الأمن المجتمعي وتأثير التغريب والاصولية الثقافية في العراق
تاريخ النشر: 2nd, February 2025 GMT
2 فبراير، 2025
بغداد/المسلة:
مصطفى الصوفي
يعد الأمن المجتمعي أحد الأركان الأساسية للأمن الإنساني، حيث لا يقتصر على الحماية من التهديدات المباشرة، بل يشمل ضمان التماسك الاجتماعي وصون الهوية الثقافية. غير أن هذا التوازن يواجه تحديات متعددة، أبرزها التبعية العمياء للنماذج الثقافية الوافدة دون وعي بمدى توافقها مع الخصوصيات المحلية، والتي قد تؤدي إلى تآكل الهوية وإضعاف التراث القيمي، مما يجعل المجتمع عرضة للاضطراب والاغتراب الداخلي.
إن التحدي الحقيقي لا يكمن في الاختيار بين الأصالة والمعاصرة، بل في تحقيق توازن ديناميكي يضمن الحفاظ على الهوية الثقافية مع الانفتاح الواعي على التغيرات العالمية. فالمجتمعات التي تفشل في إيجاد هذا التوازن تصبح إما أسيرة لنمط استهلاكي يذيب مكوناتها الثقافية، أو رهينة لجمود يحرمها من التفاعل الإيجابي مع العالم. ومن هنا، فإن تعزيز الأمن المجتمعي يتطلب نهجاً نقدياً متوازناً يرفض التبعية العمياء والانغلاق الأصولي في آنٍ واحد، مع تعزيز مراجعة علمية للقيم والتقاليد لضمان قدرتها على تحقيق الاستقرار والاندماج الاجتماعي في سياق متغير.
هذا التأثير ليس حديث العهد، بل يعود إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حين شهد العراق انقسامًا ثقافيًا واجتماعيًا واضحًا بين فئتين رئيسيتين: الأفندية والفلاحين. مثلت فئة الأفندية الطبقة المتعلمة التي تلقت تعليمها في المدارس العثمانية والبريطانية، وكانت ميالة إلى تبني الأنماط الغربية في التفكير والسلوك متأثرين بنفوذ الثورة الصناعية وافرازاتها الثقافة والاجتماعية على العالم، بينما ظل الفلاحون، الذين كانوا يشكلون غالبية السكان، متمسكين بالمجتمع الزراعي التقليدي، الذي كان يعتمد على الروابط الاجتماعية القوية والإنتاج المحلي والتقاليد المتوارثة وقيم الريف. لم يكن هذا الانقسام مؤقتًا، بل استمر عبر العقود واتخذ أشكالًا جديدة وتغير في كل مرة وكان له اثار اجتماعية، وسياسية، واقتصادية واضحة.
في ظل هذا التحول الثقافي، لم يقتصر الأمر على مجرد تبني أنماط حياة جديدة، بل أنتج انشقاقات مجتمعية وثقافية عميقة حول القيم والمعايير الاجتماعية. مع تسارع وتيرة التأثر بالثقافة الغربية، تحولت الحداثة في نظر البعض إلى شكل من التبعية الثقافية بدلاً من أن تكون تحديثًا مدروسًا يأخذ في الاعتبار خصوصية المجتمع العراقي. في المقابل، أصبح التمسك بالقيم التقليدية يُنظر إليه كحالة من الأصولية والتشدد والعناد، مما زاد من حدة الانقسام بين الفئات الاجتماعية المختلفة.
هذا الصراع بين الاتجاهين أدى إلى تفكيك التوازن المجتمعي، حيث بات البعض يرى في التحديث تهديدًا للهوية، بينما ينظر آخرون إلى القيم التقليدية على أنها عقبة أمام التقدم. نتيجة لذلك، تزايدت مظاهر التصادم بين الأجيال وأبناء المدن والريف و ” المثقفين ” و ” المتخلفين ” وغيرها من الفئات والتسميات التي افرزها هذا، حيث أصبحت الفجوة بين من يتمسكون بالموروث الثقافي ومن يتبنون القيم المستوردة دون وعي أكثر وضوحًا. وفي غياب نموذج ثقافي متوازن، تحول هذا الانقسام إلى ميدان صراع، حيث تُستخدم الهوية الثقافية والتقاليد والتفضيلات اليومية أحيانًا كأداة للتمييز والتصنيف بدلاً من أن تكون عنصرًا موحدًا للمجتمع.
في ظل هذه التغيرات، لم يعد النقاش حول الحداثة والتراث مجرد حوار محلي لان الهوية التقليدية باصوليتها و الانفتاح الغربي غير المدروس حول النقاش الى مساحات أخلاقية تتعلق بالشرف والنزاهة والحضارة والتطور وغيرها.
