عرضت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تفاصيل وثائق للخارجية البريطانية، بشأن محاولات رفعت الأسد ، للإطاحة بشقيقه الراحل الرئيس السوري حافظ الأسد عام 1986.

ورفضت لندن حينئذ طلب رفعت الإقامة في المملكة المتحدة، أو التدخل لدى دولة أخرى لمنحه جنسيتها والعيش فيها بشكل دائم، وفقا للوثائق.

وبحسب الوثائق، فإن محاولات رفعت للحصول على دعم بريطاني، ضمن سعيه للإطاحة بأخيه، بدأت منتصف عام 1986، بعد عامين من اختياره العيش

وتكشف الوثائق أن محاولات رفعت للتواصل مع بريطانيا بشأن سعيه لإسقاط نظام دمشق بدأ في منتصف عام 1986، أي بعد عامين من اختيار رفعت، شقيق حافظ الأصغر، وعم الرئيس الحالي بشار الأسد، العيش في المنفى بعد فشل محاولته الانقلاب عسكريا على النظام.




في هذا الوقت كانت العلاقات بين لندن ودمشق تمر بمرحلة وصفها البريطانيون بأنها حساسة. ووضعت الحكومة البريطانية "نظاما صارما يصعِّب إجراءات منح السوريين تأشيرات دخول" إلى بريطانيا.

غير أنه في شهر يوليو/تموز عام 1986، فوجئت الخارجية البريطانية بأن رفعت وصل إلى لندن بجواز سفر مغربي، حسبما تكشف الوثائق.

وجاء في وثائق الخارجية أن باتريك نيكسون، رئيس إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، علم بوجود رفعت في لندن بعد أن اتصل به عضو مجلس العموم جوليان إيميري ليتشاور معه بشأن طلب شقيق الرئيس السوري لقاءه. وأبلغ نيكسون البرلماني البريطاني طلب وزير الخارجية "بأن ينقل إلى رفعت قلق بريطانيا من الطريقة التي جاء بها إلى لندن".

وكان رفعت لا يزال، رسميا، نائبا لرئيس الجمهورية لشؤون الأمن القومي وعضو القيادة القطرية لحزب البعث وقائد سرايا الدفاع.

وبناء على ما سبق، نصح النائب بأن "نطلب منه أن يعود في زيارة قصيرة. وطالما أنه لا يزال نائبا للرئيس، فإن هذا يمكن أن يحدث دون إحراج لعلاقاتنا مع دمشق. ولو كان قد جُرد من وظيفته، لكان طلبنا منه زيارة لندن أكثر إحراجا".


لم يكتف النائب البريطاني بهذا. فقد اتصل، كما جاء في تقريره، بالشيخ عبد العزيز التويجري، مستشار الأمير عبد الله، الذي "كان رد فعله الفوري عما قاله رفعت هو أن الرئيس حافظ ونائب الرئيس رفعت اتفقا فيما بينهما على اتخاذ مواقف تبدو ظاهريا متعارضة، ولكنهما في الواقع متحدان بشكل وثيق".

غير أن وزير الخارجية رد بأنه "سيكون من غير الملائم أن نقبل اقتراح إيميري بأن ندعو رفعت إلى العودة إلى لندن للقاء الوزراء، خاصة عندما تكون علاقاتنا مع سوريا في مرحلة تتسم بحساسية خاصة"، ومثل هذه الزيارة "سوف يساء فهمها في دمشق".

وأضاف "لا أستبعد رفعت كخليفة محتمل لشقيقه" و"وزارة الخارجية السورية أوضحت لنا أيضا أن الحكومة السورية لا تقبل أي مسؤولية عن أفعاله".

وفي لقاء مع إيوان فرجسون، وكيل وزارة الخارجية البريطانية الدائم، كشف السفير المغربي حينذاك مهدي بن عبد الجليل عن أن الجواز أعطي لرفعت "لكونه مصدرا مفيدا بشكل خاص للاستخبارات بشأن ما يحدث داخل سوريا".

كما أبلغ السفير البريطانيين بأن "مسؤولا مغربيا استخباراتيا كبيرا زار لندن للاجتماع مع الأسد خلال زيارته الخاصة الأخيرة إلى بريطانيا".

