخل ثلاجة
  • في المعابر الحدودية ..تكدّس غير مسبوق للسودانيين العائدين من مصر
  • الجنجويد والطائرات المسيرة: سيمفونية الدمار التي يقودها الطمع والظلال الإماراتية
  • المليشيا شردتهم وتحرير الجيش أعادهم إلى ديارهم: 3000 عائد يومياً من مصر.. تسهيل الإجراءات ومبادرات للتخفيف
  • بن حبتور: اليمن يقدم النموذج الحي من الصمود والتحدي على كافة المستويات
  • صالحة الصالحة
  • الحرب العالمية التجارية التي أعلنها ترمب لا تخصنا في الوقت الراهن