د. محمد بن خلفان العاصمي

تتفق نظريات نشأة المُجتمعات حول مبدأ التكامل كأساس لظهور المجتمع ورغبة البشر في التكتل الاجتماعي والعيش في نمط متوافق يقوم على التعاون والتآزر والتكامل والتكافل، وتسود فيه قيم العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية والاحترام والحقوق والواجبات، وهذه الحاجة لهذا النمط إنما هي فطرة سلوكية نتجت عن ازدياد الجنس البشري وتكاثره وتطوره الطبيعي خلال آلاف السنين، ومعه نشأت المجتمعات بشكلها البدائي وصولًا إلى الشكل الذي نراه اليوم، والذي استغرق سنين وأزمنة طويلة كانت تغذي كل ذلك الحالة الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية للبشر.

وعندما أطلق جان جاك روسو نظريته الشهيرة "العقد الاجتماعي" التي غيَّرت الحضارة البشرية في العصر الحديث في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كان المجتمع الأوروبي في تلك الفترة يعاني من العديد من المشكلات التي شوَّهت الحياة البشرية وفقدت معها خصائصها كمجتمعات قابلة للحياة؛ بل إنِّها وصلت لمرحلة تشبه حياة الغابة؛ حيث يأكل القوي الضعيف وسيطرت المادية على جميع مفاصل الحضارة البشرية وحولت المجتمعات إلى ما يشبه المفارز التي تضم أشكالاً لتناغم مع الطبيعة من البشر، وخلال هذه المرحلة انتشرت صنوف التجاوزات وبلغت الاستهانة بالبشر منتهاها وزادت الكنيسة الطين بلة عندما كرست هذه الحياة اللامتوازنة كمرجعيّة لاستمرار سيطرتها ونفوذها.

وإذا رجعنا إلى الماضي وقبل نظرية العقد الاجتماعي وقبل أفكار جان لوك وهوبز وڤولتير ونيتشه وهيجل، فقد كان الرسول الكريم صلى عليه وسلم، أول من أطلق مبادئ العقد الاجتماعي الإسلامي؛ حيث جاء الدين الإسلامي الحنيف بمنظومة متكاملة من القيم والمبادئ والأخلاق التي نظمت علاقة البشر في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وأسست لقيام منظومة متكاملة من العلاقات القائمة على أسس الدين الحنيف، وقد حفظت هذه القيم الإسلامية حقوق الإنسان وأقرت واجباته ونظمت علاقاته مع الآخرين حتى مع من هم من غير ملة الإسلام، بل إنها رعت الحريات رعاية مطلقة وانتقلت بها إلى مرحلة متقدمة نرى الغرب يحاول الوصول إليها اليوم عبثًا دون إدراك أنَّ هذه الحريات هي نتاج تأسيس عميق للمجتمع على قيم ومبادئ عُليا.

ولأن مجتمعنا العُماني هو نتاج هذا التأسيس السليم من القيم والمبادئ والأخلاق والاحترام والتقدير التي جاء بها الدين الحنيف وتوافقت مع طبيعة الإنسان العُماني الذي سكن هذه الأرض على مر التاريخ، كان العُماني مثالًا على هذه السلوكيات دائمًا، وحافظ المجتمع العُماني على كل ذلك الإرث القيمي الديني ونشأت الأجيال الواحد تلو الآخر على ذلك، وتطورت حياة الناس في هذه الأرض وفق هذا النموذج الحضاري وأصبح كل ذلك من خصال الإنسان، فعرف العُماني بالكرم والشجاعة والكرامة وحسن التعامل في معاملاته جميعها، ولذلك نشر التجار والبحارة العُمانيون الإسلام في أنحاء العالم ليس بالسيف والغزو والحروب وإنما بحسن الخلق والمُعاملة الحسنة.