وقال إن المغاربة يرونه "رئيسا بديلا محتملا لسوريا"، وإن "اثنين من أبنائه مستشاران للملك الحسن، ما يؤكد أهمية العلاقة" معه، وبعد شهرين تقريبا، دعا رفعت إيميري لزيارته في مدينة ماربيلا الساحلية، جنوبي إسبانيا.

وفي تقرير للخارجية البريطانية، لخص النائب ما قاله رفعت بالقول، إن خلافه من النظام خلاف حقيقي فعلا، ومقتنع بأن حافظ الأسد لا يريد سلامتي في حال عدت إلى سوريا.

وقال إنه حريص أن يرى بريطانيا، مشاركة بشكل أكبر وأكثر تأثيرا في الشرق الأوسط، لأن البريطانيين، أنجزوا عملا عظيما بتحقيق استقلال سوريا، عن  فرنسا، وهذا شيء لا يمكن أن ينساه أي سوري وطني أبدا.



وكشف أن السوفييت يسيطرون بشكل تام تقريبا على الاقتصاد السوري، والقوات المسلحة السوري، والسيطرة تتم عبر مستشارين ماليين وتقنيين عسكريين واستخباراتيين، والقليل للغاية يمكن فعله بدون تعاونهم.

ولفت إلى أن أسباب قطيعته مع النظام البعثي تعود إلى أن مبادئ الوحدة العربية والاشتراكية والحرية، أثبتت التجربة أنها تتعارض مع بعضها، خاصة أن العالم العربي، مؤلف من أنظمة راديكالية ومحافظة.

وأشار إلى أن الشيوعيين والسوفييت شنوا حملة عليه، وواصلوها لكي يجعلوا موقفه صعبا، ثم أكد رفعت أنه "بدون دعم السعوديين، لا يمكن أن يبقى النظام السوري على قيد الحياة".

كما قال إن وليا العهد الأردني، الأمير الحسن، والسعودي الأمير عبد الله يعتبرانني خليفة محتملا لرئاسة سوريا.

ورفضت بريطانيا، التعامل مع رفعت خوفا من تأثر العلاقة مع النظام السوري في حينه، ونقل إيميري عنه أنه مصمم على تحرير بلاده من الهيمنة السوفيتية الحالية، وهو ما يعني الإطاحة بحافظ.

ووفقا للوثائق، عبر رفعت عن "أمله واعتقاده بأنه يمكنه الاعتماد على الدعم السعودي، وخاصة من الأمير عبد الله"، وتوقع أن "الدعم المعنوي الغربي سيصنع بالطبع كل الفرق".

واستبعد رفعت طلب مساعدة الأمريكيين، حسب إيميري، وقال إنه "كان حذرا بشأن التوجه نحو الولايات المتحدة"، وهو "لم يكن لديه أبدا الكثير من الثقة في تفكيرهم، وقال إن "الأحداث الأخيرة بشأن مفاوضاتهم مع إيران توحي بتأكيد وجهة النظر هذه".

وهنا تحدث رفعت عن "ترحيب بصلة غير رسمية مع بريطانيا" و "إمكانية القدوم إليها والحصول على إقامة فيها".

فأبلغه إيميري بأن "حجم استثماراته في بريطانيا سوف تؤهل حالته بالتأكيد لأن تدرس بعناية بالغة".

غير أنه نبهه إلى العواقب السياسية المحتملة ورد فعل الحكومة والرأي العام في سوريا على مثل هذا التحرك إن تم، خاصة في ظل قطع العلاقات البريطانية السورية.

فرد رفعت قائلا إن الحكومة السورية "سوف ترى بالطبع مثل هذه الخطوة عدائية للغاية". وأضاف أنه "ليس متأكدا من كيفية تفسير الجمهور في سوريا لها، وأنه لا يزال يدرس الأمر".

وتستعرض الوثائق نقاشا دار داخل الخارجية البريطانية، وآخر داخل الاستخبارات، حول ما هو موقع رفعت عندما يموت الأسد؟، وهل يجب علينا أن نشجع رفعت؟".

وبعد نقاش شارك فيه تيم رينتون، السكرتير الشخصي لوزير الخارجية، اتفق على أن رفعت يشارك في التخطيط مع أصدقاء لإعادة بناء فرصه في خلافة الأسد في الرئاسة.