فأصبح النقاش في هذا المجال ساحة لتبادل الاتهامات بين من يرون في التمسك بالماضي جمودًا وتطرفًا، ومن يعتبرون التأثر بالغرب شكلًا من الاغتراب الثقافي وفقدان الهوية. هذه الانشقاقات لم تؤثر فقط على مستوى القيم، بل امتدت إلى تشكيل أنماط الحياة والعلاقات الاجتماعية وحتى الأولويات الاقتصادية والسياسية، مما جعل المجتمع العراقي أكثر عرضة للتشتت وفقدان الاتجاه بين إرثه التاريخي ومتطلبات العصر الحديث والتحديات اليومية والعالمية.
مع مرور الوقت، تعززت النزعة الاستهلاكية على حساب الإنتاج المحلي، حيث أصبحت ثقافة المولات والتسوق المفرط جزءًا من الحياة اليومية، مما أدى إلى ترسيخ مفهوم مادي بحت يربط النجاح الاجتماعي بامتلاك العلامات التجارية الفاخرة والمقتنيات الباهظة. في الوقت ذاته، أعيد تشكيل معايير الجمال وفقًا لنماذج مستوردة، حيث أصبح يُنظر إلى البشرة الفاتحة على أنها أكثر جاذبية من الداكنة، وتم استبعاد الأزياء التراثية لصالح الموضة الغربية، التي يتم الترويج لها عبر وسائل الإعلام. هذا التحول لم يقتصر على المظهر فحسب، بل امتد إلى الطقوس والعادات الاجتماعية، حيث تم إدخال أعياد ومناسبات لا تمت بصلة للثقافة العراقية، مما أدى إلى تآكل الهوية المحلية لصالح أنماط وافدة تُعتبر أكثر رقيًا في نظر البعض. غالبًا ما يتم تقديم هذه الممارسات كبدائل للتقاليد الأصلية، مما يخلق حالة من الإلغاء الثقافي، حيث يتم التخلي عن الموروث المحلي دون مراجعة نقدية تتيح التمييز بين القيم التي تستحق التطوير وتلك التي تحتاج إلى الاستبعاد.
في المقابل، لم يكن رد الفعل على هذا التحول مجرد مقاومة ثقافية طبيعية، بل اتخذ لدى بعض الفئات شكلًا من التشدد والأصولية والعناد المفرط في التمسك بالتراث، دون تمييز بين القيم التي تحمل بعدًا إنسانيًا وحضاريًا يمكن أن يواكب العصر، وبين العادات التي لم تعد تلائم المجتمع الحديث. فبينما اندفع البعض نحو تبني كل ما هو مستورد دون وعي نقدي، لجأت فئات أخرى إلى رفض كل ما هو جديد باعتباره تهديدًا للهوية، مما أدى إلى تصلب في المواقف وانغلاق ثقافي لم يكن بالضرورة مفيدًا.
هذا الاتجاه المحافظ المتشدد لم يقتصر على الحفاظ على التراث، بل تحول في بعض الحالات إلى إضفاء قداسة على العادات والتقاليد، حتى تلك التي لم تعد منسجمة مع تطور المجتمع. أصبح بعض المتشبثين بالتراث يعتبرون أي تغيير في العادات تهديدًا لقيم المجتمع، مما أدى إلى رفض أي شكل من أشكال التحديث، سواء في التعليم أو الاقتصاد أو أنماط الحياة. وقد أدى هذا التشدد إلى استقطاب اجتماعي حاد، حيث باتت الفئة التقليدية ترى في الحداثة انسلاخًا عن الأصالة، بينما ينظر الحداثيون إلى هؤلاء المحافظين على أنهم عائق أمام التطور.
كما أن هذا التمسك غير النقدي بالماضي عزز الميل إلى العيش وفق أنماط قديمة لم تعد متماشية مع متطلبات العصر، مما أدى إلى إعاقة الحوار حول التطوير الحقيقي للهوية الثقافية. ففي حين أن بعض المجتمعات نجحت في إعادة إحياء تراثها ضمن سياق حداثي متوازن، بقيت بعض الفئات في العراق ترى أن أي تحديث هو إفساد للهوية، ما جعلها أكثر انعزالًا وأقل قدرة على التفاعل مع متغيرات العصر.