وخلال فترات التاريخ المتعاقبة، حافظ العُماني على هذه السمات والخصائص المميزة، وظهر السمت العُماني أنموذجا متفردًا تتربى عليه الأجيال، وفي مثل هذه المجتمعات تصبح عملية التمييز بين الجيد المقبول والسيئ المنبوذ سهلة للغاية؛ فالمجتمع أصبح تلقائيًا في تقييم السلوك البشري وتفنيد ما يتوافق منه مع المجتمع وطبيعته وما يختلف عنه، لقد نشأ عقد اجتماعي عُماني خاص أعاد تعريف المفاهيم بسياق مختلف فمن الحرية الشخصية إلى الحرية العامة ومن حقوق الفرد إلى حقوق العامة تأسست منظومة القيم ووضعت القوانين التي تنظم العلاقة بين الأفراد على هذا الأساس، ولذلك ما شذَّ عن هذا وجد المجتمع أول من يتصدى له ويردعه ويوقفه عند حدوده.

وفي سياق الشذوذ عن القاعدة؛ فهناك بعض الأمثلة حول هذا الأمر، وقد يغني المقال عن سردها، وإذا ما كانت هناك حالة ماثلة في الأذهان فسوف نجد أن أفراد المجتمع هم الحصن الحصين الذي تصدى لكل خارج عن منظومة هذا العقد الفريد، وحتى عندما تظهر بعض النعرات كحال أي مجتمع متفاعل نجد أنها لا تلبث أن تختفي بلمح البصر وعن طريق المجتمع نفسه الذي أطر كل السلوكيات في سياق منظم من الحدود والحقوق والواجبات، وهذا أمر معتاد في مجتمع اعتاد أفراده على حسن الخلق وجبلوا على التقدير والتوقير وتربوا على كريم الخصال والسجايا والأخلاق الحسنة.

وإنَّ مما يندى له الجبين أن نجد فردًا تربّى ونشأ وترعرع في حياض هذا الوطن، وعاش فيه وتعلم في مدارسه واستظل بأمنه، وطابت له الحياة في خير هذا البلد الطيب، ثم ما يلبث أن ينقلب على عقبيه عندما ضاق به الحال، متناسيًا أن حال الإنسان بين يسر وعسر، موجهًا أسوأ عبارات الإساءة للوطن وقيادته وأبنائه، جاحدًا خيرهم عليه وناكرًا فضل الله تعالى الذي منّ عليه بنعم يتمناها غيره في كل مكان، وهذا الفعل الذي يتصوره البعض من باب حرية التعبير ما هو إلا انسلاخ أخلاقي وقيمي وديني يصل له الإنسان الجاحد المنكر لفضل الله عليه؛ فالمولى جلت قدرته يقول "وجادلهم بالتي هي أحسن"، ويقول "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن" ويقول الرسول الكريم: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء"، وهذا هو العقد الاجتماعي العُماني الذي حفظ حق الفرد في إبداء رأيه دون سب وشتم وقذف وتطاول وفتنة، وهو ما اعتدنا عليه، أما ما سلكه البعض من مسلك فلا يمت لأبناء هذا المجتمع بصلة؛ بل هو سلوك دخيل مرفوض.

لقد اعتاد العُماني على الحلم والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان، وغض الطرف عما يقود للفتنة والفرقة، ولا غرابة أن نجد بلادنا محطة للسلام ومنبرًا للأمان، تجمع الخصوم المتفرقين فتقيم بينهم كلمة سواء، وتتوسط بين الفرقاء المتناحرين فتحل السلام بينهم وتحقن دماء الأبرياء، فهذا نهج مُستمد من إرث ممتد ضارب في جذور هذه الأمة، وترسخ في الأجيال جيلا بعد جيل يُغذيه قادة عظام وعلماء أجلاء وحكماء كانوا ومازالوا يأمرون بالعدل والإحسان وينهون عن الفحش في القول والعمل، هكذا هو العقد الاجتماعي العُماني الذي نظم حياة هذه الأمة وفق منظومة قيمية شاملة مستمدة من دين الله الحنيف وشرعه القويم لتتلاقى مع طبيعة الإنسان العُماني.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بنك الإسكان العُماني يموّل قروضًا سكنية بـ145 مليون ريال في 2024

العُمانية: أعلن بنك الإسكان العُماني عن تقديم قروض إسكانية بقيمة إجمالية تجاوزت 145 مليون ريال عُماني بنهاية عام 2024 استفاد منها 3 آلاف و250 مواطنًا من مختلف محافظات سلطنة عُمان في إطار جهوده المستمرة لدعم قطاع الإسكان وتمكين المواطنين من امتلاك مساكنهم الخاصة.