وقال المشاركون في النقاش: "لكننا نقدر أنه من غير المرجح أن تكون له فرصة كبيرة، بينما يقيم في أوروبا، لبناء التحالفات الضرورية التي يمكن أن تجعله خليفة مقبولا للرئيس الأسد".

وقالت لجنة الاستخبارات المشتركة التي خلصت في تشرين أول/أكتوبر 1986، إلى أنه في حالة وفاة الأسد مبكرا، يبدو أن رفعت ستكون لديه فرصة ضئيلة لتولي السلطة. غير أنه إذا عاش الأسد فترة أطول، وأعاده إلى سوريا، كما تتوقع الشائعات في دمشق دائما، فإنه سوف يعتبر عندئذ منافسا.

وأشاروا إلى أنه ستكون هناك ضرورة لبذل جهد كبير لإعادة تأهيله، فرفعت لديه الكثير من الأعداء الأقوياء داخل القيادة العلوية وخارجها، ورغم انفتاحه النسبي الواضح على الغرب، فهو يُعتبر من جانب الكثيرين في سوريا جزارا شاذ الطباع مفرطا في القتل، ويمكن أن تقرِّب عودتُه سوريا من الحرب الأهلية.

وقالت اللجنة إن هناك حسابات في إسرائيل، بشأن رفعت، ويحتمل أن يكون أكثر خطورة على سوريا، من شقيقه البراغماتي الأكثر قدرة على حساب الحسابات، فضلا عن علامات استفهما بشأن تقلباته المزاجية، والترف والملذات وغرابة الأطوار التي يمكن أن يعاني منها.

وانتهى النقاش البريطاني الداخلي إلى أنه "بينما ينبغي علينا، بالتأكيد، ألا نكون أفظاظا تجاه رفعت، فإن علينا توخي الحذر من أن نرعى رسميا حكومة في المنفى.

وبناء على نقاش اللجنة، قررت الخارجية البريطانية، رفض إقامة رفعت في بريطانيا، لأن مشكلات جدية يمكن أن تحدث للجميع. كما رفضت بريطانيا، مساعدته في السعي للحصول على جنسية دولة أنتيغوا شرقي البحر الكاريبي، التي كانت توصف بأنها ممر بريطانيا إلى الكاريبي.

في الوقت نفسه، نأت بريطانيا بنفسها عن خطة رفعت البديلة الساعية إلى الحصول على جنسية دولة أنتيغوا، الواقعة في منطقة شرقي البحر الكاريبي، التي كانت توصف بأنها "ممر بريطانيا إلى الكاريبي".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات رفعت الأسد بريطانيا سوريا سوريا بريطانيا رفعت الأسد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الخارجیة البریطانیة یمکن أن وقال إن غیر أن إلى أن

إقرأ أيضاً:

سوريا الأسد: ألف ويلة وويلة

إن حكاية "التاجر والعفريت" حكاية عجيبة من حكايات ألف ليلة وليلة، وهي تماثل ما كان يجري في عصر "ألف ويلة وويلة"، عهد الأسدين، الأب والابن وفرع القدس، أو فرع فلسطين، تقول الحكاية: قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان تاجر من التجار كثير المال والمعاملات في البلاد، قد ركب يوما، وخرج يطالب في بعض البلاد، فاشتَدَّ عليه الحر، فجلس تحت شجرة وحطَّ يده في خُرجه، وأكل كسرة كانت معه وتمرة، فلما فرغ من أكل التمرة رمى النواة، وإذا هو بعفريت طويل القامة وبيده سيف، دنا من ذلك التاجر، وقال له: قُمْ حتى أقتلك مثلما قتلتَ ولدي. فقال له التاجر: كيف قتلتُ ولدَك؟ قال له: لما أكلتَ التمرة ورميتَ نواتها، جاءت النواة في صدر ولدي فقُضِي عليه ومات من ساعته. وتتمة الحكاية مشهورة ويمكن الرجوع إليها لن يريد، وملخصها أن التاجر يستأذن العفريت في أداء ديونه ووداع أهله فيمهله بعد أخذ المواثيق عليه، ويعود، فيجد شيوخا ثلاثة يعرفون بحكايته، ويروي كل واحد منهم قصته العجيبة للعفريت شرط أن يهبه ثلث دمه، لكن عفريتنا حافظ الأسد والعفريت الابن لم يكونا يحبّان الحكايات، بل كانا من صناع الحكايات المروعة الماسخة.

