إبراهيم برسي

في ظلّ هذا العالم المُبتلى بالاستلاب، حيث تتحلّل السرديات الكبرى أمام يقينها المُتهافت، ينهض المثقف بوصفه كائنًا يتأرجح بين وطأة التاريخ وعبثيّة الحاضر. ليست المسألة في كينونة المثقف، بقدر ما هي في هشاشة تموضعه؛ فهل هو قارئ للخراب، أم محلّل لأبعاده؟ وهل يُعيد تدوير الجيف الأيديولوجي السائد، أم يرصده بوعي المُتفرّج دون أن يُغادر حافّة التأمّل؟

في أفق ماركس، المثقف ليس كيانًا متعاليًا، بل فاعلٌ في شبكات الإنتاج، متورّطٌ في البنية، حتى حين يدّعي الحياد.

لكنه هنا لا يبدو سوى هامشٍ على متن الصراع، يُراقب التحوّلات كما يُراقب العابرون نهرًا لا نية لهم في عبوره.

إنه، كما يقول، “يُنتج الأفكار المهيمنة التي تُعيد إنتاج سلطة الطبقة المهيمنة”، لكنه لا يتجاوز ذلك إلى ممارسة الفعل، مكتفيًا بإعادة إنتاج الخطاب نفسه الذي يدّعي نقده. إنه وعيٌ ينسج حول ذاته شرنقةً من المفاهيم، لكنه وعيٌ بلا عضلات، بلا امتداد في جسد الواقع، كأنّه كيانٌ عالقٌ في مساحةٍ نظرية لا يجد جسدًا يُجسّدها في الواقع.

لكن، في قلب هذا الاغتراب، تنبثق شروخُ الاحتمال. غرامشي، في استبصاره العابر للحقب، يُؤكّد أنّ “كل إنسان هو مثقف، ولكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف”، وكأنّما يُشير إلى هذه المفارقة: المثقف الذي اختار أن يكون فكرةً دون أثر، تحليلًا بلا تدخّل، صوتًا بلا صدى في الأرض.

هو ليس مُفسّرًا للعالم، ولا صانعًا لتحوّله، بل مُؤرّخٌ لمأزقه، ناقدٌ لانسداداته، لكنه غير معنيٍّ بتغيير وجهته، مُستريحٌ في موقعه الرمادي، حيث لا يُختبر أثر الفكر إلّا في حدود الصياغة، لا في الفعل ذاته! وكأنّ النقد أصبح ممارسةً مغلقة، تستهلك ذاتها في دوائر لا تنتهي، دون أن تخترق جدار الواقع لتُعيد تشكيله.

غير أن ما بعد الحداثة، وهي تفكيكٌ بلا ردم، أزاحت المثقف من موضعه الصلب إلى ضباب الاحتمالات. صار مُنهكًا بالأسئلة، غارقًا في تفكيك السرديات، حتى بات عاجزًا عن الإمساك بخيط الفعل.

فهل المثقف اليوم أكثر من محض مرآةٍ تعكس صراعاتٍ لا يملك سوى تأمّلها؟! ألَم يصبح، كما يقول بودريار، نسخةً عن نسخة، مُحاكيًا لسلطةٍ يظن أنّه ينقضها، لكنه في النهاية لا يفعل أكثر من إعادة تدوير وجودها؟

ومع ذلك، ألا تكمن في هذا العجز المزعوم بذور مقاومةٍ أخرى، مقاومةٌ لا تتجلّى في الممارسة التقليدية، بل في زعزعة أنظمة المعنى ذاتها، في إعادة تشكيل الخيال السياسي الذي يُملي على الواقع شروط تحوّله؟!

الوجع هنا ليس وجع المثقف ذاته، بل وجع انزلاق الفكر إلى مواضعاتٍ فارغة، إلى التفاهة التي تتزيّن بلغةٍ نقدية مستأنسة، إلى التنظير الذي فقد وظيفته الأولى: زعزعة الثابت.

لكن، وسط هذا الركام، لا يزال السؤال مُعلّقًا في الهواء: هل المثقف هو من يُحدث الفارق، أم من يُعيد توصيف الفجوة؟! وهل يقف على حافّة الانخراط، أم اكتفى بصناعة الوصف، تاركًا التغيير لأولئك الذين لا يملكون ترف التردّد؟!

وإذا كان المثقف قد تراجع عن الفعل، فمن الذي يملأ الفراغ؟! هل تحلّ الدعاية مكان النظرية؟! هل تملأ الشعارات مكان التحليل؟! وهل انتهت وظيفة الفكر النقدي ليبدأ عصر تكرار الصدى، حيث تُستهلك المفاهيم بقدر ما تستهلكها الأنظمة نفسها؟!

لكن، إذا كان المثقف قد فقد قدرته على الفعل، فمن الذي أخذ زمام المبادرة؟! هل انتقل الدور إلى الحركات الجماهيرية العفوية، إلى الشارع الذي لم يعُد ينتظر تبريرًا نظريًا ليغضب، بل يتحرّك بناءً على الضرورة؟!