وأظهرت البيانات المالية للبنك أن أعلى نسبة تمويل تم تقديمها من خلال الفرع الرئيسي بمسقط بلغت 38.3 مليون ريال عُماني استفاد منها 837 مستفيدًا، يليه فرع الرستاق بإجمالي تمويل قدره 34.58 مليون ريال عُماني لـ 813 مستفيدًا، ثم فرع نزوى الذي قدّم 19.38 مليون ريال عُماني لـ 423 مستفيدًا.

وأكد موسى بن مسعود الجديدي الرئيس التنفيذي لبنك الإسكان العُماني أن هذه التمويلات تأتي ضمن استراتيجيته الهادفة إلى تعزيز الاستقرار السكني للمواطنين العُمانيين عبر تقديم قروض ميسرة بشروط تنافسية تلبي احتياجات مختلف الشرائح، بما يسهم في تحقيق «رؤية عُمان 2040» في قطاع الإسكان والتنمية الاجتماعية.

وأضاف في تصريح لوكالة الأنباء العُمانية أن هذه القروض تغطي مختلف الفئات بما في ذلك الراغبين في شراء منازل أو شراء أرض والبناء عليها أو بناء منزل، مما يمنح المستفيدين فرصًا متعددة لتحقيق أهدافهم السكنية.

وأكد على التزام بنك الإسكان العُماني بمواصلة تقديم الحلول التمويلية المبتكرة التي تدعم التنمية العمرانية في سلطنة عُمان، وتعزز من جودة الحياة للمواطنين، بما يتماشى مع الأهداف الوطنية الرامية إلى توفير بيئة سكنية مستدامة ومتكاملة.

وأوضح أن البنك يعمل على إجراء تحديثات شاملة على خدماته ومنتجاته، مستهدفًا تعزيز وتوفير حلول إسكانية مبتكرة، منوهًا إلى أن البنك يستعد خلال الفترة المقبلة للانتقال إلى مرحلة جديدة من التطوير والتوسع، ويعمل على تحديث منظومته الرقمية وتقديم خدمات إلكترونية متكاملة لإدارة القروض والحسابات بسهولة وأمان.

وقال الرئيس التنفيذي لبنك الإسكان العُماني: إن البنك استطاع تقليص فترة الانتظار بشكل كبير من خلال إعادة هيكلة آليات الموافقات الداخلية وتوسيع فرق العمل المتخصصة؛ مما أسهم في تقليص مدة الانتظار من 4 سنوات إلى مدة لا تتعدى 8 أشهر.

وأشار إلى أن بنك الإسكان العُماني يواصل تقديم الحلول التمويلية الميسرة في مختلف محافظات سلطنة عُمان، بما يضمن تغطية شاملة لاحتياجات المواطنين في كافة المحافظات على حد سواء، موضحًا أن البنك يحرص على توزيع التمويلات بشكل متوازن بين فروعه لدعم الأسر العُمانية لامتلاك المسكن الملائم.

مقالات مشابهة

  • راشد بن حميد: المجالس نموذج للممارسات الاجتماعية الإيجابية
  • المجتمع البشري في عهد النبي إبراهيم عليه السلام.. (لماذا حظر الطغاة ذكر الله وسمحوا باتخاذ آلهة غيره؟)
  • شاهد| معاناة نبي الله إبراهيم عليه السلام من الغربة لحالة الشرك التي وصلت حتى إلى محيطه الأسري
  • مدفع رمضان الحلقة 3: البرنامج الذي يتفوق على المسلسلات ويضج بالفرح والتفاعل الاجتماعي
  • تقرير تركي: رمضان في ليبيا فرصة لتعزيز الروابط الاجتماعي بين المواطنين
  • وزير الأوقاف: رمضان شهر السمو الأخلاقي والصفاء الروحي والاصطفاف الوطني
  • الطبق الذي كان يفضله الرسول عليه الصلاة والسلام
  • لغز حقل عكاز.. العراق بين أزمة طاقة والفساد الاستثماري
  • تكريم بنك الاستثمار العُماني ضمن جوائز منتدى "IFN"
  • بنك الإسكان العُماني يموّل قروضًا سكنية بـ145 مليون ريال في 2024