يتعجب التاجر من أمر قتله ابن الجني، عجبَ أحد مهندسي شركة "المشاور" الفنلندية العاملة في محطة توليد الطاقة الكهربائية التي عمل فيها كاتب هذه السطور، وذلك أنَّ مديرنا في الشركة طلب طلبا غريبا من أحد مهندسي الشركة المشاورة، وهي شركة فنلندية وسيطة بين الفريقين المتعاقدين؛ الفريق الأول السوري، والفريق الثاني الياباني، وكان أحد شروط العقد أن يكون بينهما وسيط مشاور للرجوع إليه في أمور العقد المختلف عليها. التمس المدير السوري من الوسيط المشاور أن يكلف عمال الشركة السورية بـأعمال حفر وتسجيل قراءات وهمية، ومراقبة آلات تراقب نفسها، أي تكليف السوريين بأعمال سخرة لا معنى لها، إشغالا لهم عن بعضهم البعض، فتعجب المهندس الفنلندي وقهقه ضاحكا عندما أدرك غاية المدير العجيبة، وتعجب عجبا يشبه عجب التاجر آكل التمرة وقاذف نواتها التي قتلت ابن الجني، وأبى وقال: افعل أنت ذلك، هذا ليس من شأني!

لم يكن العفريت السوري يتعزى بالحكايات مثل عفريت حكاية ألف ليلة وليلة الثاكل، لكن طريقته في الاعتقال والتهمة تشبه هذه الطريقة، وهي تهمة القتل بنواة تمرة طائشة في صحراء خالية
انتشرت لوحات من مرايا وبقعة ضوء تروي حكايات أمراء فروع أمن يعاقبون عناصرهم (والعناصر لفظ يشمل المجندين والمخبرين) بتفريغ بركة السباحة في فيلا رئيس الفرع من الماء بملعقة الطعام، أو أكل البصل بقشره، أو حفر بئر ماء بإبرة، أو دفع حائط وإزاحته عن مكانه، وكأنه حائط من فلين على عجلات، أمر يشبه تكليف مديرنا عمال الشركة بالتنقيب عن معدن الجلجليوم، أو يشبه لبوث عفاريت النبي سليمان في العذاب المهين.

لم يكن العفريت السوري -وهو كناية عن السجان والمحقق وفرع الأمن-يحبُّ سماع الحكايات، فهو صانعها، ولم يكن ثمة تمر في سوريا، ولا راحة لمسافر أو مقيم، وقد شحَّ التمر منذ تولي الأسد زمام السلطة والحكم في سوريا، فانقطع وروده من العراق والخليج، وغلا سعره، وشرف كثيرا، فبتنا لا نراه سوى في رمضان، ربما كان العفريت السوري في بعض الأحوال يقبل الفدية، إن كان المتهم بريئا، خالص البراءة.

لم يكن العفريت السوري يتعزى بالحكايات مثل عفريت حكاية ألف ليلة وليلة الثاكل، لكن طريقته في الاعتقال والتهمة تشبه هذه الطريقة، وهي تهمة القتل بنواة تمرة طائشة في صحراء خالية، بل إن كاتب السطور وجد نفسه في مأساة "نووية" -نسبة إلى نواة التمرة- عندما كان واقفا على الطريق في مدينة سورية نائية وفقيرة اسمها القامشلي، فمرت به سيارة حديثة فاخرة، لم يرَ مثلها في البلاد، فجحظت عيناه من شدة العجب، فلحظ السائق عجبه من وراء زجاجها المضبب بغشاوة ساترة، وكان عجبه ممزوجا بالإنكار والاحتقار، فنزل السائق وهو يحمل سلاحه مهددا، وقال: "على ايش عم تتطلع اولاه"؟ فأيقن بالهلاك، وجفَّ ريقه من الخوف، والتصق لسانه بحلقه، لولا أن تداركته رحمة ربه فقال: مبارك عليكم السيارة الغريبة الحلوة.