هكذا، كما وقع المجتمع في فخ التبعية الثقافية دون وعي حقيقي بما يتناسب مع بيئته، سقط في فخ الأصولية الثقافية التي ترفض التكيف مع العصر، مما جعله عالقًا بين نزعتين متطرفتين: إحداهما تتبنى كل جديد لمجرد أنه جديد، والأخرى ترفض كل جديد لمجرد أنه ليس جزءًا من الماضي. والنتيجة كانت فقدان التوازن الضروري بين الأصالة والتحديث، وهو ما جعل المجتمع أكثر عرضة للانقسامات والتوترات الثقافية التي لا تخدم استقراره أو تطوره.
إن الصراع بين الحداثة والتقاليد في العراق لم يعد مجرد نقاش ثقافي، بل تحول إلى تحدٍ مباشر للأمن المجتمعي. فالمجتمعات المستقرة تحتاج إلى هوية واضحة وتماسك اجتماعي قوي، وعندما تتعرض هذه الهوية إلى تفكيكٍ ممنهج بسبب التغريب غير الواعي، أو الجمود بسبب الأصولية الثقافية، فإنها تصبح أكثر هشاشة وعرضة للاضطرابات الداخلية.
فقدان الهوية أو الانقسام الحاد حولها يؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية، وتعزيز النزعات الفردية، وخلق شعور بالاغتراب بين الأفراد داخل وطنهم، وهي عوامل تضعف الأمن المجتمعي وتجعل المجتمع أقل قدرة على مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية.
هذا التشرذم الثقافي ليس مجرد مشكلة فكرية، بل تهديد مباشر للأمن المجتمعي، حيث تصبح الهوية الثقافية ساحة للصراع بدلاً من أن تكون عاملًا للوحدة. يؤدي ذلك إلى تفكيك الشبكات الاجتماعية التقليدية التي كانت تحافظ على الاستقرار، ويزيد من القابلية للتطرف بأنواعه المختلفة، سواء التطرف في الحداثة الذي يفصل الأفراد عن هويتهم، أو التطرف في التقليد الذي يرفض أي محاولة للتطور.
في كلتا الحالتين، يصبح المجتمع العراقي أقل قدرة على مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، حيث يغيب الشعور بالمسؤولية الجماعية لصالح توجهات فردية متطرفة في كلا الاتجاهين.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author AdminSee author's posts
المصدر: المسلة
كلمات دلالية: الهویة الثقافیة الأمن المجتمعی مما أدى إلى دون وعی
إقرأ أيضاً:
خطبة الجمعة القادمة.. تعلم الموعظة الحسنة وتأثير السلوك القويم
أعلنت وزارة الأوقاف المصرية عن موضوع خطبة الجمعة القادمة، والتي ستُلقى يوم 31 يناير 2025، الموافق 1 شعبان 1446هـ، تحت عنوان "الحال أبلغ من المقال".
وتهدف الخطبة إلى تسليط الضوء على أهمية الدعوة بالموعظة الحسنة، وبيان أن التأثير العملي للسلوك الحسن أقوى وأبلغ في النفوس من مجرد الكلمات.
محاور الخطبة: الدعوة بالقدوة الحسنةأوضحت وزارة الأوقاف أن خطبة الجمعة ستتناول دور السلوك الحسن في الدعوة إلى الله، مستشهدةً بالأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد أن تأثير الأفعال الصالحة يتجاوز تأثير الأقوال.
كما ستتطرق الخطبة إلى نماذج من السيرة النبوية، حيث جسّد النبي محمد ﷺ القيم الأخلاقية من خلال أفعاله وتعاملاته اليومية، مما كان له الأثر الأكبر في نشر الإسلام وترسيخ مبادئه.
التسامح وضبط النفس في المعاملات اليوميةأما الخطبة الثانية، فستركز على التسامح في المعاملات اليومية، وكظم الغيظ، وضبط النفس، مشددةً على أهمية التحلي بالصبر والعفو في مواجهة الإساءة، اقتداءً بالنبي ﷺ، الذي كان يعفو ويصفح، ويؤثر اللطف والرحمة في تعامله مع الناس.
وزارة الأوقاف تدعو إلى التطبيق العملي للقيم الإسلاميةفي هذا السياق، دعت وزارة الأوقاف الأئمة والخطباء إلى الالتزام بنص الخطبة وتوجيه المصلين نحو التطبيق العملي للقيم الإسلامية، مشددةً على أن الإسلام دين عمل وسلوك، وليس مجرد أقوال وشعارات.
كما أكدت أن الأخلاق الحسنة والتعامل بالرفق واللين يُسهمان في بناء مجتمع متماسك قائم على المحبة والتراحم.
يُذكر أن وزارة الأوقاف تنشر نصوص خطب الجمعة بشكل أسبوعي عبر منصاتها الإلكترونية، لتسهيل وصولها إلى الأئمة والخطباء والمصلين في جميع أنحاء الجمهورية.