وهل يُمكن للفكر أن يستعيد وظيفته في ظلّ عالمٍ باتت فيه السرعة والاختزال يُلخّصان كلّ شيء، حتى التغيير نفسه؟!

إن كان المثقف عاجزًا عن تجاوز عتبة التحليل، فهل انتهت وظيفته؟! أم أن التغيير لم يكن يومًا مهمّة الفكر، بل مهمّةٌ أخرى تُمارَس حيث لا تصل الكلمات، حيث ينقطع التنظير لصالح ضرورةٍ أكثر قسوة؟!

وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا يعني أن الفكر لم يعُد إلّا صدى لما يحدث، لا مُحرّكًا له؟! أم أن المثقف، حتى في هامشيّته، لا يزال يحتفظ بسلطةٍ خفيّة، تنكشف حين تتشظّى السرديات الكبرى، وحين يصبح السؤال أهمّ من الجواب؟!

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

برج العذراء.. حظك اليوم الأربعاء 5 مارس 2025.. مكاسب غير متوقعة

برج العذراء (24 أغسطس - 23 سبتمبر)، يميل إلى الجلوس مع الآباء لسماع النصيحة والاقتداء بها في حياته، يمر ببعض المشاكل ولكنه سريعاً ما يمر منها على خير.

ونستعرض خلال التقرير التالي توقعات برج العذراء وحظك اليوم الأربعاء 5 مارس 2025 على المستوى العاطفي والصحي والمهني والمالي خلال السطور التالية.

برج العذراء وحظك اليوم الأربعاء 5 مارس 2025

قد تجلب لك المحادثات وضوحًا غير متوقع، سواء في حياتك الشخصية أو في العمل. يمكن أن تتعمق العلاقات من خلال التواصل الصادق. ماليًا، ابق عينيك مفتوحتين للمكاسب غير المتوقعة، إنه يوم رائع للتفكير في صحتك وإجراء تغييرات إيجابية. التوازن هو المفتاح، لذا ركز على التناغم في جميع مجالات حياتك.

توقعات برج العذراء عاطفيا 

 قد تستفيد حياتك العاطفية من التواصل المفتوح والاستعداد لرؤية الأشياء من منظور شريكك. سواء كنت أعزبًا أو مرتبطًا، استمع بنشاط وتحدث بصراحة، قد يؤدي هذا النهج إلى فهم أعمق ورابطة أقوى. 

برج العذراء وحظك اليوم صحيا

يمكن أن يعزز دمج تقنيات الاسترخاء مثل التأمل أو اليوجا من رفاهيتك ويوفر الوضوح العقلي. يعد تحقيق التوازن بين العمل والراحة أمرًا أساسيًا للحفاظ على مستويات الطاقة.  

برج العذراء وحظك اليوم مهنيا

اتخاذ القرارات الحكيمة والاستثمارات الحذرة هما حلفاؤك. إنه وقت جيد لمراجعة ميزانيتك وتحديد مجالات التحسين. على الرغم من وجود إمكانية لتحقيق مكاسب، تجنب الإنفاق المتهور، التخطيط والاستشراف أمران حاسمان لبناء مستقبل مالي مستقر. تعامل مع القرارات المالية بعقل صافٍ وتركيز على الفوائد 

توقعات برج العذراء الفترة المقبلة 

فكر في دمج المزيد من النشاط البدني في يومك أو تعديل نظامك الغذائي للحصول على تغذية أفضل. يمكن أن تساعد ممارسات اليقظة الذهنية، مثل التأمل أو تمارين التنفس العميق، أيضًا في تقليل التوتر. 

مقالات مشابهة

  • محيي إسماعيل: مفيش حاجة اسمها نمبر وان.. وشيرين أحسن لها ترد ردود مختصرة
  • برج العذراء.. حظك اليوم الأربعاء 5 مارس 2025.. مكاسب غير متوقعة
  • كل مقاتل فلسطيني هو سنوار جديد.. اعتراف إسرائيلي بالفشل
  • لامين يامال: فليك صارم لكنه عادل
  • 128 متنافسًا في مسابقة "المثقف الأول" بولاية العوابي
  • المشدد 5 سنوات للمتهم بإصابة صديقه بعاهة مستديمة بسبب البلاستيشن بالقليوبية
  • بزشكيان يريد الحوار مع ترامب لكنه ملتزم برفض خامنئي
  • مختار غباشي: القمة العربية بشأن إعمار غزة بالقاهرة هي قمة الضرورة أو الحالة المستعجلة
  • فطارك عندنا .. مكرونة بالبشاميل وسمبوسة جبنة وسلطة بطاطس بالمايونيز
  • 250 جنيًها على بطاقة التموين.. التجار يواجهون الحبس وغرامة 100 ألف جنيه حال قيامهم بهذا الفعل