وله واقعة أخرى عجيبة، وهي أنه كان في عمله، في يوم عطلة، والشركة هي شركة إنتاج كهرباء، وهي لا تُعطل في أيام الأعياد والعطل الرسمية، فوجد الحرس يستدعيه من أجل حل مشكلة رجل يدعي أنه من حرس الشرف الرئاسي، ويريد مقابلة المدير بحثا عن عمل، وظهر له أنَّ الرجل قد فقد عقله، وكان يبرز صورة له وهو في زي الحرس الرئاسي، فتخلص صاحب السطور منه بأن تصدق عليه ببعض المال كي ينصرف ويكفَّ عن الإلحاح، فوجد كاتب السطور نفسه في اليوم التالي مدعوا إلى التحقيق في فرع أمن الدولة، لأنه أحسن إلى رجل مشبوه ومطرود، أمر يشبه قذف نواة تمرة على ابن العفريت وقتله بها!

روى لي أحد معارفي المحررين من قماقم الأسد، وكان قد قضى في السجن 12 سنة، بتهمة متابعة قنوات فضائية مغرضة مثل الجزيرة والعربية، وكان ينقل الأدوية للجرحى، وظن أنهم عرفوا بأمره، لكنه اعتقل بتهمة أخرى، وهي التهمة المذكورة، فرجال الأمن والمخابرات من هواة الصيد، وطرائدهم هي البشر، والاعتقال مهنة و"بيزنس"، واستفداء وديّات، ولعلهم يريدون أمرا آخر غير التربح، وهو الترعيب والترهيب.

السوريون لم يكن لهم عقد اجتماعي أو سياسي ظاهر مع النظام الحاكم، وإنَّ أكثر ما شكا منه السوري هو جهله بالحرام والحلال السوريين، ولم يكن يميّز الخط الأبيض من الخيط الأسود من ظلام البعث، ولو عرفه السوري لنجا أو تحرز منه
وكان من المحررين من سجون النظام الساقط رجل اعتقل على حاجز لأنه من قرية أبو الظهور، وهي منطقة طيران عسكري، فاتهموه بسرقة طائرة وإخفائها في البستان وسط الأشجار بعد جرِّها بجرّار زراعي! واعتقل آخر بتهمة سرقة دبابة، وثالث بتهمة سرقة كابلات ألياف ضوئية، مع أن استخراجها من جوف الأرض بغرض بيعها يكلف السارق أكثر من أرباح البيع، وقد اعتقلت أسر بأكملها نساء وأطفالا وشيوخا كرهائن، للمبادلات مع أسرى الجيش الحر.

لم أقرأ عن تعذيب أطفال أو اغتصابهم في السجون النازية أو محاكم التفتيش الإسبانية في الأندلس، ولم أرها في الأفلام التي تقبّح النازية تقبيحا شديدا، لكنها شائعة في سجون الأسد. ومن المعروف أنّ الصبية طل الملوحي اعتقلت دون سن البلوغ العالمي، لإرسالها رسالة مفتوحة على صفحتها إلى الرئيس الأمريكي، فهي لا تعرف عنوان أوباما، وأوباما لا يقرأ بالعربية، وخرجت مع المحررين بعد 14 سنة. أما تهمة الاعتقال بتحفيظ القرآن، فهي تهمة معقولة ومفهومة، وليست تهمة خيالية. وأعرف شخصين عادا من السعودية بعد غياب طويل، وخطر لأحدهما أن يرفع شاخصة على الطريق من حمص إلى دمشق فيها دعوة للمسافرين بذكر الله، كتب عليها: لا تنسَ ذكر الله، فاعتقلا، وهي تهمة سببها الجهل بالقوانين الخفية للحكم. فالسوريون لم يكن لهم عقد اجتماعي أو سياسي ظاهر مع النظام الحاكم، وإنَّ أكثر ما شكا منه السوري هو جهله بالحرام والحلال السوريين، ولم يكن يميّز الخط الأبيض من الخيط الأسود من ظلام البعث، ولو عرفه السوري لنجا أو تحرز منه.

كانت فروع الأمن والحواجز شبكات صيد، وكانت سوريا بركة، تعكر ماؤها بالقوانين غير المعلومة، كما تعكر بركة المياه الراكدة حتى يضطرب السمك ويسهل صيده، والسمك هو الشعب.

ومن قصص الاعتقالات الغريبة، التي تشبه حكايات ألف ليلة وليلة، أنَّ شابين يعملان في مكتبة، اعتقلا لأنهما طبّعا وعرضا للبيع خريطة عليها مواقع أثرية، تسهيلا للسائحين الأجانب، ولم يكونا يعلمان أنهما يحركان مياه التاريخ الراكدة، والتاريخ عدو الطغاة، فالطغاة يخافون الذكريات. وروى أحدهما لي بعد أن خرج أنَّ القاضي قضى على أحدهما -واقفا في ممر المعتقل، وليس في محكمة- بثلاث سنوات، والآخر بخمس، تضليلا وتمويها، وقال مبررا لهما عدم المساواة والعدل بينهما: حتى نجعل الناس محتارين في القوانين، ومدد العقوبات.

وكان ذكر اسم الدولار-عملة أمريكا العدو في الأدبيات السياسية- تهمة، فهي عملة قوة، فكان الناس يسمون الدولار "الشو اسمو"، مثل تكنية مرض السرطان، وقد اعتقل كثيرون لذكره، أو لحمل قطعة نقدية تعادل مائة دولار، فانتهوا وراء الشمس، في الثقب الأسود.

ومن ظرف بعض رجال الأمن أن فرعا أمنيا احتجز رجلا استلم حوالة قدرها مائة دولار، وهو من الغوطة، فحقق معه مدة 140 يوما، وعرض عليه المحقق ثلاث تهم (كما في برامج المسابقات؛ الانضمام لجماعة مسلحة، تمويل الإرهاب، القتل والقصف)، ورقَّ له الضابط ونصحه باختيار تهمة التمويل، فحكم عليه بما حكم، وهو السجن والنسيان.

وروى أحد المحررين أن رجلا أعمى اعتقل بتهمة قناص، أما أعداد المسيحيين المتهمين بالانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين فهي غير قليلة، وأحدهم هو من شخصيات رواية القوقعة، وهي رواية تسجيلية. واعتقل شاب لأنه خاطب صاحبه مازحا: يا كبير، وهما يمران بجانب الحاجز، واعتقل آخران لأنهما تصورا صورة بجانب الحاجز، فالحاجز أمن قومي، وعورة.

روت محامية أنها رأت وهي مسافرة إلى روسيا شبابا من سوريا هيئاتهم حسنة، وصحتهم جيدة، على الخطوط الجوية الروسية، واستطاع أحدهم أن يهمس لها طالبا منها إخبار أهله، أنهم معتقلون مخطوفون من أجل سرقة أعضائهم، وهذا يعني أنّ مقابرنا الجماعية المكتشفة، والمستترة، لا تضم رفات كل المفقودين، فثمة قبور بجانب الحواجز، وهي بالآلاف، وثمة قبور خارج البلاد، وثمة أجداث في بطون الأسماك.

وهناك قصة مشهورة عن أم حموية، خُيّرت أن تختار واحدا من أبنائها السبعة، وهذه القصة تظهر أنَّ الطغاة يميلون إلى الفكاهة السوداء والتسلية الدامية. وروى لي أحد معارفي قصة من الثمانينيات، عقب مجازر حلب في حي المشارقة، أنهم قتلوا عضوا من الإخوان المسلمين، وجمعوا أهل الحي وأمروهم أن يمروا به ويبصقوا عليه، وإنّ أحد هؤلاء وقف أمام الجثة، ولهول الموت وهيبته، وقسوة القتل، جفَّ ريقه، فلم يستطع أن يبصق، فاعتقل مدة 12 سنة. أما صديقي الرسام حسن إدلبي، فروى لي أنّ توأمه حسين خرج في أوائل الثمانينيات منتعلا خفا رياضيا، فاعتقله حاجز، وخرج بعد عدة أشهر لشجاعة أمه، ورشى أغدقوها على ضابط رفيع الشأن، وإلا كان ضاع في تدمر.

قصة نواة التمر هي قصة أقدار أيضا، فالمرء لا يدرك ما تخبئه له الأقدار، وهذه أخبار جمعتها من غير جهد كبير، ولو أنى أنشأت صفحة وصبرت عليها، لجمعت أخبارا، وعملت مصنفا
وعلمت من الأخبار التي رواها لي صديق أنَّ قريبا له، كان يخدم العلم (وهي تسمية رسمية للخدمة العسكرية، والخدمة سنتان أو أكثر من الذل والجوع)، اعتقل هو وسبعة من زملائه، وكانوا جميعا من المدللين والمحظيين، وهم من أبناء كبار القوم، ولم يعرف أحد سبب اعتقالهم إلا بعد أربعة أشهر من التعذيب. وعلم صاحبنا أنَّ سبب الاعتقال، هو أنّ أحدهم وشى بهم، وكان بلغهم نبأ موت ناعسة أم الرئيس، فقال محتجا، وكان قد حصل على إجازة، ألغيت بموتها: ما عرفت تموت إلا بإجازتي! والوحيد الذي خُفف عنه العذاب، هو الذي روى القصة، وكان أقلهم عذابا لأنه لام صاحب الإجازة على قوله ونَهَره ووبخه. وقرأت في نشرة كلنا شركاء أنّ كاتبا اعتقل مدة ستة أشهر لأنه كتب قصة رمزية عن كلاب تعض البشر، فسرها الأمن بأدوات التحليل النقدي، أنه يقصدهم بها.

قصة نواة التمر هي قصة أقدار أيضا، فالمرء لا يدرك ما تخبئه له الأقدار، وهذه أخبار جمعتها من غير جهد كبير، ولو أنى أنشأت صفحة وصبرت عليها، لجمعت أخبارا، وعملت مصنفا، كمصنف "المستطرف في كل أمر مستظرف" للأبشيهي، يكون عنوانه: المستبشع في كل فنٍّ مستفظع.

وأختم بخبر من تجاربي وخبراتي، أني عندما زرت البحر أول مرة، حيث يكثر العلويون، فوجدت خليجيا سائحا يريد أن يشتري بعض اللحم المشوي، فأبى البائع، وقد عرفه من زيه ولهجته، أن يبيعه، لأنه من الخليج وطرده من محله قائلا: أنتم رجعيون وأذناب الإمبريالية، فتعجب الخليجي السائح، وتقهقر وهو يدمدم غضبا وحنقا وغيظا، وهممت بأن أعتذر للسائح الخليجي عنه، وعن السوريين، لكني جبنت وخشيت أن يكون مخبرا متنكرا.

ثمة حديث نبوي يقول: ادرؤوا الحدود بالشبهات، أما القاعدة القانونية والأمنية السورية البعثية الأسدية فكانت: أقيموا الحدود بالشبهات. والعمل بنقيض الآية: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ"، وتقول شهادة للقاضي الشرعي محمود معراوي إن الآية تليت على بشار الأسد، فقال: بل سأزر.

يمكن أن نقول بعد زوال الغمّة، وتحرر هذه الأمة، ونحن نروي قصصا شبيهة بالقصص الخيالية في ألف ليلة وليلة: إنّ الجني السوري خرج من قمقم لبث فيه نحوا من نصف قرن، فأبشروا بالخير تجدوه.

x.com/OmarImaromar

مقالات مشابهة

  • الفنانة ليلى عز العرب تتعرض لحادث سير
  • بريطانيا تكشف عصابة تجسس روسية في الحكومة البلغارية
  • الوفد الروسي أكد دعمه لسيادة سوريا وسلامة أراضيها
  • في عهد الأسد.. لجنة التحقيق الدولية تكشف عن جرائم ضد الإنسانية في سوريا
  • صورة لأسماء الأسد.. بريطانية تروي تفاصيل لقطة "سيدة الجحيم"
  • كاتبة بريطانية تتفاجأ بصورة لها مع أسماء الأسد.. وصفتها بـسيدة الجحيم
  • زيادة مظاهر الفقر وأزمة السكن في بريطانيا.. وحكومة العمال تداوي الجروح برفع الضرائب!
  • سوريا الأسد: ألف ويلة وويلة
  • إلهام الفضالة تكشف تفاصيل تعرضها للسرقة في لندن
  • وزير الخارجية التركي: لا مكان للإرهاب في سوريا